العراق: تراجع أعداد الصحافيين الغربيين في مؤشر على تحسن الأمن.. وارتفاع التكاليف

أخباره تراجعت عن الصفحات الأولى >صحافية: الانتباه انصرف إلى باكستان وأفغانستان

TT

يشهد عدد الصحافيين الأجانب في بغداد تضاؤلا حادا، في انسحاب إعلامي يعكس الاستقرار المتزايد في العراق والضغوط المالية التي تتعرض لها بعض المؤسسات الإخبارية.

وفي إشارة قوية لتغير التركيز الإعلامي هنا، انخفض عدد الصحافيين المتنقلين مع القوات الأميركية في العراق في العام الماضي. وذكر الجيش الأميركي أنه كلف صحافيين بالسفر مع وحدات عسكرية في 219 مرة في سبتمبر (أيلول) عام 2007. وفي الشهر الماضي، انخفض العدد إلى 39 مرة. ومن بين نحو 12 من الصحف والشبكات الصحافية الأميركية التي كانت لها مكاتب تعمل بدوام كامل في بغداد في الأعوام الأولى من الحرب، ما زالت أربع منها فقط تعمل بشكل دائم من خلال مراسليها الأجانب. فلم يعد لشبكتي (سي بي إس) و(إن بي سي) مراسل دائما في بغداد.

تقول أليسا جي روبين، القائمة بأعمال مدير مكتب «نيويورك تايمز» في بغداد «ما زال الأمر مهما ومثيرا للاهتمام، ولكن ما نراه أمامنا الآن هو وضع ساكن تقريبا. فلم يعد هناك خط سرد واضح، وأصبحت الموضوعات أكثر تعقيدا».

يقول صحافيون محنكون إن الموضوعات المتعلقة بالعراق الآن ـ حيث ينتشر نحو 155.000 من القوات الأميركية وتنفق الولايات المتحدة حوالي 10 مليارات دولار في كل شهر ـ أكثر صعوبة في إذاعتها ونشرها. فقد تحولت التغطية الإخبارية التي تركزت في الماضي ـ إلى حد كبير ـ على تجربة الجيش الأميركي، إلى قصة العراقيين الذين يتخذون خطوات مترددة وأحيانا عادية تجاه تأسيس حكومتهم الخاصة.

وبعد أكثر من خمسة أعوام من الغزو الأميركي، يدور الكثير من أهم الأخبار في العراق، حول الخلاف فيما يتعلق بقوانين الانتخابات، والمباحثات المتعلقة بالإطار القانوني الذي سيحكم وجود القوات الأميركية هنا بعد انتهاء مدة انتداب الأمم المتحدة بنهاية هذا العام، في تدرج غير واضح وأحيانا خلف الأبواب المغلقة.

وقد قال الجنرال ديفيد بيركنز، المتحدث الرسمي الرفيع المستوى باسم الجيش الأميركي، إن الأخبار التي ترد حول أحداث العنف، تنال أكبر قدر من الأهمية. وأضاف أن أحداثا أقل إثارة، مثل مسيرة تسجيل الناخبين من أجل الانتخابات المحلية المترقبة بشدة في بداية العام المقبل، لا تحظى بتغطية وسائل الإعلام الإخبارية الغربية.

وصرح بيركنز بقوله: «هناك الكثير من الأشياء التي تحدث، وكثير من الأحداث المعقدة. ومن أجل تغطيتها، فإن عليك بالفعل أن تستوعب التفاصيل والتعقيد الذي يشوبها. ولكن عندما يقع انفجار كبير يقتل فيه 20 شخصا، فإن ذلك لا يتطلب إلماما بالتعقيدات التي تشوب الحدث لكي تهرع إلى مكان الحدث بالكاميرا وتنقل خبرا بمقتل 20 شخصا».

