العصابات تسيطر على أموال المساعدات وتخترق باب السياسة عنوة

بلغاريا الدولة الأوروبية الأكثر فسادا

TT

لعبة السياسة وصلت إلى درجة الموت في بلغاريا، حيث يمكن أن تكون حياة السياسيين لا تساوي أكثر من الطلقات وتخوض جماعات الأعمال المريبة صراعا قاتلا على نصيبها من كل شيء بدءا من صفقات العقارات إلى ملايين المساعدات الأوروبية.

أثناء موسم سياسي عنيف في العام الماضي، أُحرق منزل رئيسة لجنة انتخابات بلدية وقتل عمدة بلدة سياحية في وسط بلغاريا بعد أن أطلق عليه 7 رصاصات، كما حدث ذلك مع رئيس مجلس المدينة الثري في مدينة نيسيبار التي تطل على البحر الأسود.

قال أتاناس أتاناسوف عضو البرلمان ورئيس مكافحة التجسس السابق الذي يحصل على الوثائق المسربة التي تفضح الفساد: «يوجد دول بها عصابات مافيا. ولكن في بلغاريا، المافيا لها دولة».

بكل المقاييس، بلغاريا هي أكثر الدول فسادا في الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ عدد الدول الأعضاء فيه 27. فمنذ انضمامها إليه في العام الماضي، ظهرت كنموذج تحذيري للدول الغربية في مواجهة الحقيقة الجلية والتكاليف الباهظة التي تتحملها لاجتذاب الدول الهشة الخارجة من الشيوعية إلى مدارها، بعيدا عن النفوذ الروسي.

لم تحقق عضوية الاتحاد الأوروبي الكثير لترويض الشبكات الإجرامية في بلغاريا. ولكنها جعلت، فيما يقبل النقاش، هذه الشبكات أكثر ثراء، مما زاد من المخاوف من أنه إذا لم يستطع الاتحاد القضاء على النشاط الإجرامي في واحدة من الدول الأعضاء مثل بلغاريا، فربما يكون له نفوذ أقل على الدول الأخرى الضعيفة التي تريد الانضمام إليه.

لقد ساعدت الولايات المتحدة بلغاريا على الانضمام إلى حلف الناتو، وتنظم تدريبات مشتركة بين قوات البلدين منذ عام 2004، وتحاول تشجيع التجارة والتعليم والديمقراطية بها. وأعلنت أنها ستستثمر أكثر من 90 مليون دولار في إنشاء مرافق وتزويد معدات من أجل الاستخدام المشترك في التدريبات العسكرية.

ووعد الاتحاد الأوروبي المتحمس لتحسين أوضاع 7.5 مليون بلغاري، بمنح معونة قدرها 11 مليار يورو أو حوالي 15 مليار يورو.

بعيدا عن وقف الجريمة والعنف، تنشر الأموال الفساد. قال العديد من المدافعين عن الإصلاح في بلغاريا إنه بمجرد أن علم رجال الأعمال المشبوهون في بلغاريا بقدر معونة الاتحاد الأوروبي، تحولوا من شراء السياسيين إلى الدخول في السياسة.

لذا جمد المسؤولون الأوروبيون حوالي 670 مليون دولار في تمويل هذا الصيف، وربما يوقفوا تدفق المزيد من المليارات بعد أن أزعجهم الحرية التي يتمتع بها فاسدون يحتلون مناصب عليا ولديهم صلات بأعلى مستوى في السلطة.

تسيطر عصابات من المشبوهين على مشروعات الإنشاء في وسط المدينة. وتحولت شبكات الأعمال المريبة من السوق السوداء للكحوليات والسجائر المهربة إلى استثمارات قانونية في مجال العقارات المزدهر. لقد تركوا أثرا لهم على المناخ في العاصمة: فالرجال الذين يطلق عليهم لقب «ذوي الأعناق الغليظة» بسبب مظهرهم القوي يمكثون في نواد ليلية أو يظلوا يحرسون سيارات المرسيدس في الخارج. تقدم الكتيبات الإرشادية عن صوفيا نصائح: تجنب المطاعم التي تجذب رجال الأعمال الذين يصاحبهم أربعة حراس شخصيون أو أكثر.

الآن رجال مثل هؤلاء يشقون طريقهم عنوة إلى المناصب الحكومية. يركز محققون في مكتب مكافحة الفساد في الاتحاد الأوروبي على مجموعة نيكولوف ـ ستويكوف، وهي مجموعة ممتدة من عشرات الشركات ذات اهتمامات تبدأ من تصنيع اللحوم والتخزين البارد إلى الخردة ومنتجع على البحر الأسود.

