المجلس الدستوري يعود إلى الواجهة السياسية في لبنان وسط آمال كبيرة على دوره «الضابط» للسلطة التشريعية

نص على إنشائه اتفاق الطائف وكرسه «الميثاق الوطني»

TT

عاد المجلس الدستوري الى واجهة الحياة السياسية في لبنان بعد غياب ثلاث سنوات. هذا المجلس الذي نص على انشائه اتفاق الطائف، وكرّسه لاحقا الميثاق الوطني في العام 1991، انيطت به مهمات عدة، في طليعتها مراقبة دستورية القوانين التي تقرّها السلطة الاشتراعية. وبعد مرور 18 عاما على انشائه، لم يلمس اللبنانيون انه يمارس دوره بـ«الثقل» الذي يكفله الدستور ونظامه الداخلي، وهم يتطلّعون اليوم إلى الإفراج عنه بعد ازمة «الاستنكاف» التي جمّدته منذ العام 2005. فباتت السلطة الاشتراعية متفلّتة من أي رقابة دستورية. ففي ذاك العام، انتهت ولاية ثلاثة من اعضائه فعمد مجلس النواب إلى اختيار البدلاء لكنّهم لم يقسموا اليمين الدستورية. كما انتهت ولاية اثنين آخرين يفترض بالسلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء، ان تعينهما، لكنّها امتنعت. ثم اتى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وما تلاه من احداث وانشقاقات واصطفافات ليبقى مصير المجلس الدستوري معلّقا بين حبال التجاذبات السياسية والطائفية، لاسيما ان الاعضاء الخمسة المتبقين لا يسمح عددهم بتوفير النصاب القانوني.

وقبل ايام، ألغت لجنة الادارة والعدل البرلمانية القانون المتعلق بإنشاء المجلس الدستوري الصادر عام 2006 بكل مفاعيله والذي كان ينص على اجراء مقابلات مع المرشحين لعضوية المجلس. كما ألغت المقابلات التي اجريت مع 74 مرشحا. وأمس أقرّت اللجنة الصيغة التي اعدّها وزير العدل ابراهيم نجار بعد تعديلها وحوّلتها اقتراح قانون على الا تسري مهل الطعون الجديدة الا بعد اكتمال القانون الجديد للمجلس اي بعد 15 يوما من نشره في الجريدة الرسمية وبعد ان يقسم الاعضاء اليمين امام رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. وقد أعلن امس رئيس مجلس النواب نبيه برّي عقب «لقاء الاربعاء» الاسبوعي مع الرئيس سليمان إن القانون الجديد للمجلس الدستوري سيقرّ قبل نهاية الشهر.

عن أهمية هذه الهيئة الدستورية، وفلسفتها والدور الذي كان يفترض ان تضطلع به، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الخبير الدستوري، عضو المجلس الدستوري سابقا، الاستاذ المحاضر في كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، سليم جريصاتي فقال إن «انشاء اي مجلس دستوري، كالمجلس الدستوري الفرنسي مثلا الذي أنشأه دستور الجمهورية الخامسة عام 1958، يرتكز على ضمان حق الاقلية النيابية في مناقشة قوانين تفرضها الاكثرية في الانظمة الديمقراطية البرلمانية. كما ترتكز هذه الفلسفة على ان الشعب قد يكون في حاجة عند التعبير عن ارادته، في معرض استيلاد السلطة الاشتراعية، الى من يحمي هذه الارادة ويضمن صدق التعبير. وفي هذا الاطار، تندرج اختصاصات هذا المجلس لجهة الرقابة على دستورية القوانين ولجهة النظر في الطعون الانتخابية كانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب واعضائه».

وردا على سؤال عن الغاية من ضمان حق الاقلية النيابية في ظل النظام الديمقراطي الذي يرتكز اصلا في اتخاذ قراراته على منطق الاكثرية البرلمانية، قال: «الواقع ان مفهوم القانون تغيّر عبر الزمن. ففيما كان يشكّل تعبيرا عن ارادة الاكثرية، صار تحديده مختلفا اذ اضيف الى ما سبق قوله عبارة مع مراعاة احكام الدستور. والمقصود بذلك انه اذا اخطأت الاكثرية في اصدار تشريع معيّن، يجب العمل على صون حق الاقلية. من هنا، نشأت الحاجة الى إنشاء سلطة محصّنة دستوريا للنظر في توافق القانون الاكثري المنشأ، مع احكام الدستور. فكان انشاء المجلس الدستوري، الذي تقع عليه مهمة النظر في القانون بدءا من عملية اقراره وانتهاء بمضمونه. وذهب بعض أصحاب الرأي الدستوري إلى اعتبار ان المجلس الدستوري ينظر في ملاءمة التشريع في حالات الانحراف التشريعي، وهذا يطاول نية المشترع». وأضاف: «في لبنان، أنشأ اتفاق الطائف المجلس الدستوري وتكرّس في المادة 19 من الدستور سلطةً دستورية قضائية مستقلّة».

اما رئيس مجلس شورى الدولة سابقا، يوسف سعد الله الخوري، فقال: «ان مبدأ الفصل بين السلطات يمنع القاضي العادي من مراقبة دستورية القوانين والا اعتبر ذلك تعديا على صلاحيات سلطة دستورية أخرى. لذلك وبغية عدم خرق الدستور من جهة، وضمان عدم صدور تشريعات تخرق الدستور من جهة أخرى، برزت حاجة الى ايجاد هيئة ذات طابع قضائي، انما ليست محكمة، لتتولى هذه المهمّة. فكان المجلس الدستوري الذي تقع عليه مهمتا مراقبة دستورية القوانين ومراقبة سلامة الانتخابات التشريعية ونزاهتها. وسابقا وحتى 21 ايلول (سبتمبر) 1990، كانت لجنة الطعون الانتخابية البرلمانية، تتولى مهمة النظر في الطعون الانتخابية».

