خادم الحرمين كشف عن فكرة الحوار بين الأديان التي راودته لأكثر من عامين خلال لقاء منتدى حوار الحضارات بين اليابان والعالم الإسلامي

الملك عبد الله أكد على ما يجمع بين الأديان والمعتقدات والثقافات وتجاوز الخلافات وتقريب المسافات

خادم الحرمين والعاهل الإسباني خوان كارلوس في افتتاح مؤتمر مدريد في الصيف الماضي (إ.ب.أ)
TT

جاءت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في الحوار بين أتباع الديانات، انطلاقا من قناعة راسخة بأهمية الحوار والتواصل. فقد كان خادم الحرمين الشريفين هو من تبني جلسات الحوار الوطني التي انطلقت داخل السعودية وتناولت موضوعات شتى وكسرت محظورات كثيرة. بعدها انعقدت في مكة المكرمة جلسات بين العلماء والمفكرين المسلمين لبحث موضوع الحوار بين أتباع الأديان والحضارات والثقافات، قبل أن تأخذ هذه الدعوة بعدها الدولي من خلال المؤتمر الذي انعقد بمبادرة من خادم الحرمين الشريفين في العاصمة الإسبانية مدريد.

وترجم الملك عبد الله تصميمه على التصدي لمشاكل التباعد وسوء الفهم من خلال الحوار، عندما أطلق مبادرته الهادفة إلى إرساء حوار عالمي حقيقي بين أتباع الأديان والثقافات والعقائد التي ينتمي إليها سكان العالم، مشددا على أن «معظم الحوارات في الماضي فشلت لأنها تحولت إلى تراشق يركز على الفوارق»، معتبرا أن «النجاح في ذلك لا بد أن يتوجه إلى القواسم المشتركة التي تجمع بين الكل».

وأتت الإشارة الأولى التي تؤكد تصميم خادم الحرمين الشريفين على تحقيق هذا الهدف من خلال خطابه الواضح والمعبر الذي ألقاه في مكة المكرمة أثناء استقباله رؤساء بعثات الحج في أواخر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي «في هذه المناسبة الإنسانية العظيمة، أدعوكم، وأدعو كل مَن تصل إليه كلماتي هذه، أن نتذكر ما يجمع بين الأديان والمعتقدات والثقافات، وأن نؤكد على ما هو مشترك، وأن نتمسك بمفاهيم الأخلاق والأسرة، وأن نعود إلى الرب عز وجل. فبهذا نتجاوز خلافاتنا، ونقرب المسافات بيننا، ونصنع سوية عالماً يسوده السلام والتفاهم، ويصبح التقدم والرخاء غرساً نقطف ثماره جميعنا».