وقد بدأت أعداد الوسط الصحافي في الانخفاض بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في خريف عام 2004، واعتبرت عدة مؤسسات إخبارية أن بقاء الصحافيين في العراق أمر مكلف جدا وخطير جدا. وقد قتل صحافي أميركي في البصرة عام 2005، وتعرض آخرون لإطلاق نيران في الفلوجة. وفي بعض فترات الحرب ـ خاصة مع تصاعد حدة العنف الطائفي عامي 2006 و2007 ـ أصبح انتقال الصحافيين مع الجيش الأميركي هو السبيل الوحيد للوصول إلى معظم مناطق العراق. ورأت المؤسسات الإخبارية التي ظلت في العراق أن تكاليف تأمينها ارتفعت بشدة. فقد اشترى معظمها سيارات مصفحة، تتكلف في الغالب أكثر من 100.000 دولار، وعينت حراسة أمنية محلية وغربية بمرتبات تخطت 1.500 دولار في اليوم.

ولكن تحسن الوضع الأمني، وبدأ الصحافيون في السفر في سهولة نسبية وفي إجراء حوارات مع أشخاص كانوا منذ عدة أشهر فقط خائفين إلى درجة كبيرة من الحديث. ولكن تمثل الطبيعة السياسية للخبر، والوضع المتدهور في ساحات القتال الأميركية الأخرى، تحديا جديدا أمام الصحافيين هنا وفي غرف الأخبار.

كتبت محررة الشؤون الخارجية في «نيويورك تايمز» سوزان شيرا في رسالة إليكترونية: «تشكل الأخبار المتطورة في العراق الآن تحديات في التحرير والمفاهيم. إنها غير منتظمة. وهناك صراع أقل وضوحا، ويتحول انتباه الحكومة والعامة الآن إلى حد ما إلى أفغانستان وباكستان».

ويقول مسؤولون في الجيش الأميركي إنهم ما زالوا متحمسين لإرسال صحافيين مع القوات الأميركية، ولكن العديد من الصحافيين في بغداد يقولون إن الجيش أصبح مترددا في مصاحبة الصحافيين له إلى خطوط المواجهة. وعلى سبيل المثال، اعتمدت التغطية الإعلامية للعمليات العسكرية الأخيرة التي جرت في البصرة ومدينة الصدر والموصل ومحافظة ديالى بكثافة على الاتصالات الهاتفية ومعلومات من العراقيين الذين يعملون لصالح مؤسسات إخبارية أجنبية.

ولكن بشكل خاص، يعترف مسؤولو الجيش الأميركي بأنهم ليسوا متحمسين لاستعراض عمليات القتال العسكرية الأميركية في الوقت الذي تدعو فيه الحكومة العراقية إلى وضع قيود على دور القوات الأميركية وإلى الضغط من أجل وضع جدول زمني محدد للانسحاب.

وقد أفاد مدير مكتب أسوشييتد برس روبرت رييد بقوله: «من الواضح جدا أنهم يحاولون إبعادنا عن مناطق القتال الحيوية ويحاولون دفعنا إلى مناطق» يجري فيها إعادة البناء والتدريب. و«من الصعب للغاية أن تصاحب وحدة في الجيش وتكون متأكدا من أنك سترى قتالا حقيقيا».

وقد نشرت الصحف الأميركية، التي شهدت في الأعوام الأخيرة انخفاضا حادا في نسبة القراء والإعلانات، أخبارا أقل عن العراق هذا العام، ووضعت نسبة أقل من هذه الأخبار في الصفحات الأولى، عما كانت تفعل في أية فترة أخرى أثناء الحرب في العراق.

كما انخفضت أعداد أخبار العراق التي تنشر في الصفحات الأولى في «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، وهي الصحف التي تستمر في الاحتفاظ بمكاتب كبيرة لها في بغداد، كل عام عن سابقه منذ بداية الحرب.

فقد نشرت الصحف الثلاث اليومية 858 خبرا في الصفحة الأولى عن العراق عام 2003، و379 خبرا في العام الماضي، و138 خبرا فقط في الأشهر التسعة الأولى من عام 2008.

وقالت مديرة مكتب ناشونال بابليك راديو في بغداد لورديس غارسيا نافارو، والتي تغطي أخبار العراق على فترات منذ عام 2002: «عندما تكون لديك أحداث أخرى في العالم، وأزمة مالية وانتخابات وأفغانستان حيث يقع صراع أكثر خطورة، يكون من الصعب أن تنقل أخبارك على الهواء».

