كتابات السجون.. دعوة سرية للهروب

«إكسير حياة» للإسلاميين.. وأحدثها تهريب «الجوال»

TT

«عمر السجن ما يقتل فكرة».. جملة يعتبرها السجناء والمعتقلون المادة الأولى في دستورهم غير المكتوب، والأكثر من ذلك يدعو دستورهم إلى أهمية الاتصال بالعالم الخارجي، سواء من خلال بيانات حول موقف من المواقف أو قضية من القضايا أو حتى قصة قصيرة مثل التي كتبها القيادي في تنظيم الجهاد عبود الزمر، وهي تبدو محاولة للإطلال على ما هو خارج أسوار سجنه المحبوس داخله منذ أكثر من 27 عاما. كتابات عبود الزمر ليست الوحيدة التي خرجت أو آخر ما سيخرج، إذ حصلت «الشرق الأوسط» على مذكرة «التعرية لكتاب التبرئة»، وهو كتاب الدكتور سيد إمام شريف المعروف باسم الدكتور فضل مفتي المجاهدين في العالم، وقبله نشرت وثيقة «ترشيد العمليات الجهادية في مصر والعالم»، وسبقهم مبادرة وكتب ومراجعات الجماعة الإسلامية، وبيانات الرفض والتأييد للمبادرتين وإن كان من السهل معرفة كيف تخرج البيانات المؤيدة، في حين أن خروج البيانات الرافضة تثير تساؤلات حول طرق إخراجها من داخل الأسوار إلى فضاء الحرية التي يفتقدها كاتبها. ويرى الدكتور ضياء رشوان الباحث في شأن الجماعات الإسلامية، أن الكتابات داخل السجون بالنسبة إلى السجناء الإسلاميين خاصة مثل «إكسير الحياة»، فمن خلالها تتحول أفكارهم وتتبلور لتصبح كتبا. ويقول: معظم كتب العنف خرجت من داخل السجن، فداخله يقدم التنظيم أو الجماعة أساسه النظري، وأيضا يقدم تبرير سلوكه ويفسره.

فيما يقول الروائي صنع الله إبراهيم في مقدمة كتابه «يوميات الواحات»: السجن جامعتي، فيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلية وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضا قررت أن أكون كاتبا، أما أبي فهو المدرسة.

ويمثل الكتاب يومياته في سجن الواحات خلال الفترة من (1962 ـ 1964)، والتي يؤكد فيها أن كتابة اليوميات لم تكن بالأمر السهل بسبب الخوف من أن تقع في أيدي إدارة السجن فكان يتجنب كثيرا من الموضوعات معتمدا على الرمز فقط.

ورغم اعتماد الكثيرين داخل السجون على الكتابة بالرمزية تجنبا لمضايقة إدارة السجن، إلا أن هناك كتابات كانت تحتاج إلى أن تكون واضحة وصريحة في ما تتناوله من موضوعات. فقصائد أحمد فؤاد نجم وكتابات الإسلاميين تحتاج إلى أن تكون مباشرة وواضحة ومجرد كتابتها يضع كاتبها في مشاكل ويمنع من الكتابة. كانت هناك وسيلة طريفة اتبعها نجم لدى اعتقاله، فكان في البداية يهرِّب قصائده عبر ورق «البفرة» (ورق لف التبغ)، وبعد اكتشاف الطريقة توصل بعد جهد جهيد إلى تحفيظ زملائه في المعتقل مجموعة من قصائده وهم بدورهم يبلغونها للعالم الخارجي.

«القاعدة الأولى في تهريب إنتاج السجون الفكري، هي الابتكار، والابتكار المتجدد»، هكذا بدأ ممدوح إسماعيل محامي الإسلاميين حديثه حول طرق إخراج كتابات السجون، مشيرا إلى أن وضع المعتقل أو السجين والحراسة المشددة عليه يفرض عليه ابتكارا متواصلا لأنه وبكل بساطة تصبح الطريقة قديمة بمجرد تسريب بيان ما صادر عن شخص داخل السجن، فوسائل الإعلام تنسبه له، ويصبح هو مصدر البيان، مما يؤدي إلى قلب زنزانته رأسا على عقب.

يقول إسماعيل: يتعين على المعتقلين اكتشاف طرق مبتكرة لإخراج كتاباتهم التي تتضمن الوثائق والبيانات، حيث تتبلور أفكارهم وآراؤهم وهم يسعون لإخراجها بعدما منعوا من قولها علنا، لهذا يتحتم عليهم اكتشاف طرق جديدة دائما فالوضع داخل السجن مثل لعبة القط والفأر.

يتذكر إسماعيل أقدم تلك الوسائل، وكانت عن طريق الكتابة على الملابس الداخلية من الداخل من الجهة الملاصقة للجسم فلا تكتشف السلطات ماذا كتب السجين، وهي طريقة اتبعها معتقلو الجهاد أثناء محاكمتهم في العام 1981 بعد مقتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات في حادث المنصة الشهير.

ويشير إلى أن المعتقلين كتبوا ما يريدون على ملابسهم الداخلية، وأثناء وجودهم داخل قاعة المحكمة قاموا بقلب ملابسهم الداخلية ومن ثم نشروا ما يريدون قوله على الملأ، إذ أكدوا وقتها أنهم لا يخشون الإعدام.

