الانتخابات الأميركية ـ عقل وول ستريت مع ماكين.. وجيبه مع أوباما

تبرعات القطاع المالي والمصرفي لأوباما فاقت تلك المقدمة لماكين

أميركيون يمرون أمام مبنى البورصة الأميركية في وول ستريت (إ.ب.أ)
TT

«العاملون في وول ستريت معظمهم يؤيدون الحزب الجمهوري بسبب سياسته الضرائبية المنخفضة».. اجابة تتردد كثيرا في هذا الشارع الذي اصبح اسمه منذ بضعة اسابيع مرادفا للأزمة الاقتصادية. ابتسامة محنكة وهزة كتفين لا مبالية، تبدو ايضا اجابة تقليدية يعطيها الكثيرون في وول ستريت عن سبب تفضيلهم للحزب الجمهوري. إلا ان بعض الموظفين الذين يعملون في هذا الشارع، معظمهم في مناصب غير ادارية، يقولون انهم من مؤيدي الحزب الديمقراطي، بعضهم لانهم من الذين لا يستفيدون كثيرا من سياسة الضرائب المخفضة التي يعتمدها الحزب الجمهوري، والبعض الاخر لانه يقول إن «السياسة الاقتصادية للادارة الاميركية الحالية التي اوقعت البلاد في دين عام وصل الى 455 مليار دولار اميركي، هي سياسة فاشلة ويجب تغييرها»، انطلاقا من مبدأ ان اقتصادا قويا يولد أسواقا مالية ثابتة. الإجابات المختلفة التي تحصل عليها في وول ستريت حول الميول السياسية للعاملين فيها، قد تبرر أرقام التبرعات التي قدمها متبرعون يعملون في القطاعين المالي والمصرفي للمرشحين في الانتخابات الرئاسية، والتي قاربت العشرة ملايين دولار للمرشح الديمقراطي باراك اوباما مقابل سبعة ملايين للمرشح الجمهوري جون ماكين، بحسب احصاءات لـ «مركز السياسة المسؤولة» الاميركي. ولكن هل يمكن اعتبار هذه الارقام مؤشرا لميول وول ستريت السياسية ولبداية انقلاب ميولهم نحو الحزب الديمقراطي والتخلي عن حزبهم التقليدي (الحزب الجمهوري)؟ وهل هذا يعني ان وول ستريت يفضل ان يرى رئيسا ديمقراطيا في البيت الابيض؟

في اكتوبر (تشرين الاول) من العام الماضي، خلال الانتخابات التمهيدية، كتب لاندون توماس في صحيفة «هيرالد تريبيون» أن جايسون رايت، (مدير تنفيذي في «ميريل لينش»)، هو رجل ديمقراطي ومن المتبرعين النشيطين في حملة أوباما، ولكنه تبرع لماكين خلال الانتخابات التمهيدية بمبلغ 2300 دولار، وهو المبلغ الاقصى المسموح للأفراد بالتبرع به لمرشح للانتخابات. وتعليقا على هذا التبرع المزدوج، قال رايت إنه ليس من مؤيدي ماكين ولكن لديه «أصدقاء كثيرين ينتمون الى الحزب الجمهوري ويتبرعون بدورهم للحزب الديمقراطي». رايت ليس الوحيد في وول ستريت الذي يعتبر من «المتبرعين المزدوجين». فهناك الكثيرون غيره مثلا الجمهوري ريتشارد فولد، (الرئيس التنفيذي لـ«ليمان براذرز») الذي أعلن افلاسه في 15 سبتمبر (أيلول) الماضي، والذي تبرع خلال الانتخابات التمهيدية بـ2300 دولار أميركي لكل من ماكين واوباما وهيلاري كلينتون وكريس دود الذي ترشح للفوز بتسمية الحزب الديمقراطي. وكتب توماس أن الامر بالنسبة لهؤلاء العاملين في القطاع المالي ليس آيديولوجية معينة بقدر ما هو كتابة شيكات لمرشحين سياسيين لتأدية خدمة لصديق أو شريك في العمل.