يفخر كبار شركاء هذه المجموعة، الذين ألقي القبض عليهم في العام الماضي لشبهة الفساد، بصلاتهم بشخصيات رفيعة المستوى. وقد ساعد لودميل ستويكوف في تمويل حملة الرئيس جورجي بارفانوف، ونظم مجموعة أعمال لدعمه وظل على صلة بنائب سابق لوزير الشؤون الخارجية.

ينكر ستويكوف الذي لم تصدر ضده أية اتهامات منذ القبض عليه في العام الماضي معرفته بالأنشطة الإجرامية المتعلقة بأموال الاتحاد الأوروبي. وقال في إجابة على أسئلة مكتوبة: «أعارض تماما هذه المحاولات لتلطيخ سمعتي ومعاملتي كمجرم».

يعترف ستويكوف بمنح 25000 ليفا (حوالي 17000 دولار)، كإسهام منه للرئيس البلغاري. وقال: «لقد شاركت بتبرع وفقا لشروط القانون. ولا أحد يقول عكس هذا». وقد أقام شريكه ماريو نيكولوف، المقرر مثوله أمام المحكمة الأسبوع المقبل في تهم فساد، اتفاقا سريا مع رئيس الوزراء سيرغيه ستانيشيف، وفقا لعقود وأوراق إيداع بنكية تسلمها المحققون الأسبوع الماضي من بوكو بوريسوف، عمدة صوفيا، وهو خصم لدود لرئيس الوزراء. هذه الوثائق تشير إلى أنه حول أكثر من 137 ألف دولار إلى حزب ستانيشيف الاشتراكي كإسهامات من شركاته.

وفي تقرير تم تسريبه هذا الصيف، اتهم محققو الفساد في الاتحاد الأوروبي مجموعة نيكولوف ـ ستيوكوف بأنها واجهة لـ«شبكة أعمال إجرامية مكونة من أكثر من 50 شركة بلغارية وشركات أخرى أوروبية وخارجية».

ومن بين اتهامات محققي الاتحاد الأوروبي كانت تهمة الاحتيال على الضرائب والمعونة: بأخذ معونة التنمية من أجل شراء معدات جديدة للشركات، ثم إحضار معدات قديمة من ألمانيا الشرقية السابقة والاحتفاظ بفارق الثمن. واتهمت الشركات أيضا باستيراد غير مشروع لكميات كبيرة من لحوم الأرانب الصينية من أجل تصديرها إلى فرنسا وألمانيا بشهادات صحية مزورة من الأرجنتين.

وبعد أن وصلت الوثائق إلى مكتبه في يوروفريغو، شركة التخزين البارد في صوفيا، كرر نيكولوف رفضه للتعليق على الوثائق التي تشير إلى الإسهامات التي قدمها لرئيس الوزراء، والتي قال محققون بلغاريون إنها تخضع لتحقيق رسمي. بعد تسريب التقرير من مكتب مكافحة الفساد الأوروبي، قال نيكولوف: «لقد أصبحت عدو البلاد الأول، وأخشى على حياتي».

لم يرد ستانيشيف رئيس الوزراء على 10 محاولات سعي للحصول على تعليق منه طوال ستة أيام. أطلق الرئيس بوش في العام الماضي على ستانيشيف، الذي درس في كلية الاقتصاد في لندن، لقب «السيد نظيف» لجهوده في مكافحة الجريمة المنظمة. وبعد أن بدأت دول أوروبية أخرى في الشكوى من الفساد في التصرف في أموال المعونة، أعلن ستانيشيف عدم وجود «مظلة» حماية لرجال الأعمال الأثرياء أو المسؤولين عن الجرائم المنظمة.

ولكن عندما أعلن هذه التصريحات، لم يعرف أنه اجتمع مع نيكولوف عام 2005. ويظهر مقطع فيديو مدته خمس دقائق، تم الحصول عليه من عمدة صوفيا، ستانيشيف وهو يحيي نيكولوف في مصنعه للحوم ويتفقد المعدات ومنضدة عليها سجق من كبد الإوز قبل أن يجلس لتناول الغداء والنبيذ الأبيض.

وقال دبلوماسي أوروبي غربي اشترط عدم ذكر اسمه بسبب دخوله في مفاوضات حساسة مع بلغاريا، إنه تم التأكد من صحة نسخ الاتفاقيات المتعاقد عليها حول التبرعات: «هذا يعني أنهم يعرفون أنهم لن يحاكموا، لماذا إذا أقدموا على تحرير عقود سرية؟».

