استمرار نزيف العقول في العراق.. وعدد المغادرين يفوق العائدين

رغم مساعي الحكومة لتشجيع عراقيي الخارج على العودة

لاجئون عراقيون لدى وصولهم الى مطار بغداد قادمين من القاهرة ( أرشيف «الشرق الأوسط»)
TT

جلس ناجي شاكر على فراش مهلهل بينما كانت زوجته وابنتاه يجلسن على آرائك رثة، وتكدست الكراسي داخل الغرفة، التي اشتملت على بعض الإشارات على طبيعة حياة الأسرة، فعلقت بعض الصورة الشخصية على حيطان الغرفة، وكان هناك جهاز تلفزيون وكتب، بالإضافة إلى مقتنيات بسيطة على رفوف علتها الأتربة. قامت العائلة ببيع كل شيء تقريبا، عدا منضدة يمكنها طيها وكراسي موجودة في المطبخ، حتى يتسنى لها الرحيل سريعا إذا ما جاء أحد لاستئجار منزلها المكون من طابقين في تلك المنطقة من بغداد التي تنعم بأمان نسبي. ففي الوقت الذي تحث فيه الحكومة العراقية مواطنيها على العودة ويؤكد فيه الجيش الأميركي على المكاسب الأمنية التي حققت في مختلف أنحاء العراق، ترغب عائلة شاكر في الرحيل، فهم يرون أن لا مستقبل هنا للعراقيين من أمثالهم، المتعلمين الأغنياء العلمانيين أو غير المسلمين. ويعد رحيل المواطنين مشكلة كبرى تواجه العراق، الذي يعاني من نزيف في العقول على مدى الخمسة أعوام الأخيرة والذي يكابد لجذب الحرفيين والمتعلمين للعودة إليه. وفي يونيو (حزيران)، قامت الحكومة برفع رواتب الموظفين المدنين بنسبة 50 إلى 75 في المائة لجذب الموظفين، مثل المدرسين والأطباء، على العمل لدى الدولة، وكان الكثيرون منهم قد سُرِّحوا في أعقاب الغزو الذي تزعمته الولايات المتحدة عام 2003 والذي أطاحت خلاله بصدام حسين. وتقول وزارة الهجرة والمهجرين العراقية إن عشرات الآلاف من المواطنين قد عادوا إلى البلاد منذ الخريف الماضي. ومع ذلك، فقد هاجر أكثر من 2.5 مليون عراقي، وما زال الأمر مستمرا، وتعتقد قيادات سياسية وتجارية أنه ستكون هناك حاجة إلى أعوام كثيرة قبل أن يتم تعويض الخسائر في المهنيين والحرفيين. ويقول مكتب المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إنه سجل أعدادا على المعبر الحدودي الرئيس الذي يربط بين العراق وسورية في الفترة من يناير (كانون الثاني) حتى يوليو (حزيران) من العام الحالي، وانه وجد أن عدد الراحلين يفوق عدد الوافدين بـ7.200 شخص. ويقول البعض إن سياسة أميركية جديدة تفتح الباب أمام المزيد من اللاجئين العراقيين كل عام تسببت في تفاقم الأمر. ويقول رعد عمر، رئيس غرفة التجارة والصناعة العراقية الأميركية في بغداد: «يأتي ذلك بنتائج سلبية، فهم يحاولون بلوغ غايتهم من ناحية بأخذ العراقيين إلى الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى، يحاولون تحقيق استقرار في العراق وتحسين الوضع الاقتصادي وغير ذلك، وهجرة العراقيين المؤهلين لن تساعد على تحقيق ذلك».

ويشير مصطفى الهيتي، عضو البرلمان ورئيس لجنة الصحة، إلى أن أكثر من 7000 طبيب قد تركوا العراق، من بينهم فعليا كل من لديهم خبرة تبلغ 20 عاما أو أكثر، مضيفا أن نحو 600 قد عادوا، ولكن ليس من بينهم المتخصصون المميزون الذين تحتاج إليهم البلاد. وفي وزارة التعليم العالي، تقول المتحدثة باسمها سهام الشجيري إن 6700 أستاذ جامعي قد غادروا العراق، عاد منهم 150 أستاذا فقط، فيما قُتل نحو 300 أستاذ. واعتاد شاكر تحقيق كسب جيد من خلال عمله في التخليص الجمركي، ولكنه اضطر إلى إغلاق محله بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003 بسبب مخاوف أمنية. وقامت العائلة بتهريب ابنها خارج البلاد في عام 2005 بعد تعرضه لمحاولتي اختطاف. وعندما تنظر إلي سيارة العائلة تجدها مملوءة بآثار طلقات الرصاص في عمليات إطلاق نيران عشوائية في شوارع بغداد، كما لحق الدمار بمنزل العائلة في حادث تفجير سيارة. قال شاكر وهو يشاهد التلفاز: «لا يوجد من يدافع عن العدالة هنا، فأنت تعيش حسب ما توفره لك الفرصة المتاحة، ويمكن لأي شخص القيام بأي شيء».

