كيف خسر جون ماكين معركة البيت الأبيض؟

اللقاء الأخير بين المرشح الخاسر وبالين كان جافا.. وبالكاد تبادلا السلام

ماكين يهدئ مناصريه في أريزونا خلال اعلانه خسارته وتبدو الى يمينه سارة بالين (أ.ب)
TT

عندما صعد جون ماكين، المرشح الجمهوري الخاسر للانتخابات الرئاسية الاميركية، الى المنصة الرئيسية أمس ليتوجه بكلمة أخيرة الى مناصريه في أريزونا، ويعترف بخسارته، كانت سارة بالين، حاكمة ولاية آلاسكا التي اختارها لتترشح معه كنائبة للرئيس، واقفة الى جانبه. صعد كلاهما الى المسرح، ماكين برفقة زوجته سيندي، وبالين برفقة زوجها تود. كانا يبتسمان، ابتسامة الخاسر. ولكن شيئا آخر كان حاضرا بينهما في ظهورهما الاخير معا، لم يتعانقا كما جرت العادة بينهما كلما كانا يصعدان الى المسرح. تبادلا التحية في ختام كلمة ماكين.. بالكاد. مدّ ماكين يده لها من دون أن يقترب منها. السلام كان سلاما جادا.. وباردا. شكرها بالطبع.. ولكن الشكر كان قصيرا وفي ختام كلمته بعد أن شكر زوجته وأعضاء حملته والناخبين الذين صوتوا له...

فهل يدل هذا المشهد على أن ماكين يحمّل حاكمة ولاية آلاسكا مسؤولية خسارته؟ ماكين نفسه ربما يعلم أن سبب خسارته أكبر من بالين نفسها، إلا ان التعليقات التي صدرت عن الفريق المحيط بسناتور أريزونا منذ أيام، تدلّ على استياء واضح من المرأة التي «تتصرف كنجمة وترفض الاستماع الى أحد». لا شك أن فريق ماكين يحمل بالين جزءا من مسؤولية خسارة ماكين، وحتى تراجعه في استطلاعات الرأي قبل الاقتراع. فحديث أحد مستشاري ماكين الذي رفض الكشف عن هويته، لتلفزيون الـ«سي إن إن»، عن «تمرد» بالين وفريقها، وعن خروجها عن النصوص المتفق عليها، والحديث عن طموحها ما بعد الحملة الانتخابية.. كلها مؤشرات كشفت التوترات التي كانت تخيم على العلاقات بين ماكين والمرأة التي اختارها للترشح معه، ليس بسبب خبرتها في الاقتصاد ولا السياسة الخارجية، بل لانها امرأة ولانها محافظة.