وقدم اتفاقا عاجلا إلى رومن بيتكوف، الذي ترأس حملة الاشتراكيين في ذلك الوقت، وقدم استقالته من منصبه كوزير للداخلية منذ عدة أشهر وسط اكتشافات بأنه اجتمع مع زعماء الجريمة المنظمة.

يدور اقتصاد بلغاريا الرمادي حول شركات مختلفة لها علاقات بالساسة تتحول في الداخل والخارج وفقا لظهور الفرص والمعوقات القانونية، وهذا ما جاء في تقرير من مركز دراسة الديمقراطية وهي مجموعة مناهضة للفساد في صوفيا.

ووفقا للمركز ولناشطين آخرين مناهضين للفساد، يجند رؤساء الشركات موظفين قدامى لتسجيل الشركات بأسمائهم، وإذا كانت هناك مشاكل قانونية، تتوقف الشركات عن العمل بدون وجود صلة بينها وبين رؤسائها الفعليين. في نفس الوقت، يعاد توظيف الأرباح الناتجة من مصادر مثل تهريب السجائر والكحوليات في شركات ذات واجهة قانونية، مثل أندية كرة القدم، حيث يمكن غسيل الأموال من خلال الأجور الباهظة التي تدفع من أجل صفقات انتقال اللاعبين.

وتتسم المنافسة بحدة بالغة، حيث تعرض الرؤساء الثلاثة السابقين لنادي لوكوموتيف بلوفديف للقتل، وسقط أحدهما بنيران قناص بالقرب من البحر الأسود. وتشير الإحصاءات الصادرة عن محللين تابعين للبنك الدولي إلى أن 75% من الشركات التجارية البلغارية تستعين بحماية أمنية، وهي نسبة أعلى بكثير من الدول الأخرى بأوروبا الشرقية. ومثلما الحال في روسيا وبعض دول البلقان الأخرى، استشرى الفساد بحيث أصبح جزءا من نسيج الحياة ذاتها. على سبيل المثال، يوجد في صوفيا سوق سوداء للدماء خارج المستشفيات، حيث تساوم أسر المرضى التجار على شراء الدم، وذلك طبقاً لما ورد بتقارير صحفية بلغارية. ويعود تاريخ جذور هذه الجريمة المنظمة إلى انهيار الشيوعية في مطلع التسعينيات، والذي ترتب عليه أن وجد آلاف العملاء السريين والرياضيين، بما في ذلك مصارعين حظوا في السابق برعاية الدولة، أنفسهم في الشارع. وأثناء الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة ضد صربيا في التسعينيات، استغلت هذه العناصر فرص التهريب السانحة وقامت ببناء شبكات تهريب. من جانبهم، قام المصارعون على وجه الخصوص بتنمية شركات أمنية خاصة وأخرى للتأمين تورطت في عمليات ابتزاز. بينما تحول آخرون للعمل كمقاولين تحيط بهم علامات الاستفهام وتربطهم بالحكومة علاقات وثيقة. على مدار السنوات الخمس السابقة، شهدت بلغاريا العديد من عمليات الاغتيال وهجمات تمت في وضح النهار. وقد تنكر منفذو الهجمات في شكل سكارى ورجال دين أرثوذكس. يذكر أنه عام 2004، تم زرع عبوة ناسفة أعلى مصعد في إحدى البنايات القائمة وسط صوفيا وتم تفجيرها باستخدام هاتف جوال، ما أسفر عن مقتل رجل أعمال وثلاثة من حرسه الشخصي. ويشير المعنيون بمحاربة الفساد ومراقبو الانتخابات إلى أن الأصوات الانتخابية يجري الاتجار بها، تبعاً للمدينة، مقابل سجائر الماريجوانا أو ما يصل إلى 100 ليفا، أي ما يعادل 69 دولارا. وأشارت إيفا بوشكاروفا، المديرة التنفيذية لاتحاد القضاة البلغاريين، إلى أن الأفراد لجأوا إلى توثيق أصواتهم من خلال التقاط صور للورقة الانتخابية التي يوقعون عليها باستخدام الهواتف الجوالة. واستطردت مؤكدة: «أنهم يقومون بالاتجار في الأصوات بحرية في الشوارع، ويقتلون ويهددون الأفراد دون أدنى خجل».

*خدمة «نيويورك تايمز»