وأخذ توجه الملك عبد الله بن عبد العزيز والفكرة التي تعتمل في ذهنه، منحى وطورا آخر، وهو ما عبّر عنه في كلمة ألقاها خلال استقباله المشاركين في المنتدى السادس لحوار الحضارات بين اليابان والعالم الإسلامي، الذي عقد في الرياض في مارس (آذار) الماضي، حيث شدد الملك عبد الله على ضرورة الاتفاق على صيانة الإنسانية من العبث والإشارة إلى ظاهرتي التفكك الأسري وكثرة الإلحاد، ولمح إلى ما يجول في خاطره حول كل قضايا الإنسانية بالقول «قد سنحت لي هذه الفرصة لأطلعكم على ما يجول في خاطري، وأرجو منكم أن تصغوا لهذه الكلمات القصيرة لأقتبس منكم المشورة. فأنا أتأمل منذ سنتين الأزمة التي تعيشها البشرية جمعاء في وقتنا الحاضر. أزمة أخلت بموازين العقل والأخلاق وجوهر الإنسانية، فقد افتقدنا الصدق، افتقدنا الأخلاق، افتقدنا الوفاء، افتقدنا الإخلاص لأدياننا وللإنسانية، كما أن الإلحاد بالرب عز وجل قد كثر وتفشى، وهو أمر مخيف لا بد أن يقابل من جميع الأديان بالتصدي له وقهره، والعمل على عودة المجتمعات إلى الطريق الذي يحفظ كرامة الإنسان والإنسانية ويصون أخلاقها». ولمح إلى أنه قد تبلور في ذهنه أن يطلب من ممثلي أتباع الأديان السماوية الاجتماع للنظر في إنقاذ البشرية، ولفت في خطابه إلى زيارته للفاتيكان ومقابلته البابا، واقتراحه عليه هذه الفكرة، كما أشار إلى عزمه على عقد مؤتمرات وحوارات عالمية للاتفاق على كل ما يكفل صيانة الإنسانية من العبث بها، والتأكيد على ما يجمع بين الجميع من مبادئ الأخلاق، والصدق، والوفاء للإنسانية، وقيم الأسرة. وقال خادم الحرمين الشريفين في كلمته خلال استقباله للمشاركين في المنتدى الذي حمل عنوان «الثقافة واحترام الأديان»، «إذا اجتمعنا واتفقنا إن شاء الله على كل خير، سأتوجه للأمم المتحدة لأعلن عن ذلك على منبرها»، وهو ما تم بالفعل، حيث سيعقد اليوم (الأربعاء) وعلى مدى يومين، مؤتمر «حوار أتباع الأديان والثقافات»، تحت رعاية الأمم المتحدة وبمبادرة من الملك عبد الله بن عبد العزيز. وجاء هذا المؤتمر عقب المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار في مكة المكرمة، والمؤتمر الدولي للحوار في العاصمة الإسبانية مدريد، وتم عقدهما على التوالي في الأسبوع الأول من شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، والأسبوع الثالث من الشهر نفسه، حيث وجه مؤتمر مكة نداء إلى شعوب العالم وحكوماته ومنظماته على اختلاف أديانهم ودعاهم إلى التفاهم ومواجهة مظاهر الظلم والطغيان والاستعلاء، والتعاضد في إنهاء الحروب والصراعات والمشكلات الدولية، والعمل معاً على إشاعة ثقافة التسامح والحوار ودعم مؤسساته وتطوير آفاقه، واعتماده وسيلة للتفاهم والتعاون وتوطيد ركائز السلم العالمي، والكف عن هدر موارد الإنسانية ومواهبها في إنتاج أسلحة الدمار الشامل التي تهدد مستقبل الأرض بالفناء، والتعاون على إشاعة القيم الفاضلة وبناء منظومة عالمية للأخلاق، والسعي معا في عمارة الأرض ووقف الاعتداء على حق الأجيال القادمة في العيش في بيئة نقية من التلوث بأنواعه المختلفة، والحد من أخطاره بالسعي المشترك للتخفيف من آثاره، وترشيد التقدم الصناعي والتقني، والتعاون في إصلاح الواقع الكوني.

وفي حين اعتبر المشاركون في المؤتمر العالمي للحوار من أتباع الديانات والثقافات العالمية، الذي عقد في مدريد، الكلمة التي ألقاها خادم الحرمين الشريفين وثيقة رئيسية من وثائق المؤتمر، خرج المؤتمر بإعلان مدريد الذي أكد على عدد من المبادئ، منها وحدة البشرية وسلامة الفطرة الإنسانية المحبة للخير والمبغضة للشر، مع ضرورة التنوع الثقافي والحضاري بين الناس كسبب لتقدم الإنسانية وازدهارها، واحترام الديانات السماوية، وحفظ مكانتها، وشجب الإساءة لرموزها، ومكافحة استخدام الدين لإثارة التمييز العنصري. كما أكد المؤتمر على أن السلام والوفاء والمصداقية بالعهود، واحترام خصوصيات الشعوب، وحقها في الأمن والحرية وتقرير المصير، هي الأصل في العلاقة بين الناس، وتحقيقها غاية كبرى في الديانات، وفي أية ثقافة إنسانية معتبرة، مع التأكيد على أهمية الدين والقيم الفاضلة، ورجوع البشر إلى خالقهم في مكافحة الجرائم والفساد والمخدرات والإرهاب، وتماسك الأسرة وحماية المجتمعات من الانحرافات. وشدد المؤتمر على أن الأسرة هي أساس المجتمع، وهي لبنته الأولى، والحفاظ عليها وصيانتها من التفكك أساس لأي مجتمع آمن مستقر، كما شدد على أن الحوار من ضروريات الحياة، ومن أهم وسائل التعارف والتعاون، وتبادل المصالح، والوصول إلى الحق الذي يسهم في سعادة الإنسان، إضافة إلى أن الحفاظ على البيئة وعلى طبيعة الأرض وحمايتها من التلوث والأخطار البيئية التي تحيط بها، هدف أساس تشترك فيه الأديان والثقافات.