ويضيف أن أحدث الوسائل هي تهريب المحمول إلى السجين ومنه يصبح السجين على تواصل مع العالم الخارجي بأفكاره وآرائه، وكل ما يريد أن يخبره به، وهي أفضل من كتابة البيانات والتفكير في توصيلها إلى العالم الخارجي. كما يشير إلى الطرق الكلاسيكية عن طريق تحفيظ الأهالي وإبلاغهم بالموضوع والصياح في المحكمة، ولم تكن تلك الطرق هي الوحيدة، إذ أن هناك طرقا استخدمت لتهريب الكتب والبيانات، حتى أن الإسلاميين أنفسهم كانوا يستخدمون السلطات في نقل كتبهم، بتعمد اكتشاف السلطات لها، فيتم تحريزها ضمن أدلة القضية، ومنها يستطيع المحامون تصويرها لإعداد مذكراتهم وسويعات تكون قد وصلت للصحافيين ولأعضاء التنظيم.

ويرى الدكتور ناجح إبراهيم، منظر الجماعة الإسلامية، أن السجن من أفضل الأماكن التي تساعد على الكتابة ويبدع فيها الإنسان وبداخله يتطور الفكر، مشيرا إلى أن «الكتابة بالنسبة لنا (الجماعة الإسلامية) كانت بمثابة الجهاد من داخل السجون، ورسالة يجب أن تصل إلى الأجيال المقدمة، إذ أنهم كانوا يشعرون أنهم سيواجهون الإعدام لا محالة». ويقول: «كتبت نحو 25 كتابا داخل السجن منها كتب متعلقة بمراجعات الجماعة الإسلامية، وأخرى في مسائل فقهية وتربوية»، مشيرا إلى أن كتابة كتبه جاءت بعدما شعر أنه سيواجه الإعدام ولذلك كانت الكتابة الوسيلة الوحيدة لترك رسالة الجماعة الإسلامية للأجيال القادمة. ويتذكر إبراهيم أحد أصعب المواقف التي مر بها قادة الجماعة عندما بدأت السلطات في تنفيذ مشروع صرف صحي في السجن، اضطروا إلى إخراج كل وثائقهم وكتبهم التي كتبوها، خوفا من اكتشافها واضطروا إلى إحراقها خوفا من الكشف عنها.

ويشير إلى أنه بعد إعلان المبادرة هدأت الأمور نسبيا وخففت السلطات من قبضتها واستطاعوا أن يكتبوا بحرية، بدلا من انتظار أوقات تبديل الحراس وأوقات تخفيف الحراسة حتى يبدأوا في نشاطهم. ويؤكد إبراهيم أن السلطات لم تتدخل قط في كتاباتهم أو حتى تحديد المراجع التي يعتمدون عليها، مشيرا إلى أنهم كانوا يكتبون ما يريدون وأن دور السلطات اقتصر على توفير الورق الأبيض والأقلام، أو المراجع الفقهية الخاصة.

ويضيف أنه بعد إعلان المبادرة كان يتم إعلان البيانات من خلال الأستاذ منتصر الزيات، الذي كان ينقلها بكل أمانة إلى وسائل الإعلام. ويحكي الزيات، وهو عراب مبادرات وقف العنف، عن تجربته سواء في نقل البيانات أو الكتابة داخل السجون، إذ اعتقل في فترات متقطعة خلال الثمانينيات من القرن الماضي، وقال «كنا نعمل وسط ظرف تاريخي، فالدماء تسيل من الجانبين وأحكام الإعدام تصدر وهناك عمليات عنف وعنف مضاد، كلها أمور كانت تمثل لي صعوبة بالغة في نقل البيانات، إذ كنت أحمل البيان على كف ورأسي على الكف الأخر لا أعرف ماذا سيكون الرد من جانب الحكومة التي كانت تراقب كل تحركاتنا».

ويرى الزيات أن إخراج البيانات من داخل السجون لم يكن مشكلة، لكن التحدي هو إدخال بيانات وخطابات إلى داخل السجون، حيث أنها تعتبر النواة الرئيسية لما سوف يخرج. ويوضح قائلا: إجراءات التفتيش كانت تصادر كل ما يمكن أن يشكل مصدر تهديد أو نقل أفكار إلى الداخل، وبالطبع كان المعتقلون ممنوعون من الإطلاع على وسائل الإعلام ومعرفة ماذا يحدث في العالم الخارجي، وذلك في فترة من الفترات قبل المبادرة.

ويشير إلى أن الإسلاميين كانت لديهم خططهم التي استخدمها من بعدهم باقي السجناء، ويشير إلى أن أحد أقدم تلك الوسائل هي إدخال البيانات عن طريق الطعام، أو داخل كرة قدم يتم إدخال البيان فيها بعناية ومهارة بالغة لا يكتشفها حتى صانعوا الكرة، ولكن الضحية تكون الكرة بعد أن يتم فتحها لإخراج الرسالة الموجودة بداخلها. ويتحدث عن تجربته في الكتابة، معتبرا أنها كانت بمثابة الهواء الذي يتنفسه، وأكد أنه كتب في السجن أفضل كتاباته، فالزنزانة تحرك داخل الإنسان كثيرا من الشجون والمشاعر تخرج في صورة كلمات.