صدام مستمر بين السلطة والصحافة في مصر

التدخل الرئاسي يعطي قبلة الحياة لعلاقة شائكة

TT

بمزيج من القلق والإجهاد رد وائل الإبراشي على هاتفه ليخبر مراسل «الشرق الاوسط» بأن الحكم في قضية رؤساء التحرير الأربعة المتهمين بإهانة رئيس الجمهورية ورموز الحزب الوطني الحاكم في مصر تأجل لجلسة 6 ديسمبر (كانون الاول) المقبل. وبين أصوات التفاؤل بانفراج الأزمة بعفو رئاسي كما حصل مع إبراهيم عيسى رئيس تحرير «الدستور» اليومية في قضية «صحة الرئيس»، وأصوات المتشائمين التي شددت على أن النظام المصري يأخذ بيده اليمنى ما يمنحه باليسرى، قضى الإبراشي رئيس تحرير «صوت الأمة» السابق ليلته في منزله. ولكنه قبل ان يخلد للنوم حسم امره مستجيبا لنصيحة أصدقائه بعدم الذهاب للمحكمة، ليستيقظ بعد ساعات على صوت الهاتف ليطمئن من المتصل به بتأجيل المحكمة الى ديسمبر المقبل وأن ليلته الماضية لن تكون الأخيرة في بيته. لم يحتمل الابراشي الانتظار طويلا وتوجه إلى نفس المحكمة ليطمئن على قضية زميل آخر هو عادل حمودة رئيس تحرير صحيفة «الفجر» الذي سبق وعمل معه في مجلة «روز اليوسف» في بداية عمله الصحافي. ما إن خرج الإبراشي مطمئنا على عدم حبس حمودة حتى حاصرته الكاميرات لتسمع تعليقه.

كانت هذه القضية المحجوزة للحكم رقم 63 في قائمة الإبراشي التي خصص لها وقتا أسبوعيا يقتطعه من مواعيده، بالإضافة إلى اقتطاعه جزءا كبيرا من ميزانيته المالية مخصصا لمبالغ الغرامات المرهقة التي تقضي بها المحاكم في قضايا النشر.

ويرى الإبراشي مثل غيره من المعارضين أن الحكومة المصرية تجد في ملاحقات الصحافيين قضائيا بترسانة من القوانين المقيدة للحريات منها 33 مادة من الممكن أن تلقي بهم خلف القضبان سلاحا فعالا لكبح معارضتهم، فمن الممكن أن تدفعهم حتى حافة الهاوية إلى أن تتدخل مؤسسة الرئاسة بعفو شامل فتهدأ الأمور وتعيد الأمور إلى نقطة البداية.

الأمر لا يخلو في نظر بعض المحللين من مكاسب للصحافيين، فتحدي السلطة بصوت مرتفع والاستعداد للوقوف خلف القضبان يضمن نجومية وتعاطفا شعبيا غير مسبوق.. وتكتمل الصفقة غير المتفق عليها. لم ينكر الدكتور شوقي السيد عضو مجلس الشورى المصري وأحد المقربين من النظام ذلك، فبحسب رأيه هناك لعبة بين النظام والصحافة المشاغبة من الممكن أن تؤدى لنتائج سلبية إذا خرج أحد الطرفين عن الخطوط الحمراء المرسومة مسبقا. واعتبر السيد وهو أستاذ قانون مرموق أن الأزمة بين الصحافة والسلطة في مصر لن تنتهي بمسكنات وقتية كالتدخل الرئاسي، فالأجدى من وجهة نظره التخلص من كل المواد السالبة للحريات مع توحيد العقوبات على الصحافي المخطئ تأخذ في الاعتبار الغرامة المالية كبديل للحبس مع حفظ الحق في التعويض وكذلك الحق في تصحيح الخطأ.

إذا كان العفو عن إبراهيم عيسى أعاد الجميع لنقطة الصفر استعدادا للعبة أخرى، وهدأت الأجواء المشحونة بالتوتر فإن هناك من يعتبر ما حدث «إهانة» والوصف لعبد الحليم قنديل رئيس تحرير «صوت الأمة» وأحد المحكوم عليهم بالحبس عام ضمن قضية رؤساء التحرير الأربعة، كما سبق وتعرض للاختطاف والضرب والرمي في الصحراء قبل سنوات وأرجع ذلك لحدة معارضته.

ويقول قنديل: «ما حدث إهانة للجماعة الصحافية فنحن مكبلون بعقوبات لتهم مطاطة مثل ما يسمى بتكدير الأمن العام أو بث إشاعات كاذبة، وإذا أردنا الإصلاح فعلينا أن نفعل مثل كل المجتمعات الحرة التي ألغت الحبس واعترفت بالغرامة فقط في قضايا محددة وتهم مكتوبة بلغة قانونية واضحة». وطالب قنديل بان تراعي الغرامة ظروف الدخل في مصر، «هناك ألف حل لتلك الحالة الشائكة، لكن السلطة لا تريد حلا».

لكن هناك على الجانب الآخر من يرى في الأفق بوادر حلول تتطلب شيئا من المرونة، «نحن نحتاج السلطة، وإذا استغنينا عنها فماذا سنكتب، نعم هي تريدنا أبواقا، ولكن نحن قادرون على تأدية مهامنا دون تنازلات».. هكذا كشف مكرم محمد أحمد نقيب الصحافيين طبيعة العلاقة المرجوة بين الصحافة والسلطة. وعلى عكس كثيرين رأى احمد في العفو الرئاسي بشيرا بحل الأزمة الدائمة، كما يحمل دلالات عديدة منها أن الدولة لا تريد صداما حادا مع الصحافة، ورسالة «للمحتسبين الجدد» من محاميي الحزب الحاكم للكف عن ملاحقة الصحافيين، كما أنه خطوة لمكاسب كثيرة تحقق بعضها من وجهة نظره، أبرزها «تحويل النائب العام المصري 150 قضية للنقابة للتحقيق فيها مهنيا بدلا من المحاكم، كما اعتبر العفو دليل عن ردع عقوبة الحبس وحاجة الجميع للحوار».

لكن ولكي يصل الجميع لعلاقة سوية مثل بقية الأمم الحرة بحسب نقيب الصحافيين المصريين لا بد للطرفين بذل جهود لذلك، والجهد المطلوب من الجماعة الصحافية بدأ بالفعل وهو تفعيل ميثاق الشرف الصحافي والتحقيق نقابيا مع المتجاوزين وتدشين مدونة سلوك تحكم الأداء المهني في المؤسسات الصحافية بالاتفاق مع رؤساء التحرير «وبقي على السلطة أن تراجع نفسها وتخلصنا من ترسانة القوانين التي يعود بعضها لعام 1882».

«العلاقة بين السلطة والجماعة الصحافية في مصر لا تعرف النهاية بالضربة القاضية»..هكذا ختم مكرم محمد أحمد كلامه مؤكدا أن الأزمة في طريقها لحل دائم .. ولكن لا يتسنى التأكد من ذلك إلا في 6 ديسمبر المقبل، ربما لا يحتاج الصحافيون وقتها لعفو جديد.