أكراد هاربون من القصف الإيراني: بيوتنا دمرت وبعنا مواشينا بأرخص الأثمان

«الشرق الاوسط» في مناطق القصف المدفعي الإيراني عند السفوح الشرقية لجبال قنديل بكردستان العراق

مجموعة من خيام القرويين الكرد، النازحين في وادي حسو قرب جبال قنديل بمحافظة السليمانية
TT

سلاسل جبال قنديل الشاهقة التي تمتد لأكثر من 300 كليومتر على طول الشريط الحدودي الذي يفصل بين اقليم كردستان العراق وايران، يمكن وصفها الان بالقلعة الحصينة التي يحتمي بها في جهتها الشمالية الشرقية التي تقع ضمن نطاق المساحة الجغرافية لمحافظتي اربيل والسليمانية مقاتلو حزب العمال الكردستاني المناهض لتركيا، وفي جهتها الشرقية الواقعة ضمن الرقعة الجغرافية لمحافظة السليمانية فقط مقاتلو حزب الحياة الحرة الكردستاني (بيجاك) وهو الجناح الايراني لحزب العمال . الجيش الايراني لم يستطع حتى ايام الحرب العراقية ـ الايرانية التي استمرت ثماني سنوات وانتهت عام 1988 من الوصول الى قمم تلك الجبال الشاهقة العصية، وكذلك الامر بالنسبة للجيش التركي الجرار والمدجج بآلة حربية مذهلة، بل والجيش العراقي السابق رغم كل ما امتلكه من امكانات عسكرية وفنية وقتذاك. فالطبيعة الجغرافية البالغة الوعورة، والجبال الناطحة للسحاب، والوديان السحقية، جعلت من تلك المنطقة افضل حصن للمعارضين الكرد، الايرانيين والاتراك، بل والعراقيين ايضا، على مدى العقود الثلاثة الماضية . ايران التي طالما أوت مسلحي حزب العمال الكردستاني في المثلث الحدودي بين العراق وايران وتركيا ومدتهم بكل المعونات والمساعدات العسكرية واللوجستية حتى مطلع عام 2000 اي قبل ان يبرز على ساحتها السياسية حزب «بيجاك» المناهض لنظام الجمهورية الاسلامية، صارت اليوم تدك وتقصف نفس المعاقل التي لطالما احتضنت فيها مسلحي حزب العمال وحثتهم على مهاجمة تركيا انطلاقا من هناك. وبموازاة استمرار القصف المدفعي الايراني، ولو على نحو متقطع لسفوح جبال قنديل التي تحتضن مجموعة كبيرة من القرى الكردية، يواصل مقاتلو «بيجاك» ايضا عمليات الكر والفر ضد المواقع والثكنات العسكرية الايرانية القريبة من الحدود مع اقليم كردستان، ملحقة بها احيانا خسائر جسيمة في الارواح والمعدات، ما دفعت بالقوات الايرانية منذ الربيع الماضي الى تكثيف وتعزيز وجودها في المناطق الحدودية القريبة، وراحت مدفعيتها الثقيلة تقصف بانتظام وتحديدا منذ 21 ـ 3 ـ 2008 معاقل مقاتلي «بيجاك» وسلسلة من القرى الكردية التابعة لقصبة (زاراوا) الحدودية ضمن محافظة السليمانية التي تقع على سفح جبل قنديل وفي الجهة الواقعة خلف التخوم التي يتحصن فيها المقاتلون، ما اسفر عن نزوح 123 عائلة قروية يفوق تعدادها 500 شخص من 13 قرية طالها القصف المدفعي الايراني وهي قرى (رزكة السفلية ورزكة العليا وسبيه كلة واركة السفلية والعلوية وماردو وبستة وسوره كلة وشناوة وغيرها) اضافة الى إلحاق خسائر مادية فادحة بحقول وبساتين ومواشي القرويين ومناحل العسل التي تشكل الشريان الاساس لقوت سكان العديد من تلك القرى ومصادر دخلهم . وبالرغم من الحظر الامني والاقتصادي والاعلامي المحكم والمتواصل الذي فرضته حكومة اقليم كردستان قبل نحو عامين على مناطق قنديل إلا ان «الشرق الاوسط» تمكنت في وقت سابق من هذا العام من التسلل الى جبال قنديل ورصد اوضاع مقاتلي حزب