نصف أوباما الأسود.. ورقة رابحة

في انتخابات لم يتحدث فيها المرشحان علانية عن اللون أو العرق.. كيف تحول لون المرشح الديمقراطي إلى أحد أسباب قوته؟

أميركيون سود يدلون باصواتهم في أتلانتا أمس (أ ب)
TT

تقول الكاتبة الاميركية توني موريسون في وصف باراك اوباما: «اوباما أسود.. بثقافة بيضاء». فهو ليس أسود بالمعنى الثقافي للكلمة. لم يخرج من قلب حركة الحقوق المدنية في اميركا التي كانت مثقلة بالغضب بسبب التفرقة العنصرية. لم يدخل اوباما السجن، ولم يضرب، لم يطرد من باص للبيض، لم يدخل لجامعة هارفارد وسط حراسة الشرطة خوفا من اعتداء البيض عليه، اجداده لم يكونوا من العبيد قبل إلغاء العبودية في اميركا. كما أن اوباما ليس اسود بالمعنى العرقي، فهو عرقيا مخلط بين أم اميركية بيضاء وأب افريقي وبالتالي هو ليس أسود مائة في المائة. لكن برغم ان اوباما مختلط العرق وليس أسود تماما، الا ان اللون الاسود خدم اوباما أكثر مما كان يمكن ان يتصور اي شخص. فإذا كانت استطلاعات الرأي العام في اميركا أشارت أمس الى ان نسبة البيض الذين سيصوتون لاوباما ستبلغ نحو 46% مقابل نحو 49% لماكين، فإن تصويت السود لاوباما يتجاوز 85% مقابل اقل من 15% لماكين. وهذا الفارق الهائل يمكن أن يصنع كل الفرق في الانتخابات. لكن لماذا هذا التأثير الكبير للون في حملة تعمد كلا الطرفين فيها أن لا يتطرقا الى اللون، على الأقل شكليا؟ فلم يتحدث اوباما عن اللون او العرق في هذه الانتخابات الا نادرا. ففي مطلع هذا العام وقبل حسم المنافسة بينه وبين هيلاري كلينتون على ترشيح الحزب الديمقراطي، قال اوباما في ولاية فيلادلفيا حول الانقسامات العرقية في اميركا وتاريخها الحساس، مشيرا الى كونه «نصف اسود.. ونصف ابيض» قائلا: «أنا ابن لرجل اسود من كينيا وامرأة بيضاء من كنساس... لا يمكنني ان أنسى قصتي.. لا يمكنني التنكر للمجتمع الاسود، ولا لجدتي البيضاء.. وهي امرأة تحبني اكثر من أي شيء في العالم إلا انها اقرت في يوم من الايام انها تخاف من الرجال السود الذين يمرون في الشارع». أما ماكين فلم يتحدث ابدا عن لون اوباما، مركزا على انتقاد نقص خبرته وميوله الليبرالية. الا ان اللون رغم ذلك كان «المحرك الخفي» في هذه الانتخابات للكثير من التوجهات التصويتية للناخبين. وكانت المفاجأة ان نصف اوباما الأسود، خدمه أكثر من نصفه الأبيض. ففي أوساط السود في اميركا معدلات الفقر والبطالة هى الاعلى بين باقي فئات العرق، إذ يسجل الاميركيون السود اقل معدل لمتوسط العمر، كما ان عدد الاميركيين السود في السجون يصل الى