المغرب: رحيل عبد الوهاب بنمنصور «ذاكرة المملكة»

ظل قريبا من الملوك الثلاثة

TT

أقفلت مساء أول من أمس، صفحات كتاب من تاريخ المغرب الرسمي، بعد وفاة المشرف على تدوينها والساهر الأمين على تحريرها، المؤرخ عبد الوهاب بمنصور، منذ عام 1963، حين سماه الملك الراحل الحسن الثاني «مؤرخ المملكة» إحياء لتقاليد قديمة جرى عليها ملوك قبله، وهو اللقب الذي أصبح بنمنصور، مشهورا به وأنسى الناس، وخاصة الأجيال الحديثة، في الوظائف والمسؤوليات السامية الدقيقة التي اضطلع بها الراحل في ظل حكم ثلاثة ملوك، بدءا من عام 1957، إلى جانب الملك محمد الخامس جد العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي أسند إليه رئاسة القسم السياسي بالديوان الملكي.

وباستعادة مجمل السيرة الحافلة، لمن يمكن أن يدعى بكل موضوعية «ذاكرة المملكة» الحافظة لأحداثها الرسمية وربما جزءا كبيرا من أسرار ذهبت معه، على مدى أكثر من نصف قرن، يستوقف المتأمل فيها (السيرة) أن بنمنصور، بحكم طبيعته وتربيته وتكوينه الثقافي والعلمي المتين والمزدوج اللغة (حاصل على الإجازة في الآداب والشريعة) ظل دائما قريبا جدا من الملوك الثلاثة، وخاصة في عهد الراحل الحسن الثاني، الذي اختبر كفاءته في شتى المواقع والمسؤوليات التي لا تمنح إلا لأهل الثقة، فقد شغل الراحل مهاما سياسية (رئيس الديوان الملكي) وإعلامية، بينها نائب لمدير الإذاعة المغربية عام 1957 إلى جانب المفكر المهدي المنجرة، الذي يروى إنه تقدم للملك محمد الخامس بمشروع قانون أساسي للإذاعة المغربية، مستوحى في الكثير من بنوده من هيئة الإذاعة البريطانية، التي كانت المثل الأعلى في ذلك الوقت.

لم يكتب النجاح لتلك المبادرة الجريئة، كون البلاد في ذلك الظرف السياسي الانتقالي الدقيق، لم تكن مؤهلة وقادرة بما فيه الكفاية من حيث افتقاد الموارد البشرية الكفأة، على تحويل مؤسسة الإذاعة الموروثة عن الإدارة الاستعمارية، التي كان يطلق عليها الوطنيون المغاربة اسم «راديو ماروك»، والارتقاء بها إلى مصاف إذاعة أعرق الديمقراطيات الغربية، فضلا عن أن «دار البريهي» كما أصبحت تدعى لاحقا، كانت الوسيلة الإعلامية التي لا يجوز أن يفرط فيها القصر الملكي، باعتبارها القادرة على إبلاغ رسالته إلى الرأي العام، كما أنها رمز السلطة والحكم في اعتقاد عامة المواطنين.

لا يعرف بالضبط الموقف المهني الذي تبناه الراحل من المشروع، وهو مسؤول في الإذاعة المغربية، ولربما كان منشغلا بالتأريخ لغيره أكثر من إحصاء خطواته الذاتية في سلم الوظائف والاعتناء بتسجيل ردود فعله، متنقلا بين الدوائر الحكومية، المشرعة أو المغلقة الأبواب.

ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن بنمنصور، سيعود ثانية لنفس المؤسسة بدرجة مدير عام لها وللتلفزيون، الحديث النشأة، عام 1965، وهي سنة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، ففيها اندلعت أخطر وأعنف اضطرابات اجتماعية بمدينة الدار البيضاء، في 23 مارس (آذار). وفي نفس العام تم تعطيل أول برلمان منتخب بكيفية ديمقراطية، وألغيت الحياة الدستورية بإعلان حالة الاستثناء. وفي التاسع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) جرى في باريس اختطاف الزعيم اليساري المهدي بنبركة، وسط شكوك مازلت مستمرة، بضلوع أطراف في جهاز الاستخبارات المغربية في جريمة الاختطاف والتصفية الجسدية لأحد قادة الحركة الوطنية المغربية الأفذاذ.

تعني كل تلك الحيثيات والسياقات بوضوح، أن المشرف على الإذاعة والتلفزيون، لم يكن موظفا عاديا، بل مقربا إلى أبعد الحدود من دائرة القرار الأسمى في البلاد، في ظرف سياسي خاص، تلقى خلاله النظام انتقادات حادة من وسائل الإعلام المغربية والدولية. أمضى بنمنصور أقل من عامين على رأس إدارة الإذاعة والتلفزيون، فقد أسند إليه الملك الحسن الثاني عام 1967، مهمة محدثة، حين أوكل إليه الإشراف على إدارة ضريح الملك الراحل محمد الخامس، الذي أصبح مقصد الزوار، من سامي الشخصيات الرسمية الأجنبية، التي اعتادت أن تحمل إليه أكاليل الزهور، ترحما على رمز استقلال المغرب، كما يوقع الزائرون في الدفتر الذهبي، حيث كان يقدم بنمنصور، الشروح عن ذلك الصرح المعماري العالي الطراز، الذي يضم رفات ملكين، ما يدل على أن الفضاء، أصبح مسرحا تجري فيه أنشطة رسمية، لا بد من تدوينها وإدراجها ضمن سجل المملكة.