ويليام غالستون، (كان من كبار مستشاري الرئيس بيل كلينتون، ويعمل اليوم كخبير في شؤون السياسة الاميركية في معهد بروكينغز في واشنطن) يقول إن ميول العاملين في القطاع المالي أكثر ديمقراطية مما يعتقد البعض، وان علاقات وثيقة تربط مثلا بين غولدمان ساكس والحزب الديمقراطي منذ مدة طويلة، حتى قبل وقوع الازمة الاقتصادية في منتصف سبتمبر. ويضيف أن العاملين في القطاع المصرفي يفهمون ان الاقتصاد القوي وقطاعا عاما قويا مترابطان ولا يناقضان بعضهما. ويضيف غالستون أن ميول وول ستريت قد تكون حتى أكثر ديمقراطية لان ولاية نيويورك ليبرالية وتؤيد الحزب الديمقراطي، بينما قد يميل أفراد من الطبقة الغنية يعملون خارج القطاع المالي الى الحزب الجمهوري.

وبطريقة اكثر بساطة، كما وضعها، وجون فورتييه من معهد «اميركان انتربرايز»، «الاموال تتبع الفائز». ولكنه يضيف ان العاملين في وول ستريت لا يصوتون دائما تبعا لمصالحهم الاقتصادية الخاصة، ويشبه صوتهم بصوت الطبقة العاملة البيضاء التي تفضل الحزب الجمهوري بسبب أفكاره المحافظة، رغم انها تستفيد اكثر تحت حكم رئيس ديمقراطي. ويضيف ان الامر هو ذاته «بالنسبة للطبقة الغنية والمثقفة، فالكثيرون منهم يصوتون للحزب الديمقراطي الذي يؤمن بتوزيع الثروات علما بأنهم لا يحتاجون الى ذلك... بالنسبة للبعض، الامر اكثر من سبب شخصي اناني، ويتعلق بمبادئ ونظرة معينة».

إلا ان كين غولدشتاين (خبير اقتصادي من مؤسسة «كونفرانس بورد» في نيويورك) يقول ان اموال التبرعات لا تعني بالضرورة ان المتبرع سيصوت للشخص الذي قدم له الاموال. ويعتبر ان وول ستريت الذي تأسس بهدف ادارة أموال المواطنين، أصبح مهتما اليوم أكثر بادارة أمواله الشخصية. «الحزب الجمهوري هو حزبهم، ولا يتخلون عنه».. يقول غولدشتاين. فهو الحزب الذي يقدم لهم ضرائب منخفضة ولا يقيدهم بقوانين تحد من أرباحهم. وبحسب استطلاع للرأي اجراه موقع «شيف أغزكتيف» (أو الرئيس التنفيذي) بين المديرين التنفيذيين في سبتمبر الماضي، شارك فيه 751 مديرا تنفيذيا، قال كل اربعة مديرين مقابل واحد انهم يفضلون جون ماكين، و74 في المائة منهم قالوا انهم يخشون عواقب فوز اوباما، مقابل 19 في المائة فقط قالوا انهم يخشون عواقب فوز ماكين. كما ان استطلاعا للرأي أجرته «كومبلينت»، وهي شركة تقدم خدمات مالية عالمية، على الافراد العاملين في وول ستريت، بيَّن ان ماكين يطمئنهم اكثر من اوباما. وقال 57 في المائة من المستطلعين ان ماكين سيوفر الطمأنينة لوول ستريت بينما قال 24 في المائة ان اوباما يطمئنهم اكثر. وسئل المستطلعون ايضا عن رأيهم بتدخل الحكومة في وول ستريت، وبينت الاجابات ان الحزب الجمهوري هو الحزب الذي يطمئن القطاع المالي، وقال 65 في المائة ان الحزب الجمهوري افاد سوق الاسهم اكثر تاريخيا، مقابل 35 في المائة قالوا ان الحزب الديمقراطي افاد سوق الاسهم اكثر.