وتولت تينا سوزمان منصبها مديرة لمكتب «لوس أنجليس تايمز» في بغداد في أوائل عام 2007، حيث كانت هناك زيادة في أعداد القوات الأميركية وسط أحداث عنف شديدة. ولكن خفضت الصحيفة مؤخرا عدد العاملين في مكتبها من ثلاثة مراسلين أجانب إلى اثنين.

وتقول تينا سوزمان: «خلال أول 12 شهرا لي هنا، كان من غير الطبيعي أن أخلد إلى النوم قبل الرابعة بل والخامسة صباحا، لأن الأخبار كانت غزيرة، وكان هناك احتمال بأن تتصدر الصفحة الأولى. لقد تغير هذا بالفعل في الأشهر القليلة الماضية. إنه أمر مثبط للهمة. فكيف يبرر رؤساؤنا الإعلاميون، وخاصة الأميركيين، عدم البقاء في الدولة التي يوجد فيها 145.000 جندي أميركي وقتل فيها 4.100؟».

لقد أرسلت «واشنطن بوست» أكثر من 70 صحافيا ومصورا وكاتب عمود إلى العراق منذ بدء الحرب. وقد غطى أخبار الغزو أكثر من 12 من الصحافيين لصالح الجريدة. وفي الأعوام الأخيرة، تغير حجم المكتب، ولكن كلفت الصحيفة صحافيين أو ثلاثة بتغطية أخبار الحرب على نحو دائم، كما ترسل المزيد من أجل مهمات مؤقتة. وتخطت تكاليف الصحيفة لتغطية الحرب مليون دولار في العام.

ووفقا لمحلل الشبكات الإخبارية أندرو تيندال الذي يتتبع التغطية الإعلامية على موقعه على شبكة الإنترنت؛ ففي العام الماضي، كانت أخبار العراق هي السائدة في أخبار التلفزيون المسائية. ولكن في الشهور الأخيرة، مرت أسابيع على مراسلي الشبكات الموجودين في بغداد بدون إرسال أخبار عن العراق إلى برامج الأخبار المسائية.

وبناء على بحث في قاعدة بيانات تيندال على الإنترنت، أذاعت الشبكات الثلاث 130 خبرا عن العراق في الأخبار المسائية فيما بين سبتمبر (أيلول) 2007، وسبتمبر 2008، مقارنة بـ242 خبرا أثناء الـ12 شهرا السابقة.

وقال مراسل (إيه بي سي) ميغل ماركيز، الذي يغطى أخبار العراق منذ عام 2005: «يدرك الجميع أن هذه الأخبار مهمة، ولكن كان ذلك على مدار ستة أعوام. وقد أصبح الوضع الآن هادئا. ويبدو أن الولايات المتحدة لم تعد تتدخل في كل شيء».

وما زالت شبكتا (سي إن إن) وفوكس نيوز تحتفظان بعدد كبير من العاملين في بغداد، ولكن، كما قال مذيعون صحافيون، طلب منهم التقليل من إذاعة التقارير الحية. وتحتفظ (سي إن إن) الآن على نحو روتيني بطاقم عمل واحد فقط في المكتب، على الرغم من أنه منذ عدة أشهر فقط كان الطبيعي أن يكون هناك طاقمان أو ثلاثة.

وتواجه المؤسسات الصحافية الغربية قريبا تحديا إضافيا، حيث سيصبح من حق العديد من موظفيها العراقيين، الذين يفضل تكليفهم بمهام التقارير على الصحافيين الغربيين، الانتقال إلى الولايات المتحدة بمقتضى برنامج جديد للاجئين. ومنذ الإعلان عن البرنامج هذا الصيف، تلقت السفارة الأميركية في بغداد العديد من الطلبات.

يقول محمود عثمان، النائب الكردي الذي قال إنه تلقى طلبات إجراء حوارات أقل من الصحافيين الغربيين: «لا أدري ماذا يحدث في أميركا هذا العام، ربما يكون السبب هو الانتخابات. أعتقد أنهم أصبحوا أقل اهتماما».

* شارك في كتابة هذا الموضوع باحث الصحيفة روبرت توماسون من واشنطن

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسطََ»)