وعن الجهة التي تعيّن اعضاء المجلس وامكان تأثيرها على قراره، قال جريصاتي: «في فرنسا، يعيّن رئيس الجمهورية ومجلس الشيوخ الاعضاء. وحين عيّن الرئيس (الفرنسي السابق فرانسوا) ميتران روبير بادنتير وهو احد كبار الحقوقيين وقد ازال عقوبة الاعدام في فرنسا، قال الاخير في خطابه بعدما أقسم اليمين متوجها الى ميتران: حان وقت العقوق والجحود. ما يعني انه لن يكون اسير الجهة التي عيّنته، في اتخاذ قراراته. كذلك، وبعدما ارتأى الوزير الديغولي ميشال دوبريه فكرة انشاء المجلس الدستوري، قال انه كان يجهل ان المجلس سيضطلع بهذا الدور المهم. وقال الجنرال ديغول، ما بين المجلس الدستوري وفرنسا، أختار فرنسا وذلك لان المجلس الدستوري أخذ دوره ضابطا للايقاع وسلطة دستورية متفلّتة من اي ضابط، اصطدم بها ديغول مرارا».

أما الخوري، فاعتبر ان «استقلال المجلس لا ينبع من طريقة تعيين اعضائه بل من سلوكهم، اضافة الى ما يكفله قانون المجلس الدستوري ومبادئه العامة من استقلال تامّ. ولكن للأسف، لم نرَ هذا الاستقلال في الممارسة العملية، خصوصا ان هناك قرارات تمسّ استقلال المجلس. وهناك قرارات سيئة جدا، أفضّل عدم ذكرها، اتخذها المجلس الدستوري بسبب تدخّل السياسيين من جهة ورضوخ أعضائه من جهة اخرى». وقال: «هناك طعون امام اعضاء المجلس الذين استنكفوا عن احقاق الحق منذ ان توقفوا عن العمل في العام 2005، في حين انه كان يجب احترام مبدأ استمرارية المرافق العامّة المكرّس في نص صريح في قانون انشاء المجلس الدستوري والنظام الداخلي الذي يقضي بأن يستمرّ اعضاء المجلس ورئيسه حتى اذا انتهت ولايتهم في القيام بمهماتهم ريثما يعيّن سواهم ويقسمون اليمين. ومن استنكفوا تترتّب عليهم مسؤوليتان ادبية ومسلكية لان هناك طعونا امامهم استنكفوا عن النظر بها». ضبط الايقاع الذي تكفله من حيث المبدأ صلاحيات المجلس، يبدو انه امر نظري في لبنان. عن هذه النقطة قال جريصاتي: «المجلس الدستوري قام منذ بدء مزاولته اختصاصه بواجباته كاملة وفي اصعب الظروف، لكنّه تعرّض لثلاث انتكاسات: الاولى، قبل اقراره في الدستور، نزع منه اختصاص تفسير الدستور كما ينصّ اتفاق الطائف. الثانية، استقالة رئيسه وجدي الملاط. الثالثة، قرار المتن الشهير (إبطال نيابة غابريال المر) غير المسبوق وغير المستحب وغير المفهوم. وأعقبت هاتين الانتكاستين ظروف اوجدت فراغا في المجلس الدستوري، إذ بادرت السلطة الاشتراعية الى تعيين 3 اعضاء ممن انتهت ولايتهم، فيما لم يبادر مجلس الوزراء الى تعيين حصّته. فاستحال مبدأ استمرارية السلطة، وتحوّل المجلس الى مزاولة ولاية جديدة. وهذا ما رفضه بعض اعضائه بعد عامين على انتهاء ولايتهم، وذلك حضا للسلطة التنفيذية على حزم امرها». وأضاف: «تحرير المجلس الدستوري من قبضة السياسيين يبدأ بالعودة الى قانون انشائه والتخلّي عما لحق هذا القانون، من قوانين ومشاريع قوانين. ويتم ايضا عبر العودة الى التنوّع في تعيين اعضائه عن طريق اعتماد القرعة. كذلك ان حصانة القضاة الاعضاء، توفر لهم حيادا مطلقا ان ارادوا، وان ابتعدوا عن التبعية. وقد تعطّل المجلس منذ ان تحوّلت ولايته الى ولاية جديدة، وهذا يناقض مبدأ تأليفه. الواقع انه تعطّل بقرار سياسي كبير لمجرّد وقوع خلاف في تعيين الأعضاء».

ماذا اذا استمرّ تعطيل المجلس الدستوري؟

تحدث جريصاتي عن نتيجتين: «الاولى، عدم النظر في الطعون النيابية الناجمة عن انتخابات 2005. الثانية، عدم النظر في الطعن الذي تقدّم به 10 نواب، بقانون أقرّه مجلس النواب ووضع مشروعه النواب روبير غانم، بطرس حرب، بهيج طبارة. وعدّلوا بموجبه قانون انشاء المجلس الدستوري». أما الخوري فحذّر من «انعدام الرقابة» في حال استمرار تعطيل المجلس «لان لا هيئة اخرى يمكنها القيام بمهماته. وهذا يشكّل عيبا خطيرا في دولة تدّعي انها دولة القانون والمؤسسات. لذلك يجب احياء المجلس بحلّة قانونية ودستورية سليمة ليقوم بدوره كما يجب، خصوصا ان الانتخابات البرلمانية على الابواب».