وعلى الرغم من ان ماكين ليس خبيرا اقتصاديا، لا بل انه هو نفسه اعترف انه بحاجة الى تثقيف في الاقتصاد وان معلوماته في هذا المجال أقل بكثير من معلوماته في مجال السياسة الخارجية والدفاع، فهو لا يزال يحظى بثقة أكبر لدى المستثمرين. وقد يكون خوفهم من اوباما هو سبب اطمئنانهم لماكين أكثر، ذلك ان حديث اوباما عن «توزيع الثروات» وخطته لاقتطاع الضرائب عن كل الفئات تقريبا، باستثناء الطبقة الغنية، يثير مخاوف هذه البعض في هذه الطبقة الذين سيكون عليهم وحدهم دفع ضرائب اكثر من الفئات الباقية. ولكن غالستون يقول ان العاملين في وول ستريت يبدو أنهم يشعرون بأمان اكثر في ظل حكم رئيس جمهوري، إلا ان هناك دراسات تشير الى ان الوضع الاقتصادي الاميركي وسوق الاسهم يعملان بشكل أفضل في ظل حكم رئيس ديمقراطي في البيت الابيض.

إيليوت باركر من جامعة نيفادا قال في تقرير في العام 2006، انه منذ العام 1949، كانت الادارات الديمقراطية افضل من الادارات الجمهورية، وفي السنوات التي حكم فيها رؤساء ديمقراطيون، كانت نسبة البطالة أقل وظهرت فرص عمل أكثر وكان معدل نمو الناتج الإجمالي المحلي أكثر ارتفاعا. وفي العام 2000، بينت دراسة أعدها بيدرو سانتا كلارا وروسن فالكانوف، من جامعة كاليفورينا في لوس أنجليس، ان متوسط فائض العائدات في سوق الاسهم كان خمس مرات اكثر ارتفاعا في ظل حكم رئيس ديمقراطي مقارنة برئيس جمهوري. كما ان الدراسة اظهرت ان السوق المالية في ظل حكم رئيس جمهوري تكون اكثر تقلبا، بسبب توقعات انخفاض التضخم في ظل ادارات يمينية. وسبب ذلك ان التجار يزيدون من تدفق رأس المال والاستثمار في السوق لانهم يعتقدون ان اسعار الفائدة المنخفضة تشكل بيئة اكثر ودية للاسواق.

وتناول سانتا كلارا وفالكانوف أيضا في تقريرهما تأثر السوق المالية باقتراب الانتخابات الرئاسية، فوجدا ان السوق لا يتقلب قبيل وبعيد الانتخابات، الا انهما لاحظا ان العكس قد يكون صحيحا. وكتبا ان الناخبين قد يشعرون بانهم مرتاحون ماديا عندما تكون اسعار الاسهم مرتفعة، فيصوتون لمرشح الحزب الجمهوري، وعندما تكون اسعار الاسهم منخفضة، فانهم يصوتون للحزب الديمقراطي. وإذا كان وول ستريت يفضل الحزب الجمهوري بسبب القيود الاقل والضرائب المخفضة والسوق الحرة، رغم ان دراسات تشير الى ان السوق كانت افضل في ظل رئيس ديمقراطي، إلا ان الامور قد تكون أكثر تعقيدا في الولاية الجديدة، حتى ولو كان الرئيس من الحزب الجمهوري. فبعد الازمة المالية التي بدأت تهز الولايات المتحدة منذ منتصف سبتمبر مع إعلان «ليمان براذرز»، رابع اكبر مصرف اميركي، افلاسه، بات ينتظر من الرئيس المقبل، جمهوري ام ديمقراطي، ان يفرض قيودا أكبر على الشركات المالية والمصرفية ويطبق قوانين الشفافية بطريقة اكثر فعالية، خصوصا ان كلا المرشحين تحدثا عن «طمع» وول ستريت وسوء الادارة. فأوباما وضع اللوم على ادارة بوش وحملها المسؤولية الكاملة عن الازمة الاقتصادية بسبب عدم فرض رقابة على القطاع المالي، فيما حمل ماكين رئيس لجنة البورصات والاوراق المالية كريستوفر كوكس مسؤولية الازمة وقال انه اذا انتخب رئيسا فانه سيقيله من منصبه بسبب فشله في الاشراف على وول ستريت، وميز نفسه بذلك عن الرئيس جورج بوش الذي قال انه لا يزال يثق بكوكس.