ومع أن الوضع الأمني في العراق قد تحسن، ما زال الحرفيون أهدافا لعمليات اغتيال ينفذها متطرفون، ينظرون إليهم على أنهم موالون للغرب أو ملحدون. أضف إلى ذلك، فإن السلطة في العراق في أيدي الشيعة المحافظين، ولا توجد أية بوادر لتغيير هذا الوضع في أي وقت قريب».

وحتى عند انعقاد الانتخابات المحلية في بداية العام المقبل، والتي يُنظر إليها على أنها مفتاح للوصول إلى توازن في السلطة بين الشيعة والسنة والأكراد والآخرين، فإن الأحزاب الموجودة في السلطة في الوقت الحالي سوف تكون في القمة مرة أخرى، ويرجع ذلك إلى عدد مؤيديهم وقدرتهم على استمالة الناخبين الذين يتأثرون بالقضايا الدينية. وينتظر قانون انتخابي جديد الموافقة النهائية، ومن شأنه أن يعالج هذا الوضع عن طريق منع استخدام الرموز والصور الدينية خلال الانتخابات. ولا يشجع ذلك هذا السيناريو المسلمين المعتدلين من أمثال علي، الذي يبلغ من العمر 26 عاما وقد حصل على درجة طبية ويأمل في السفر إلى الولايات المتحدة، في ظل ضعف البنية التحتية داخل العراق وغياب الثقة في تحقيق استقرار داخله. يقول علي، الذي طلب عدم ذكر اسم العائلة حتى لا يتسبب ذلك في مشاكل بينه وبين صاحب العمل: «لا يوجد شيء مضمون، تلك هي المشكلة، فهنا كل شيء ممكن، ولكن بصورة سلبية».

ويقول أياد عبد العامر، وهو مهندس كهرباء: «حتى لو كان هناك أمان، فالخدمات غير متاحة، وهذا ما يجعل الحياة صعبة». ويضيف علي، وقد بدا الغضب عليه وهو يتحدث: «عند خطوط توزيع الغاز، تجد المواطنين جالسين هناك لساعات وساعات، كما لو كانوا موتى»، واصفا المشاكل المتنامية التي تواجه العراق بأنها مرض سرطاني في مرحلة متقدمة. وقد عاد أياد عبد العامر إلى العراق في ابريل (نيسان) بعد قضاء عام خارج البلاد، ولكنه لا ينوى البقاء في العراق، عاد لأن طلبه للحصول على تأشيرة عمل قد رفض في سلطنة عمان ولأنه يحتاج إلى إصلاح منزله الذي نالت منه قذائف الهاون قبل عودته بشهرين. كما عاد أحمد فرحان، الذي يعمل طاهيا في اسكتلندا، لأول مرة خلال 14 عاما هذا الشهر ولا يطيق الانتظار للرحيل مرة أخرى، ومع أنه من الشيعة، فإنه وجد جوا عاما من النزاع ولا يريحه مشهد رجال الشرطة المسلحين والجنود المنتشرين في زوايا الشوارع. يقول أحمد، تعليقا على فكرة أن العراقيين المتعلمين من أمثاله هو الأمل الأمثل لمواجهة نزيف العقول: «تلك معركة خاسرة». وتقول المتحدثة باسم وزارة التعليم العالي سهام الشجيري، إن الوزارة قد حصلت على مئات من رسائل البريد الإلكتروني تتضمن طلبات من أساتذة خارج العراق يريدون معرفة كيف يمكن لهم العودة إلى وظائفهم. ومع ذلك، شعر الهيتي بالتردد عندما سئل ما إذا كان سوف يشجع الأطباء العراقيين على العودة إلى وطنهم تحت الظروف الحالية، وقال: «لن أجيب بنعم مطلقا» وأضاف أنه يفضل الانتهاء من المنطقة المحمية التي يدعو لإنشائها قبل عودة الأطباء جماعة. «الحوادث يمكن أن تحدث في كل مكان، ولكن احتمال حدوثها في العراق أكبر كثيرا».

*خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)