فهو كان يعرف انه لن يتمكن من الفوز بأصوات الجمهوريين المحافظين التي تعتبر القاعدة الاساسية للحزب الجمهوري والتي أوصلت جورج بوش الى البيت الابيض مرتين. فماكين بالنسبة اليهم أكثر ليبرالية مما يحتملون. لا يعتبرونه واحدا منهم. وحتى هو نفسه لا يعتبر نفسه واحدا منهم. فهو منذ بداية الحملة كان يرسم لنفسه صورة «المستقل» والجمهوري غير التقليدي. وكان اختيار بالين بسبب «استقلاليته» هذه. كان يريد ان يجذب المستقلين من خلال «استقلاليته»، والمحافظين والنساء ربما، من خلال سارة بالين. الخطتان لم تنجحا بشكل كامل. بالطبع تمكت بالين من لمّ المحافظين خلف تذكرة الجمهوريين، إلا انها لم تتمكن من لمّ اصوات النساء. فالجمهوريون ظنوا أن باستطاعتهم جذب النساء الديمقراطيات حتى اللواتي استأن من خروج هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية، إلا ان بالين لم تستطع ان تحقق ذلك. نساء هيلاري لم تجذبهن بالين. فهي تختلف كثيرا عن المرأة التي دعموها، وبالنسبة اليهم ان تكون امرأة فقط لم يكن كافيا. فمقابل ليبرالية هيلاري كلينتون التي تؤمن بزواج المثليين وحق المرأة في الاجهاض، هناك بالين المرأة التي فضلت انجاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة على اجراء عملية إجهاض، وفضلت ان ترى ابنتها القاصر حاملا على ان تدعها تجري عملية اجهاض. المهمة الاولى لبالين، اجتذاب اصوات المحافظين، نجحت. ولكن المهمة الثانية، اجتذاب اصوات النساء، فشلت. ولكن الامر لم يتوقف هنا. فهي في الوقت الذي تمكنت فيه من اعادة المحافظين الى تذكرة الجمهوريين، أبعدت المستقلين الذين اعتبروها غير مؤهلة، ولكن الاخطر أنها أبعدت أيضا بعض الجمهوريين. فقبل ثلاثة أيام من يوم الاقتراع، أجرى تلفزيون «إن بي سي» الاميركي استطلاعا بين الجمهوريين حول بالين، وقال 14 في المائة من المستطلعين الذين ينتمون الى الحزب الجمهوري انهم سيصوتون للمرشح الديمقراطي لانهم لا يعتبرون ان سارة بالين مؤهلة لتسلم منصب نائب الرئيس. الافكار السلبية التي بناها الناخبون عن بالين جاءت بعد سلسلة من المقابلات الفاشلة التي أجرتها، وخصوصا مع كاتي كوريك على تلفزيون «اي بي سي». الكثير من إجاباتها بينت جهلا عميقا بالسياسة الخارجية والاقتصاد وقضايا أخرى. وأصبحت بعد تلك المقابلة، الشخصية المفضلة للمقلدين الفكاهيين الذين لم يكن عليهم تغيير الكثير من كلامها لكي يضحكوا جماهيرهم. مثلا عند حديثها عن قرب روسيا من ولايتها آلاسكا وقولها ان هذا سبب فهمها في العلاقات الروسية الاميركية، وعجزها عن تسمية صحيفة واحدة او مجلة سياسة اميركية عندما سئلت عن الصحف والمجلات التي تقرأها بشكل يومي... وكذلك قصة ثيابها الغالية الثمن والـ150 ألف دولار التي صرفها الحزب الجمهوري لإلباسها وتجميلها...

هذه العوامل كلها ساهمت في جعل ماكين يخسر بعض الاصوات، ولكن الكثيرين يناقشون ان الخيار منذ البداية كان خاطئا لسبب واحد هو أن الاقتصاد كان قد بدأ يسيطر على الحملة، وأن ماكين كان عليه اختيار مرشح متخصص في الاقتصاد بسبب عدم درايته الكبيرة هو نفسه بالقضايا المالية والاقتصادية.