ستة اضعاف من عدد السجناء الاميركيين البيض. ويولد طفل من كل ثلاثة اطفال سود عند مستوى الفقر. والكثير من الاميركيين مازالوا يتذكرون كيف كان أجدادهم عبيدا. فالعبودية لم تنهى في اميركا فعليا الا عام 1860 عندما تم الغاء العبودية قانونيا، وعندما تم الغاؤها كان 89% من الاميركيين السود عبيد، وكانت نسبة الافارقة الاميركيين آنذاك نحو 14% من تعداد اميركا. اليوم يبلغ عدد الافارقة الاميركيين أكثر من 37 مليون نسمة، بنسبة 12.3% من سكان اميركا، وهم يتوزعون بين سود من اصول لاتينية، وسود من اصول افريقية والكثير منهم مازال يعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة بالرغم من أن الاميركيين السود استفادوا من انجازات حركة الحقوق المدنية وارتفعت أعداد من ينتمون منهم للطبقة الوسطى. ففي عام 2000 كان 47% من الاميركيين السود يمتلكون منازلهم، كما نخفضت نسبة الاميركيين السود الذين يعيشون في حالة فقر من 26.5% عام 1998 الى 24.7% عام 2004. وبين الاقليات العرقية في اميركا، احتل الاميركيون السود المرتبة الثانية بعد الاميركيين من أصل اسيوي في متوسط الدخل السنوي. وبالرغم من محاولات المجتمع الاميركي التخلص من الافكار العنصرية المسبقة فانها لاتزال موجودة بعد اربعين عاما على اغتيال مارتن لوثر كينغ. وتظهر دراسة اجرتها جامعتا سان دييغو وشيكاغو ان الاصل العرقي والانتماء العنصري او اللون يمكن أن «يلعبا دورا اكبر مما يظن كثيرون في الطريقة التي يتم بها النظر الى المرشحين». وتضيف الدراسة ان «مرشحا أسود يتم النظر اليه ضمنا باعتباره أقل اميركية من مرشح ابيض». ولهذا تؤكد شخصيات سوداء مرموقة انها تعي لماذا كان اوباما بحاجة الى استبعاد المسألة العنصرية من حملته لكنهم يعتبرون أن هذا الخيار يثير العديد من علامات الاستفهام حول التزامه تجاه الاميركيين السود. لكن بالرغم من عدم تحدث اوباما كثيرا عن مسألة اللون، الا ان اللون حاضرا جدا في هذه الانتخابات. فأوباما بالنسبة الى أوساط السود في اميركا «المحرك» الذي يمكن أن يعيد تشكيل «الصور النمطية» عنهم. فعندما زل لسان جو بيدن، المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس، وقال ان اوباما هو أول أسود نظيف ومنظم ومرتب الهندام يقابله لم يكن بيدن يتحدث بلغة لا يعرفها اميركيون اخرون، فجزء من الصورة النمطية عن السود في اميركا هو أنهم كسالى او غير منظمين او غير طموحين او ناشطين او اذكياء. وسواء فاز اوباما او لم يفز، فإن هناك تحولات حدثت بالفعل في الصورة النمطية عن السود في اميركا.

