خلال معارك نهر البارد أقفلت سورية الحدود من دون نشر قوات واليوم تنشر قوات خاصة «لمنع التهريب» بدون إقفال الحدود

دمشق بين استراتيجية الدرع واستراتيجية السيف

TT

لمعرفة اسباب الانتشار السوريّ على حدود لبنان الشماليّة، لا بد اوّلا من معرفة الشخصيّة السياسيّة السوريّة، خاصة خلال فترة حكم الرئيس الراحل حافظ الاسد.

لقد عرف الراحل موقعه جيّدا في اللعبة الدوليّة، كما الاقليميّة. كذلك، عرف العدوّ الدائم والصديق الموقت. عرف الرئيس الراحل موازين القوى القائمة بكلّ دقّة، فتعايش معها، وعمل بصبر كي يُعدّلها. لكنه عرف بالعمق، ان تعديل الموازين لا يعني النصر حتما على العدوّ، لا بل، ينحصر التعديل، بحفظ حقّه في المشاركة في القرارات المهمّة. وإذا كان لا يمكن المشاركة في القرارات المهمّة، كان يُمرّر الرسالة على انه قادر على التعطيل.

غيّر الرئيس الراحل مقولة «الصراع على سورية»، حسبما قاله الكاتب الإنجليزي باتريك سيل، إلى واقع جعل سورية محور الصراع في المنطقة، فبدت بذلك، اكبر بكثير من قدرتها الفعليّة.

واعتمد حافظ الأسد استراتيجيّة كبرى، نظرا لمحدوديّة قدرات سورية الاستراتيجيّة، تقوم على بُعدين اساسيّين هما: اعتماد استراتيجيّة الدرع، واستراتيجيّة السيف: ـ تُعتمد استراتيجيّة الدرع عندما تعمل سورية في واقع ومحيط لا يناسبانها لتحمي نفسها. فتتّكل خلال هذه الفترة وفق استراتيجيّة المفّكر ليدل هارت الانجليزي على قوى بديلة من خارج إطار الدولة. بذلك، تنفي مسؤوليّتها وتُدمي الآخر. حصل هذا الامر خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان العام 1982 وبعده.

ـ أما السيف، فهو عندما تستطيع سورية قلب زخم الخصم لمصلحتها، وبعد ان تُدميه عبر استراتيجيّة الدرع. عندها يكون الانقضاض لتوجيه الضربة النهائيّة. هكذا فعلت مع اسرائيل بٌعيد اجتياحها للبنان: الدرع عبر دعم المقاومة وخلق حزب الله. اما السيف، فقد كان عبر العودة العسكريّة إلى لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي، ليٌسقط هذا الدخول اتّفاق 17 أيّار. وفتحت هذه الاستراتيجيّة الباب واسعا امام سورية لتسيطر على لبنان، حتى العام 2005 عام الخروج. وقد عانت سورية بعد الخروج ازمات حادة كانت كلّها تهدف الى اضعافها وتغيير سلوكها، وإذا اُضطّر الامر تغيير النظام. عندها، عاد الرئيس الابن إلى إرث والده، ليعتمد الاستراتيجيّة نفسها. فهو حمى نفسه ونظامه وسورية عبر استخدام الدرع. فهل ما نراه اليوم من نشر لقوى عسكريّة على حدود لبنان الشماليّة يُمثّل البُعد الثاني من الاستراتيجيّة الكبرى، أي السيف؟

لا بد من الاشارة الى ان سورية تقول ان نشر هذه القوّات هدفه منع التهريب، ومنع تسلّل السلفيّين. وهي ابلغت بذلك مسبّقا قيادة الجيش اللبنانيّ، بحسب بيان قيادة الجيش. لكن منع التهريب، لا يستلزم هذا العدد، وهذه النوعيّة (قوّات خاصة). كما ان منع السلفيّين من التسلّل إلى سورية هو حقّ لسورية ايضا. لكن التجربة علّمتنا ان قتال الارهاب يكون كالآتي: يتطلّب استعلاما، كما يستلزم قوى غير القوات الخاصة، عادة الشرطة.

يذكر أنه خلال احداث نهر البارد، اقفلت سورية الحدود، لكنها لم تنشر قوى نظاميّة بهذا العدد وهذه النوعيّة. واليوم، تنشر سورية هذه القوات لكن دون اقفال الحدود، مع ارفاق الأمر بالعلنيّة والتغطية الاعلاميّة الكثيفة.

ويبقى السؤال «الحارق»: هل ستدخل سورية لبنان؟

في الظروف الحاليّة، يمكن القول لا. فالظروف الدوليّة، كما اللبنانيّة لا تسمح بالدخول كما حصل في العام 1976 في إطار مشروع كيسنجر. كما ان الدخول العسكريّ يُحتّم حشد قوى مختلفة في الطليعة من مدفعيّة ومدرّعات وذلك وفق مذهب القتال الشرقي الذي تعتمده سورية. وأخيرا وليس آخرا، الدخول العسكريّ يستوجب اضواء خضراء من الكثير من الدول في مقدمها اسرائيل واميركا. كذلك، يتطلّب سببا مقنعا، كتدهور الوضع الأمنيّ في لبنان تدهورا كليا.

فما هو الهدف من الانتشار العسكري اذاً؟

قد يعود الهدف الى اسباب سوريّة داخليّة، أو عدم رضى دمشق عمّا يحصل في الداخل اللبنانيّ، فهل هي مُستبعدة اليوم عن ديناميّة المصالحات؟ وما معنى استقبال قيادات لبنانيّة الامر الذي يتناقض مع مبدأ فتح السفارات؟

هل هي رسالة لمن يعنيهم الامر، ان الانتشار في شمال لبنان، قد يتكرّر في شرقه؟ وهل هناك شيء ما إقليميّ قد تبدّل مع ايران (بدء تباين الاجندات؟) وهل تختبر سورية ردّ فعل المعنيّين من فرنسيّين وعرب وأميركيّين لتعرف المدى الممكن ان تصل إليه في سلوكها؟ لكن نظرة من فوق الى ما يجري في المنطقة والعالم، تجعلنا نستنتج ما يأتي:

> أميركا وإسرائيل في شلل سياسي > روسيا فتحت أبواب الصراع على قيادة العالم بعد الحرب على جورجيا > خيارات الدول الصغيرة أصبحت متعدّدة > الضغط على سورية تراجع، وأصبح الوقت يعمل لمصلحتها.

فهل تختبر سورية، وتحضّر ارضيّة اتخاذ قراراتها لمرحلة ما بعد بوش؟ ربما. وهل هي تُجمّع اوراق القوّة؟ ربما. وهل لبنان يدخل في ذلك؟ بالطبع، فسورية دون لبنان هي لاعب عاديّ، ومعه هي لاعب اقليمي مهمّ ومؤثّر... لكن الاهمّ يبقى ما سيفعله اللبنانيّون. فهل ستتم المصالحات بصدق، ام انها وكما يُقال بالعاميّة ستبقى «ضحكا على الذقون؟».