العمال هناك، مثلما تمكنت هذه المرة وتحديدا يوم الثلاثاء الماضي من الوصول الى وادي (حسو) الذي يقطنه القرويون النازحون الفارون من هول القصف المدفعي الايراني، والواقع خلف التخوم الجبلية التي يتحصن فيها مسلحو «بيجاك» الذين لم يسمح جهاز الامن الكردي ـ الاسايش لنا بالوصول الى مواقعهم التي تبعد عن مخيم النازحين مسافة لا تزيد عن خمسة كيلومترات هي طول الطريق الجبلي الشديد الوعورة الذي يربط الوادي بقمم تلك الجبال في منطقة (منكورايتي) التابعة لبلدة رانية 130 كليم شمال شرقي السليمانية. في ذلك الوادي الصخري العميق الذي يمر من وسطه نهر فرعي تكابد 123 اسرة قروية اوضاعا اقل ما يمكن ان يقال عنها انها مأساوية ، فلا مياه نقية ولا دواء ولا رعاية صحية ولا مدارس ولا كهرباء ولا محروقات سوى الحطب الذي تجمه النسوة من الجبال، ناهيك من البطالة التي تفتك بالرجال الذين فقدوا مزارعهم ومواشيهم وحقولهم ومناحلهم ومنازلهم. ويقول بايز عباس، 60 عاما، واب لثلاثة اطفال ومن اهالي قرية رزكة، إن اسرته نزحت مع العشرات من اسر القرى المجاورة في اول ايام شهر ابريل (نيسان) الماضي هربا من القصف الايراني ومنذ ذلك الوقت تعيش في خيمة بائسة تفتقر الى ابسط مستلزمات العيش الانساني، واضاف «بعد ان تحررت كردستان عام 1991 عدنا الى قريتنا التي دمرها النظام السابق وأعدنا إعمارها وبدأنا مجددا بمزاولة تربية المواشي واحياء البساتين، لكن القصف الايراني دمر كل ما بنيناه وقضى على ما كنا نملكه، فبيوتنا دمرت وما تبقى من مواشينا بعناها برخص التراب وعدنا ثانية الى نقطة الصفر، وصرنا نترقب مقدم هذه المنظمة الانسانية او تلك كي تمدنا ببعض المؤن الغذائية التي تبقينا واطفالنا على قيد الحياة». وتابع عباس «منذ ان نزحنا الى هنا لم نتلق اي مساعدة من جانب حكومة الاقليم سوى زيارة عدد من المسؤولين المحليين وخصوصا مدير ناحية زاراوا ، والذين لم يحملوا الينا اي جديد». ونفى عباس وجود اي من مسلحي «بيجاك» في قراهم التي تستهدفها المدفعية الايرانية وقال «لم يأت اي مسلح منهم الى قرانا ولم نقدم لهم اي مساعدة، فهم ليسوا بحاجة الى مساعدتنا نحن القرويين البسطاء الذين بالكاد نسد رمق اطفالنا وحتى في ظل هذا الوضع الماساوي الذي نكابده الان في هذا الوادي المخيف، فان الطائرات التركية لا تدعنا وشأننا وتواصل التحليق في سماء المنطقة بين الحين والاخر لتبث في قلوبنا الرعب والهلع، وقبل ايام قليلة اطلقت علينا وابلا من نيران رشاشاتها لكنها لم تطلق الصواريخ، كما اننا نخشى كثيرا ان تقصفنا المدافع الايرانية هنا ايضا». ويقول احمد حسين، 21 عاما، من اهالي قرية ماردوه «ان القصف الايراني ما برح مستمرا على قرى المنطقة ولكن بشكل متقطع وان مسلحي بيجاك يمرون عبر تلك القرى مر الكرام ولا يقبلون اي مساعدة من القرويين، وان ايران تستهدف القرى لمجرد إيذاء القرويين الكرد فقط وان حججها بوجود مسلحي بيجاك في قرانا واهية ولا اساس لها من الصحة». وتقول عائشة خضر، 36 عاما، إن العديد من العوائل والاسر عادت الى قراها بالرغم من استمرار القصف عليها وفضلت الموت هناك على العيش في هذه الخيام القذرة، كما ان بعض المزراعين والرعاة عادوا بما تبقى من مواشيهم الى القرى المدمرة ليبقوا قريبين الى مزارعهم ويناوبوا فيما بينهم على رعاية مصالحهم هناك».

