انهيار صخري في القاهرة يدفن ماضي وحاضر ومستقبل سيدة مصرية فقيرة

TT

كان خاتم الزواج لدى خطيبها، لكنها فقدت مهرها، حيث انهار جرف الصخور الجيرية ليسحق منزلها ويهدم الحي الذي تقطنه بأكمله منذ شهرين، ما أسفر عن مقتل 200 شخص على الأقل. بدا هذا الصباح وكأنه ينتمي إلى ماض بعيد، لكن ما تزال الجنازات تقام حتى الآن ويظهر أيتام جدد كل يوم عندما يتم انتشال جثة جديدة من تحت الأنقاض. وتمر الأيام على هذا المنوال بين تهامس بأسماء الضحايا داخل الأزقة والشوارع الضيقة الباقية وقلوب حطمها الحزن. لكن قلب سناء عمرو تحطم أربع مرات، ففي الليلة التي وقع بها الانهيار الصخري، عثر على جثة شقيقها. وفي اليوم التالي، عثر على جثة والدها، وهو يحتضن القرآن إلى صدره. وبعد 40 يوماً، عثر على جثة شقيقتها، ووجها موجه للأرض. ورغم أنها كانت متوفاة، لم يكن بها أي تشوهات في ما عدا بعض الكدمات بخديها وبطنها. كما ابتلعت الأنقاض مهر سناء، الذي تضمن ثلاجة وغسالة، ومعه الأمل في أن تتمكن من إتمام زواجها قريباً. وتكمن القيمة الحقيقية للفتاة الفقيرة في مهرها، وليس جمالها. والآن، باتت سناء مدركة جيداً لأن الوقت لم يعد مناسباً كي تتزوج بأحمد، سائق شاحنة وجندي بالجيش المصري. وأجلت شقيقتها الأخرى، سمية، التي فقدت مهرها هي الأخرى تحت الأنقاض، زواجها أيضاً. والآن، تعيش الشقيقتان مع والدتهما وشقيقهما في شقة مؤلفة من غرفتين لم يتم الانتهاء من بنائها وفرتها لهم الحكومة. ولا يوجد بالشقة أثاث أو صور على الجدران أو أي أثر لماضي الأسرة، سوى مجموعة من الحصر التي اقترضوها من أجل تغطية حائط خراساني. وقالت سناء: «هذه العباءة هي كل ما تبقى من أشيائي. لقد فقدت حتى نعلي». وكانت عباءة جميلة بالفعل، مصنوعة من اللون السود مع تطريز فضي وأحمر، بينما طلت يداها المثابرتان من الأكمام، وارتفعت في بعض الأحيان لتخفي ابتسامة، عندما كانت تشعر بحاجة إلى الابتسام، وهو أمر لم يتكرر كثيراً. تبلغ سناء من العمر 23 عاماً، ولم ترتاد المدرسة قط. وحاولت مرات قليلة تعليم نفسها بنفسها، لكنها وجدت الأمر محيراً وشاقاً. وحدث والدها عن فكرة استئجار مدرس لتعليم الأسرة، لكن برحيل والدها، فانه من غير المحتمل أن يحدث ذلك قط. وباتت سناء مقتنعة أن تعلم الرياضيات لن يعيد لها والدها ولن يوقف دموع والدتها. وقالت: «أقضي اليوم بأكمله في محاولة اشغال ذهني (بعيداً عن الحادث). وأعمد إلى الانهماك في غسل الملابس». ومن الواضح أن الملايين يحاولون حرف انتباههم عن واقعهم داخل الأزقة والأحياء الفقيرة القائمة على أطراف القاهرة، وتتنامى في قلبها. ويعيش هؤلاء الأفراد داخل منازل بنيت بصورة غير قانونية منذ عقود مضت عندما نزح الكثيرون من أبناء دلتا النيل والمناطق الصحراوية الجنوبية إلى العاصمة أملاً في الحصول على ملابس فخمة وثروات طائلة. ووجد معظمهم العاصمة التي يبلغ إجمالي تعداد سكانها 