رحيل الفقيه محمد بنبين جليس ومؤنس الملك الحسن الثاني

كان عين الملك الراحل على واقع اجتماعي متحول واستمرارا لتقاليد السلاطين

TT

بوفاة الفقيه محمد بنبين، المؤنس الذي رافق الملك الراحل الحسن الثاني على مدى 33 سنة، لم يفارقه خلالها، إلى آخر لحظة في حياته، فقد المغرب منذ ثلاثة أيام، طرازا فريدا من العلماء ورواة الشعر والقصص وحفظة القرآن والأحاديث والأمثال والنوادر، من وهبهم الله الذكاء الحاد والموهبة والفطنة وقوة الذاكرة. وتلك بعض صفات امتاز بها بين أقرانه، الفقيه الذي ولد بمدينة مراكش عام 1922 اكتشفها الملك الراحل في جليسه، إثر لقاء بينهما بحضور آخرين، رشحوا ليكونوا جلساء الملك والمروحين عن أعبائه، بعد اجتيازهم الامتحان.

ويروى أن الملك الراحل، أعجبته في بنبين، الصراحة والجرأة وعدم تهيب الجلوس في حضرته، فضلا عن حضور البديهة وقوة الحافظة، فقرر استبقاءه وضمه إلى مجلسه، فمكث إلى جواره منذ اللقاء الأول، دون أن تفسد العشرة بين الفقيه والملك، الذي سيتحول مع مرور الزمن إلى صديق ورفيق للملك الذي كان محباً للسهر إلى آخر الليل، حيث يحلو له أن يقرأ الكتب ويناقش جلساءه ومحاوريه في محتوياتها، بل يدخل مع بينين، الجليس الأثير في مساجلات أدبية، يتبادلان قرض الشعر ويتنافسان في الإتيان بالأجود من المعاني والألفاظ، يستعين الواحد منهما بذوق الآخر وقدرته على تمييز المعاني وتفضيل الصور والأخيلة الشعرية لإكمال منظومة بدأها أحدهما.

ولا يذكر المغاربة أسماء باقي المؤنسين الذين استأنس بهم الملك الحسن الثاني، خلافا لاسم بنبين الذي سار على كل الألسنة، كرجل ظرف وفكاهة ونفس مرحة وذهن يقظ، استطاع بتلك السجايا أن يكسب ود وثقة ومحبة الملك الحسن الثاني.

ليست تفاصيل العلاقة بين الملك والفقيه، مدونة، باستثناء لحظات رواها الفقيه إلى الصحافة المغربية، بعد خروجه من القصر الملكي، بحكم سنه المتقدمة، على اعتبار أن أية معلومة تندرج ضمن الحياة الشخصية للملك، وبالتالي ليس من اللياقة روايتها وترويجها بين الناس، ما جعل خيال الرواة، ينسجون قصصاً وحكايات يضيفونها إلى ما تسرب ووصلهم من أصداء عن ما دار بين الملك ومؤنسه خلال ليال طوال وسهرات ممتدة، وراء أسوار القصر حيث يكون الكثيرون يغطون في سبات عميق. لكن تلك العلاقة تؤشر إلى بضعة أشياء، بينها أن الملك الراحل كان حريصاً على المحافظة على الكثير من التقاليد الإيجابية التي ورثها عن أسلافه مثل مجالسة العلماء والفقهاء والشعراء وحتى المسلين خفيفي الظل، يتجاذب معهم أطراف الحديث، لكن المهم أن هؤلاء الوافدين على القصر عند الطلب، كانوا في الغالب متمتعين بذكاء وفطنة وحاسة سخرية اجتماعية قادرة على التقاط تفاصيل حياة الناس ولا سيما الفئات الشعبية حيث تكثر المعاناة والشكوى من تكاليف العيش وأعباء الحياة، وفي نفس الأوساط تنتشر النكات الواضحة والمرموزة التي توجه سهام النقد إلى الحاكم وتبصره بأحوال الرعية.

جمع بنبين بين سعة الاطلاع والقدرة الفائقة على التقاط مناحي الحياة الاجتماعية، وتقديمها للملك في حكاية بهية، زاخرة بالمعاني والدلالات، فتصل رسالته بسهولة ويدرك الملك غاية الراوي.

وتدل كتب التاريخ أن كثيرا من المؤنسين قاموا بدور صلة وصل بين الحاكم وشعبه، يروون له مشاهداتهم المستمدة من الطبيعة الحية، يجوسون الأحياء والحواري والأزقة، بحثا عن الأخبار والنوادر والمغربات التي يعتقدون أنها بقدر ما ستؤنس الحاكم وتسعده، فإنها تنبهه إلى حقيقة ما يمور في المجتمع. وفي تلك المهمة، تبارى المؤنسون والجلساء، منهم من خلد اسمه ومنهم من طواه النسيان.

وفي هذا السياق، فإن استمرار العلاقة الوثيقة بين الراحلين الملك الحسن الثاني والفقيه بنبين، مثيرة للدهشة والإعجاب والتساؤل، إذ لم يكن الملك إنسانا عاديا يستطيب النكتة المتداولة، ولذلك فإن انتزاع الابتسام والرضى منه كان أمراً عسيراً، لا يناله إلا الموهوبون القادرون على ابتداع المواقف المسلية، يمزجون الخيال بالواقع. والأكثر من هذا أن الملك كان محباً للقراءة والمطالعة في شتى أصناف الثقافة، يعود إلى المصنفات القديمة ويستعين بأمهات المصادر في مجالات الأدب والتاريخ والفقه والفلسفة، مثلما كان حافظا ذواقا للشعر العربي، مطلعا على ديوان العرب، يميز بين شعرائه الكبار. هكذا وجد الملك الحسن الثاني في بنبين، خريج كلية بن يوسف العتيدة، ورفيق الشعراء أمثال محمد بن ابراهيم، الملقب بشاعر الحمراء، وجد فيه نصفـــه الثـــاني المكمل له، فدامت وطالت العلاقة بين الإثنين، لم يفســــدها طارئ على ما يبدو، رغم أن تلك الرابطة تعرضت لامتحان عسير، فقد حدث أن أحد أنجال الفقيه بنبين، وكان ضابطا في الجيش، غرر به فتورط في المحاولة الانقلابية الدموية التي استهدفت نظام الملك الراحل. صبر الفقيه وتحمل الألم، ولم يفاتح الملك أبدا في ما اقترفه ابنه، ليصفح عنه، بل ترك القضاء العسكري يأخذ مجراه، فحوكم الولد بعقوبة قاسية، أمضى جلها وراء أسوار المعتقل.

والمؤكد، أن تلك التجربة الدرامية، أقنعت الملك بصدق وإخلاص وسمو أخلاق مسامره وجليسه، فتوطدت العلاقة بينهما، لا يفارقه حيثما حل وارتحل في الداخل والخارج. إنها قصة مثيرة حقا، ذهب بطلاها إلى دار الخلود، ولم يتركا إلا النزر اليسير من فصولها الطويلة وأطوارها المشوقة. ليرحمهما الله.