وتابعت تقول «لم نتمكن من العيش في القصبات والبلدات البعيدة لأننا لا نملك منازل هناك او مالا نستأجر بها بيوتا ولا اقارب لنا لنلجأ اليهم، وهنا فان الرعب يطاردنا في كل لحظة ونخشى ان يطالنا القصف الايراني ثانية، وها قد عاد الشتاء القارس ونحن في العراء ونتطلع الى اليوم الذي تهب في حكومة الاقليم لنجدتنا وانقاذنا من الموت المحتم بردا لو حل الشتاء دون ان نجد مأوى مناسبا». أما الحاج حمد حسين حسن، 52 عاما، من اهالي قرية سوره كلة، واب لأحد عشر طفلا، فقد اكد انه كان يملك منحلا يضم اكثر من خمسين خلية نحل مع العشرات من رؤوس الماشية تركها جميعا تحت رحمة القصف المدفعي وغارات الطائرات التركية، مشيرا الى ان خسائره المادية تقدر بنحو 15 الف دولار، وقال «لم نحظ حتى الان بأية رعاية من جانب حكومة الاقليم باستثناء زيارة المحافظ الذي منح كل عائلة مبلغ 200 الف دينار عراقي ما يعادل 150 دولارا، اما المساعدات الانسانية والمؤن الغذائية فنحصل عليها من منظمة الصليب الاحمر الدولية التي توفر لنا مشكورة الغذاء بانتظام مع الخيام والمستلزمات الضرورية الاخرى». وبخصوص ما ينوون فعله فيما لو حل الشتاء وظل الحال على ما هو عليه الان قال الحاج حسن «لا حول لنا، فلنمت بردا نحن واطفالنا او تجرفنا السيول، فماذا عسانا ان نفعل بعد ان فقد كل شيء». وفي احدى الخيم التقينا بسعيد ابراهيم خضر، 36 عاما، من اهالي قرية سبيه كله، واب لطفلة واحدة في الثالثة من عمرها، وهو طريح الفراش يعاني من شلل تام في اطرافه الاربعة اصيب به منذ عامين نتيجة سقوطه من فوق احدى اشجار التوت ما ادى الى كسر في احدى فقرات عنقه وجروح عميقة في الحبل الشوكي، وناشد خضر المسؤولين في حكومة الاقليم والمنظمات الانسانية والجهات الخيرية مد يد العون اليه ومساعدته على تغطية تكاليف العملية الجراحية التي قال ان الاطباء اكدوا له في البداية بانه سيشفى كليا اذا اجريت العملية التي تكلف 5 الآف دولار فقط، واضاف ان طبيبا متخصصا في جراحة الاعصاب اكد ان نسبة شفائه تزيد عن 50% حاليا اذا خضع للجراحة، لكن قلة المال هي العائق، منوها الى ان ابنته الصغيرة هي التي تساعده في الغالب على تناول الطعام وشرب الماء وتبكي باستمرار حزنا على وضعه الذي تشعر وتتألم به كثيرا. ويقول وشيار مصطفى، مسؤول الدائرة الاعلامية في فرع السليمانية لمنظمة الصليب الاحمر، ان منظمته دأبت منذ نزوح تلك العوائل على تأمين المؤن الغذائية لها باستمرار الى جانب المستلزمات المعيشية الاخرى كالخيام والادوية وغيرها «وسنواصل تقديم المساعدة للنازحين طالما وجدوا هناك، وفي حال عادوا الى ديارهم وقراهم فان منظمتنا ستعمل على تعويض جانب من الخسائر المادية التي لحقت بهم مثل توفير خلايا النحل لأصحاب المناحل المتضررة واشجار الفاكهة لأصحاب البساتين والمواشي للمزارعين ومربي المواشي القصف». وحول إمكانية إقامة مجمع سكني يأوي هولاء النازحين قال مصطفى «هذا الامر ليس من اختصاص او شأن منظمة الصليب الاحمر بل من شأن حكومة الاقليم في المقام الاول، ولكن المنظمة ستقدم المساعدة في هذا المجال بلا شك فيما لو عمدت الحكومة الى انشاء ذلك المجمع لاسيما ان المنظمة تدرس حاليا مشروع بناء وحدة صحية في قرية رزكة ومشروع اعادة بناء المنازل التي دمرها القصف إلا ان القرار النهائي بهذا الصدد لم يتخذ بعد وهو منوط بتحسن الوضع الامني في المنطقة».