17 مليونا شديدة الازدحام، وهي مدينة أشبه بالمتاهة وتعج شوارعها بالضوضاء وأبواق السيارات والأزقة الضيقة التي يغطيها الدخان. وتنتشر بالمدينة أحياء مصنوعة من الأكواخ كتلك التي كانت تقطنها سناء، بنيت على جُرُف صخرية متداعية وتسيل بها مياه الصرف. وعندما تتعرض مثل تلك المناطق لحوادث، تكتمل فصول المأساة، فلا يوجد تأمين أو إعانات، وإنما مجرد أوراق من موظفي الحكومة تتضمن وعوداً لا يتوقع أحد أن يتم الوفاء بها. وفي مدينة يعيش أكثر من 40 في المائة من سكانها في أزقة، يتوه الفقراء بين آذان الصلاة, وآخر التقارير الحكومية التي تتباهى بتحقيق نمو اقتصادي كبير. تعيش أسرة سناء على مبلغ 18 دولار أسبوعياً يتقاضاها شقيقها من عمله في صناعة السجاد. أما والدها فكان يمتلك محلاً لبيع الساندويتشات. ورغم أنه لم يتوافر لديهم الكثير من المال من قبل قط، فإن الأسرة كانت تحصل على ما يكفي لشراء الطعام، ومستلزمات زواج الفتيات تدريجياً. وأبدت الأم فرج الله، التي لم تكن عباءتها مطرزة مثل تلك التي ارتدتها ابنتها، اعتزازها بما تمكنت أسرتها من ادخاره. وقالت الأم: «لقد كانت الأوضاع عسيرة حتى قبل وقوع كل ذلك. ففي بعض الأيام كنا نجد جبناً لنأكله، وأيام أخرى لا. وفي الأيام التي كنا لا نجد فيها مالاً، كنا نأكل الفول. لكننا لم نشعر بالحسد تجاه أي شخص. لقد كان منزلنا مجهزاً بالأثاث وكان لدينا التجهيز اللازم لبناتنا... لكن ذلك كله ضاع الآن. لقد فقدت زوجي. وفقدت اثنين من أبنائي». وأحنت فرج الله رأسها وبكت، فهي كانت على دراية بالخطر القائم، اذ كان الجرف يهتز من وقت لآخر، لكنه كان على هذا الحال منذ عدة عقود. في العام السابق، أثناء توجه فرج الله إلى السوق، وقعت قطعة صخرية عليها أسقطتها أرضاً وأصابتها بجرح بالغ في يدها اليمنى. ومع ذلك، لم تفكر الأسرة في الرحيل لعدم توافر المال اللازم لذلك. وخارج الباب، تجمعت النسوة وسردن قصص حول المنازل المنهارة والأطفال المسحوقين أسفلها، مثل الاثنين اللذين انتشلت جثتاهما من تحت صخرة في اليوم السابق وسلما لوالدتهما. وروت النسوة هذه الحكايات داخل ساحات تملؤها القمامة ومساكن ليس بها أثاث ولا سجاد يخفف من حدة أصوات الضوضاء الصادرة عن المدينة. يعيش خطيب سناء بعيداً عن منطقة الجرف، وهو ابن عمها، ومثلما كان والدها، يعمد إلى فرض حمايته عليها، فلا يسمح لها بالخروج من المنزل كثيراً، أو حتى البقاء في السوق لفترة طويلة. والآن، بات يتعين على سناء تأمل الزواج. وبررت أمها ذلك بأن الوقت غير ملائم للأفراح، علاوة على أنه يتعين على سناء توفير التجهيزات اللازمة للزواج باعتبارها مهرها. لكنها فقدت حتى ماكينة الحياكة الخاصة بها في الحادث، فكيف يمكن لفتاة الزواج بدون ماكينة حياكة؟ وقالت والدتها إن زواجها بأحمد ربما يتم العام المقبل.

* خدمة «لوس أنجلس تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»