ورأى مؤتمر مدريد أنه ومن أجل التعاون على تحقيق المبادئ السابقة من خلال الحوار، فإن المؤتمر استعرض مسيرة الحوار ومعوقاته، مستحضرا الكوارث التي حلت بالإنسانية في القرن العشرين، مدركا أن الإرهاب من أبرز عوائق الحوار والتعايش، وأنه ظاهرة عالمية تستوجب جهودا دولية للتصدي لها بروح الجدية والمسؤولية والإنصاف، من خلال اتفاق يحدد معنى الإرهاب، ويعالج أسبابه، ويحقق العدل والاستقرار في العالم.

وأوصى مؤتمر مدريد برفض نظريات حتمية الصراع بين الحضارات والثقافات، والتحذير من خطورة الحملات التي تسعى إلى تعميق الخلاف وتقويض السلم والتعايش، وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة، والتعاون على إشاعتها في المجتمعات، ومعالجة المشكلات التي تحول دون ذلك، ونشر ثقافة التسامح والتفاهم عبر الحوار لتكون إطارا للعلاقات الدولية من خلال المؤتمرات والندوات وتطوير البرامج الثقافية والتربوية والإعلامية المؤدية إلى ذلك، والاتفاق على قواعد للحوار بين أتباع الديانات والثقافات، تكرس من خلاله القيم العليا والمبادئ الأخلاقية التي تمثل قاسما مشتركا بين أتباع الأديان والثقافات الإنسانية لتعزيز الاستقرار وتحقيق الازدهار لبني الإنسان. كما أكدت التوصيات على العمل على إصدار وثيقة من قبل المنظمات الدولية الرسمية والشعبية تتضمن احترام الأديان واحترام رموزها وعدم المساس بها، وتجريم المسيئين لها.

ولتحقيق المقاصد التي ينشدها المؤتمر عن الحوار، اتفق المشاركون على الأخذ بالوسائل الآتية:

ـ تكوين فريق عمل لدراسة الإشكالات التي تعيق الحوار، وتحول دون بلوغه النتائج المرجوة منه، وإعداد دراسة تتضمن رؤى لحل هذه الإشكالات والتنسيق بين مؤسسات الحوار العالمية.

ـ التعاون بين المؤسسات الدينية والثقافية والتربوية والإعلامية على ترسيخ القيم الأخلاقية النبيلة وتشجيع الممارسات الاجتماعية السامية، والتصدي للإباحية والانحلال وتفكك الأسرة وغير ذلك من الرذائل المختلفة.

ـ تنظيم اللقاءات والندوات المشتركة وإجراء الأبحاث وإعداد البرامج الإعلامية، واستخدام الانترنت ومختلف وسائل الإعلام، لإشاعة ثقافة الحوار والتفاهم والتعايش السلمي.

ـ إدراج قضايا الحوار بين أتباع الديانات والحضارات والثقافات في المناشط الشبابية والثقافية والإعلامية والتربوية.

ـ دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تأييد النتائج التي يتوصل إليها هذا المؤتمر والاستفادة منها في دفع الحوار بين أتباع الديانات والحضارات والثقافات من خلال عقد دورة خاصة للحوار.

واختصر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ذلك بالتأكيد على الأهمية الكبرى للمبادرة السعودية واعتبر أنها ستعطي زخماً لتجمع القيادات السياسية بالإضافة إلى القيادات الدينية، مشيراً إلى أن مؤتمر حوار أتباع الأديان والثقافات الذي يعقد في نيويورك سيخلق مناخاً مناسباً من أجل التوصل إلى تسوية القضايا السياسية التي تختلف آراء الدول والجماعات حولها، كما أن الخلافات يمكن تسويتها من خلال الحوار.