لم يسجن بنمنصور نفسه، في قفص وظيفة المؤرخ الرسمي، فقد كان شاعرا، بمعنى من المعاني أن طائفة من زملائه المؤرخين، لا يعتبرونه واحدا من قبيلتهم، فهم بحكم ما تدربوا عليه وتلقوه من مناهج، وما يتطلب من عملهم من الحرص التحري والدقة وتمحيص الوثائق ومقارنتها قبل الاطمئنان إلى صحة أية واقعة تاريخية، حيث يخضعون الرواية الرسمية للأحداث للفحص بالأدوات التي درسوها وتوارثوها، درءا لكل الشكوك. وأمام تلك الحالة، لم يكن أمام بنمنصور، إلا البرهنة على أنه يتقن مهمة المؤرخ العادي بامتياز، قبل أن يكون رسميا، وكأنه يقول لمنتقديه المضمرين، إن تدوين الأنشطة والأحداث والوقائع الرسمية، يجب أن لا ينظر إليه بمنظر الازدراء، بل اعتباره بمثابة المادة الخام اللازمة للمؤرخ، لكي يتمكن من ممارسة مهمته العلمية، أي أن ما يمكن دعوته «تاريخ الشعوب» لا يكون دقيقا وشاملا مكتمل الصورة في غياب الشق الرسمي منه، كما أن المؤرخ الحق، يولي الأهمية لأية وثيقة أو شهادة تقع بين يديه.

وفي هذا السياق العلمي، بذل الراحل جهودا مشكورة وخلف إنجازات علمية ضخمة، تنم عن سعة العلم والاطلاع والدراية بأدق تفاصيل مهنة المؤرخ، ساعده على تحقيق المنجزات العلمية، لياقته البدنية، حيث ظل حاضرا في المشهد إلى حين رحيله المفاجئ قبل أن يكمل بخمسة أيام، الثمانية والثمانين من عمره، فهو من مواليد مدينة فاس يوم السابع عشر من مثل هذا الشهر عام 1920. ومن المفارقات أن وزير الخارجية السابق محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، شرع في تهييء ترتيبات تكريم المؤرخ الذي غاب عنا، ضمن فعاليات موسم أصيلة المقبل، اعترافا بفضله العلمي وخدماته الجلى للوطن وإخلاصه لثلاثة ملوك، وحينما فاتحه في الأمر خلال حضوره موسم اصيلة الثقافي الثلاثين في اغسطس (اب) الماضي، أبدى شعورا بالرضا والامتنان.

لم تشغل بنمنصور مهامه المتعددة، عن مواكبة الشأن الثقافي العام، فقد نشر العديد من المقالات والدراسات، في الصحف والمجلات والدوريات المتخصصة، فضلا عن انشغاله الرئيسي، ليس بالتاريخ الرسمي فقط، بل بالتاريخ العام، حيث ترك في هذا الباب سجلا حافلا بالآثار والمؤلفات المهمة في صورة موسوعات وتحقيقات علمية لمصادر ومصنفات تاريخية كثيرة، بينها كتابه المشهور «قبائل المغرب»، الذي استحق عليه جائزة الاستحقاق الكبرى، لما في الكتاب من مجهود الباحث المدقق، شهد به المؤرخون والدارسون، كما ترجم الراحل لأعلام المغرب العربي، في إشارة منه إلى عمق الروابط التاريخية والأسرية الرابطة بين أجزاء ذلك الكيان الممتد، والذي يعد بنمنصور، وهو من أصل جزائري، شاهدا ودليلا عليه.

وبموازاة التأليف الحر الغزير الذي جعل منه عضوا مؤسسا لأكاديمية المملكة المغربية، أشرف الراحل على إصدار حوليات «انبعاث أمة»، وهي سجل دقيق ومنتظم لكل الأنشطة والأحداث الكبرى التي جرت بالمغرب، والتي كان محورها ملوك البلاد. وقد أصبحت تلك الوثيقة مرجعا، كونها تحتوي على النصوص الرسمية للظهائر والمراسيم والقوانين والخطب والاستجوابات الصحافية التي يدلي بها للملك، إذ وصل مجموع ما صدر من انبعاث أمة حتى الآن 53 مجلدا كبيرا.

وبوفاته، يكون المغرب قد طوى حقا صفحة من صفحات تاريخه الحديث، فقد كان بنمنصور بحق شاهدا على عصر مضطرب، عايش عن قرب ملكا شديد البأس قوي الذكاء، هو الراحل الحسن الثاني، الذي دون بنمنصور الكثير من تفاصيل حياته اليومية في القصر الملكي، وأثناء تنقلاته وأسفاره في الداخل والخارج، وممارسته مسؤوليات الملك في أحلك الظروف وأخفها وطأة؛ جمع البعض منها في كتب عن الملك الحسن الثاني، ستظل مهما تقادم العهد بها مرجعا عن حياة إنسانية خصبة.

مضى بنمنصور، الذي أرخ للأفراد والأسر المغربية وتتبع أصولها، كما حافظ على الذاكرة الرسمية، ومن المؤسف حقا أن تخلو المواقع المغربية في شبكة «الانترنت» على سبيل المثال لا الحصر، عن معلومات ضافية عن حياة رجل، لم يكن بكل المقاييس، عاديا في تاريخ البلاد. رحمه الله رحمة واسعة.