وهذا التحول يظهر في شعور متزايد لدى الاميركيين السود بالثقة في اوضاعهم وفي المستقبل، ويقول مايك جونز ،26 عاما، وهو من الافارقة الاميركيين ويعيش ويعمل في حي هارلم: «لن اصوت لاوباما لانه أسود بالضرورة، بل لانه سيجلب التغيير. اوباما قائد قوى وسينهي الحرب على العراق، وستكون الدبلوماسية الاميركية اكثر فاعلية عموما». ويوضح جونز متحدثا حول تأثير اللون لـ«الشرق الأوسط»: «طبعا اشعر بالفخر لان اوباما اميركي من اصل افريقي، وهذا يزيد حماسي للتصويت له. لكن في الانتخابات لا اصوت بسبب اللون مثلا فقط. انا على سبيل المثال من مؤيدي عمدة نيويورك السابق رودلف جولياني، وهو جمهوري، لان جولياني فعل الكثير من اجل نيويورك ومن اجل هارلم». بدوره يقول جاستين، من مؤيدي اوباما، ويعمل على تشجيع الشباب على المشاركة السياسية في منظمة باسم «إذا لم تصوت.. لن يكون لك صوت»: ان لون اوباما ليس السبب الاول للتصويت له لكن اللون بين الأسباب، موضحا «حتى اللون يعد مشكلة في النظام التعليمي الاميركي. الافارقة الاميركيين عادة من الشريحة الوسطى والدنيا في الطبقة الوسطى، هؤلاء يذهبون الى مدارس حكومية في المدن الصغيرة، هذه المدارس سيئة. وهى تعيد انتاج شباب غير متعلمين بشكل جيد، وبالتالي يعانون مشاكل اقتصادية. هذه المشاكل يعرفها اوباما، وهو وعد بحلها وسيكون فاعلا لسبب اساسي هو انه يشعر بهذه المشاكل ومر بها.. التحرر من عبء الطبقة او اللون لا يأتي إلا عبر التعليم. الاميركيون الان منقسمون ومعزلون، وهذا يجب ان يتغير. واوباما قارد على هذا». اما شكا فوفانا وهو ايضا اميركي من اصل افريقي، من غينيا، ويعيش في هارلم، فيعترف ان اللون كان عاملا لاهتمامه باوباما في بداية الحملة الانتخابية، غير أنه يوضح لـ«الشرق الأوسط» ان موقفه تبلور لاحقا بسبب طريقة معالجة اوباما للاقتصاد وافكاره حول انسحاب اميركا بشكل متدرج من العراق. ثقة الاميركيين الافارقة السياسة هذا العام جاءت مصحوبة بـ«ثقة اقتصادية» بدأت تأتي ثمارها بعد سنوات بيل كلينتون في البيت الابيض. فالكثير من المشروعات الانمائية التي دشنها كلينتون في هارلم جعلت ذلك المكان المخيف الذي كان يوما رمزا للعنف والفقر، مركز جذب للطبقة الوسطى. ومن كان يملك بيتا ثمنه 100 الف دولار، اصبح هذا المنزل الان مليون دولار لدرجة أن ساكني هارلم الفقراء يضطرون لمغادرتها الى احياء اخرى في نيويورك لعدم قدرتهم على تحمل تكلفة دفع الايجار مثلا. وبغض النظر عن اولوية الاسباب، فإن غالبية سكان هارلم سيصوتون لاوباما بسبب رأيه في القضايا الاساسية في هذه الانتخابات.. وبسبب لونه ايضا. فهناك شعور جماعي لدى الاميركيين الافارقة خلال هذه الانتخابات ان عام 2008 بداية جديدة للافارقة الاميركيين، تشبه بداية نجاح حركة الحقوق المدنية. والدليل على هذا انه وبالرغم من ان صناعة الترفية والفن والموسيقى والافلام في اميركا يحتل فيها النجوم السود الصفوف الاولى، الا ان ترشيح اوباما أثر عليهم ايضا، فوفقا لملاحظة محطة سى ان ان الاميركية، فإن الكثير من نجوم الهيب هوب في اميركا تصرفوا بطريقة ملتزمة جدا خلال العام الحالي فيما يتعلق بالسلوك الشخصي رغبة منهم في عدم الاساءة الى «صورة السود» او الاساءة لحملة اوباما. وإذا كان تصويت «غالبية» السود في اميركا محسوم لاوباما للون وأشياء اخرى، فإن تصويت «اقلية» من البيض لن يكون لاوباما للون وأسباب اخرى. ففي مقر الحزب الجمهوري في كلفلاند يقول روبرت فروست وهو أحد أنصار المرشح الجمهوري جون ماكين أن ولاية مثل أوهايو قد تتجه عموما للجمهوريين، ليس بسبب لون اوباما كما يعتقد البعض، بل لان هناك خوفا حقيقيا من تأثير عدم خبرة اوباما. ويتابع: «أنا اقبل ان الاميركيين ليسوا سعداء بالحرب على العراق. لكن سبب الغضب ليس الحرب نفسها، بل طريقة ادارتها. الاميركيون ارادوا نجاحا اكبر. ماكين يمكن أن ينهي الحرب على العراق بطريقة فعالة، فهو لديه الاستراتيجية وسيعمل مع الحكومة العراقية، بينما أوباما لا يملك الخبرة ولا الادوات لإنهاء الحرب بفاعلية». الا ان فروست لا يقلل من أهمية أصوات لن تصوت لاوباما بسبب اللون. فهل يقلق هذا السود الاميركيين؟ نعم.

ولهذا فإن حملة اوباما عمدت الى جذب اصوات اللاتينيين في اميركا، فاوباما لا يمكن ان يكسب الانتخابات باصوات السود فقط، لكنه يمكن ان يكسب بأصوات السود واللاتينيين معا. وربما تبدو المؤشرات في صالحه، بالبرغم من التنافس التاريخي بين السود واللاتينيين، الا ان الكثير من اللاتنيين يدعمون اوباما.

وتقول الكسندرا مانديز وهي اميركية من أصل لاتيني، عمرها 25 عاما وستصوت لاول مرة في حياتها في هذه الانتخابات لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كان لدى اميركا عمى ألوان، فسيتم انتخاب رئيس أسود». إذا اللون حاضرا جدا في هذه الانتخابات، وهو خدم اوباما حتى الان.. سواء فاز أو خسر.