ويقول فورتييه: «أيا كان الرئيس فسنرى قوانين تربط عمل وول ستريت اكثر». ولكنه يضيف انه في حال فوز اوباما، فان مخاوف وول ستريت ستكون اكبر لأن الادارة ستكون موحدة وقوية مع وجود كونغرس ديمقراطي، بينما اذا فاز ماكين ستكون هناك مشاورات وتنازلات بين الحزبين لان الكونغرس سيكون ديمقراطيا، واعتماد حلول وسط لن يقيد وول ستريت بالطريقة نفسها التي ستقيده فيها ادارة ديمقراطية كاملة.

ولكن كيف سيتمكن الرئيس المقبل، اوباما ام ماكين، من فرض القيود اللازمة على وول ستريت، في وقت يقبل كلاهما تبرعات من القطاعين المالي والمصرفي بالملايين؟ قد لا تكون مسألة التبرعات التي تقدم للمرشحين من افراد يعملون في وول ستريت، ذات اهمية وتأثير كبيرين على سن قوانين أكثر تشددا لمواجهة وول ستريت، إذا اخذنا بعين الاعتبار أن الحد الاقصى لأي متبرع لكل مرشح لا يمكن ان يتعدى الـ2300 دولار خلال الحملة الانتخابية. إلا انه اذا حسبنا الاموال المقدمة من القطاع المالي بصورة عامة، قد تصبح الارقام ذات اهمية.

ولكن حتى في الحالة الثانية، يستبعد فورتييه ان يكون لوول ستريت تأثير كبير لجهة الحد من حرية الرئيس المقبل على طرح قوانين اكثر تشددا، ذلك ان صناعات كثيرة في الولايات المتحدة، اضافة الى «صناعة المال»، تقدم تبرعات كثيرة للمرشحين. ويقول: «هناك صناعات كثيرة مختلفة، وأحيانا مصالحها تتناقض، تقدم تبرعات للمرشح، على سبيل المثال شركات الهاتف وشركات الكابلات، كلاهما تقدمان تبرعات كبيرة ولهما مصالح متناقضة. وهذا لا يعني ان أيا من هاتين الشركتين يمكنها فرض قيود على الرئيس بسبب اموال التبرعات». ويضيف ان القطاع المصرفي قد يكون له تأثير ولكن ليس لدرجة ان يمنع الرئيس الجديد من فرض القيود التي يريد، «فالوضع السياسي يفرض ضغوطا اكبر على الرئيس المقبل لوضع قيود على وول ستريت».

قد لا يكون وول ستريت قادرا على التحكم بارادة الرئيس الجديد ومنعه من اتخاذ تدابير تفرض مراقبة أعلى على القطاع المالي، إلا ان المشاورات قد تكون بدأت بين «اللوبي المالي» وكل من حملتي ماكين واوباما لدرس التدابير المرتقبة التي لم يعد من مهرب منها. ولكن ـ كما قال فورتييه ـ فان وجود الحزبين في السلطة، أفضل لوول ستريت الذي يستفيد حينها من اختلافات الرأي بين الحزبين ويحظى بذلك بـ«عقوبات» مخففة.

* غدا : بوصلة السياسة الخارجية