فاعتراف ماكين منذ ثلاث سنوات انه لا يفهم بالاقتصاد بالقدر نفسه الذي يفهم فيه بالسياسة الخارجية، لم يغادره طوال الحملة الانتخابية وحتى يوم التصويت. بقيت كلماته هذه راسخة في عقول الاميركيين الذين لم تعد تعني لهم أي قضية باستثناء الاقتصاد، الكثير. يمكن المجادلة بأن بالين كانت أحد أسباب خسارته، ولكن عوامل كثيرة أخرى لم تساعد المرشح الجمهوري أيضا. فالازمة الاقتصادية التي وقعت فيها البلاد، كانت لحظة انقلاب في الحملة الانتخابية. فجأة أصبح الاقتصاد في طليعة اهتمامات الناخبين، ولم يعد العراق ولا الامن القومي ولا الارهاب. وفجأة تحول ماكين من بطل حرب وحامي الولايات المتحدة من خطر الارهاب، الى مرشح لا يفهم بالاقتصاد. هكذا وببساطة، لم يعد الناخبون يعيرون اهتماما لتاريخ ماكين في الجيش، ولمواقفه المتشددة من الحرب على الارهاب، وبدأوا يركزون على جهله في قضايا الاقتصاد. فماكين هو الذي قال بعد يوم من افلاس «ليمان براذرز» ـ رابع أكبر مصرف أميركي، في منتصف سبتمبر (أيلول)، إن اسس الاقتصاد الاميركي قوية، في وقت كان الذعر قد بدأ يسيطر على الاميركيين. وقبل ذلك ببضعة أشهر، قال كبير مستشاريه الاقتصاديين، فيل غرام، بعد أن كانت موجة خسارة الاميركيين لبيوتهم قد بدأت بالتمدد، ان الاميركيين هم «أمة من البكائين.. وان الكساد هو كساد في عقولهم وليس في الاقتصاد». كانت تلك تصريحات لم ترح الاميركيين الخائفين على مدخراتهم وممتلكاتهم.. الخائفين باختصار على تبخر الحلم الاميركي. كان أمامهم مرشح لا يعرف حتى عدد المنازل التي يملكها. لا يفهم بالاقتصاد باعترافه هو. وكبير مستشاريه يعتقد ان الاميركيين مصابون بكساد عقلي. ولكن لعل السبب الاهم الذي أدى الى خسارة ماكين، لم يكن لماكين ولا لحملته او فريقه دخل به. السبب كان جورج بوش، رئيس فاقد لشعبيته بسبب الحرب على العراق والوضع الاقتصادي المتدهور الذي أصبحت الولايات المتحدة عليه في ظل حكمه. وغياب بوش عن حملة ماكين بالشكل الفاضح الذي غاب فيه، قد يكون دليلا على مدى التأثير السلبي الذي تركه بوش على ماكين. فهو لم يظهر بتجمع واحد مع ماكين، ولم يشارك في مؤتمر الحزب الجمهوري إلا عبر رسالة وجهها للمشاركين عبر شاشة من البيت الابيض، وحتى أنه يوم الاقتراع لم يخرج علانية للتصويت بل أرسل صوته عبر البريد. ولكن رغم كل المحاولات التي بذلها ماكين لفصل نفسه عن بوش، لم ينجح. استراتيجية خصمه الديمقراطي كانت واضحة: الوصل بين ماكين وبوش وتصويرهما على انهما واحد. وهذه الاستراتيجية هي التي نجحت وتصويت ماكين تأييدا لقرارات الرئيس بوش في الكونغرس في أكثر من تسعين بالمئة من الحالات، كانت المعلومة التي بقيت عالقة في اذهان الاميركيين المستائين من رئيسهم، يوم التصويت.

وبالاضافة الى بالين والاقتصاد وبوش، كانت هناك عوامل أخرى، ربما أقل أهمية ولكنها قد تكون لعبت دورا في خسارة المرشح الجمهوري. فكبر سن ماكين لم يساعده. كثيرون كانوا يتحدثون عما يمكن أن يصيب رئيسا سيدخل البيت الابيض وهو يبلغ 72 عاما من العمر، ويترك خلفه أهم منصب في العالم لتشغله حاكمة ولاية لم تحصل على جواز سفر الا قبل عامين، وتظن ان خبرتها في العلاقات الروسية الاميركية سببها قرب روسيا لولايتها. كثيرون قالوا ايضا عن ماكين انه لا يتمتع بكاريزما وانه ليس خطيبا مفوها كمنافسه. حملة ماكين قد تكون تلقي أيضا جزءا من اللوم على الاعلام الاميركي الذي لم يهتم بماكين بالقدر التي اهتم بمنافسه الديقراطي. في الواقع، لن تكون حملة ماكين مخطئة، فالإعلام الاميركي صرف لتغطية جولات واخبار اوباما ضعف المبلغ الذي صرفه لتغطية أخبار ماكين. وتكلفت وسائل الاعلام الاميركية 9.6 مليون دولار لتغطية اخبار اوباما مقابل 4.4 ملايين لتغطية أخبار ماكين.

أو ببساطة، قد يكون سبب خسارة ماكين أن الوقت حان لتغيير الحزب الذي قضى ثماني سنوات متتالية في البيت الابيض، وإدخال الحزب الآخر.