«البونت لاند»: جمهورية القراصنة التي تؤرق العالم

مدينة «إيل» أصبحت أكبر مستودع للسفن المخطوفة بسبب مرفأها الطبيعي وجبالها

TT

لم يبق سوى أن يرفع القراصنة المسلحون أعلامهم الشهيرة التي تضم الجمجمة وعلامة الخطر على سواري تلك الدويلة الصغيرة لكي تتحول إلى أول جمهورية للقراصنة على الأرض.

وربما لو كان الرئيس الصومالي عبد الله يوسف يدرك مبكرا أن إقليم «البونت لاند» (أرض اللبان) مسقط رأسه الواقع في شمال شرق الصومال سيتحول إلى قاعدة كبيرة ومرتع خصب للقراصنة الذين حولوا سواحل الإقليم إلى كابوس أمني للملاحة البحرية العالمية لما كان قد أعلن بنفسه استقلال الإقليم وتمتعه بالحكم الذاتي عام 1998.

كانت هذه الدويلة معقلا للجنرال عبد الله يوسف أحمد أول حاكم لها حتى انتخابه رئيسا للصومال وخلفه فيها نائبه محمد عبد حاشي الذي خسر انتخابات عام 2005 لصالح الجنرال موسى عدي هيرسي المقرب من الرئيس الصومالي وحليفه الوثيق.

تتكون ولاية «أرض اللبان» من 5 محافظات من أصل 18 محافظة يتكون منها الصومال، لكنها خلافا لمطالب جمهورية أرض الصومال الانفصالية التي أعلنت نفسها دولة مستقلة بمعنى الكلمة عن الدولة الصومالية الأم لا تتبنى «البونت لاند» أية مطالب انفصالية لكنها في المقابل تصر على تمتعها بحكم ذاتي في إطار النظام الفيدرالي الذي أقره الدستور الصومالي الحالي.

وتكاد تكون زيارات الجنرال عدي هيرسي ـ الذي لا يتحدث اللغة العربية باتقان وإن كان يفهمها ـ إلى عواصم الدول الأعضاء بالجامعة العربية محدودة في اليمن وجيبوتي باعتبارهما من دول الجوار علما بأنه يتمتع في المقابل بعلاقات أمنية ولوجستية مع إثيوبيا والولايات المتحدة.

واعتادت الطائرات الحربية الأميركية التي تنطلق من قواعد لها في جيبوتي ومن حاملات الطائرات على سواحل الصومال وفي عرض المحيط الهندي قصف بعض المناطق في تلك الدويلة التي تقع على بعد 1250 كيلومترا شمال شرق العاصمة الصومالية مقديشو في إطار ملاحقتها المستمرة لمقاتلين إسلاميين متشددين بينهم أجانب مرتبطون بتنظيم القاعدة. وكان يعتقد أن بعض هؤلاء هم من المتهمين بالتحضير للاعتداءين اللذين استهدفا السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998 وأسفرا عن 224 قتيلا. الإقليم الذي يحمل اسما فرعونيا أطلقه المصريون القدماء على تلك البلاد قبل آلاف السنين بات اليوم في واجهة الأحداث وصدارتها ليس باعتباره تلك البقعة النائية من دولة محطمة كليا ولكن باعتباره مقر ومسقط رأس الكثير من قراصنة البحر الذين يمارسون عمليات القرصنة ضد أية سفينة شاء حظها العاثر أن تقترب من السواحل المميتة للصومال.

يمتلك الجنرال موسى عدي رئيس الإقليم الذي يسعى ضمن عشرة مرشحين آخرين للفوز بفترة ولاية ثانية في الانتخابات التي ستجرى في مطلع العام المقبل جيشا صغيرا ضعيفا بإمكانيات محدودة، لكنه مع ذلك كان قادرا على بسط سيطرته ونفوذه على جميع مدن الإقليم بل ويخوض حربا حدودية صغيرة مع جارته اللدود جمهورية أرض الصومال التي أعلنت انفصالها عن الدولة المركزية في الصومال اعتبارا من عام 1991.

ومع أن مساحة الإقليم تبلغ حوالي 250000 كم2 وهو ما يعادل تقريبا ثلث مساحة الدولة الصومالية، وعدد السكان التقريبي 3650000 نسمة فإن عدي هيرسي الذي يحتفظ بعلاقات جيدة مع بعض المستثمرين العرب في مجال الثروة السمكية وتصدير الماشية إلى منطقة الخليج لا يبدو مشغولا بتلك الحرب الدولية على نشاط القراصنة والتي جلبت إلى الصومال عشرات القطع البحرية الحربية التي تحمل أعلام البحرية الأميركية ومعظم دول الاتحاد الأوروبي.

في المقابل يبدو عدي هيرسي بلا قدرة على مواجهة القراصنة الذين حولوا مختلف مدن الإقليم إلى قلاع حصينة ومركزا لنشاطهم الذي يهدد بتوقف الملاحة الدولية على سواحل الصومال.

في مدن الإقليم كل شيء متاح وتحت الطلب بدءاً من أجهزة التعقب الدولية وتحديد المواقع المتصلة بالأقمار الصناعية إلى أحدث طرز الهواتف والكومبيوترات المحمولة وانتهاء بالسيارات الرياضية الفخمة أو ذات الدفع الرباعي.

في شوارع أشهر المدن «بوصاصو» و«جوري» و«هيبوهو» ينتشر تجار العملة مشكلين ما يمكن اعتبارهم بنوكا متحركة قادرين في لمح البصر على تغيير أي مبلغ من العملة المحلية إلى الدولار الأميركي أو العكس.

البيوت المبنية حديثا على الطراز الغربي وسط تلك الأكواخ المكونة من دعائم خشبية وأسقف من الصفيح لم تعد تلفت انتباه السكان المحليين منذ مدة فهم توقفوا عن الاستغراب بعدما باتت القرصنة نشاطا تجاريا واقتصاديا مزدهرا يعم بالفائدة على الجميع.

ثمة من يقول إن بعض المسؤولين الحكوميين في «البونت لاند» متورطون في تلك الأنشطة المريبة، لكن حكومة الإقليم غالبا ما تدافع عن نفسها متعللة بعدم امتلاكها لقدرات عسكرية كافية تواجه بها القراصنة المسلحين بقذائف الهاون وصواريخ «أر بي جي» المحمولة كتفا بالإضافة إلى «الكلاشينكوف».

التاريخ الحقيقي لعمليات القرصنة انطلق من أراضى هذه الدويلة عندما نجح مسلحون وصيادون محليون عام 2001 من خطف أول سفينة صيد أجنبية، وتسلموا فدية مالية بلغت 500 ألف دولار مقابل إطلاق سراحها.

هذا النجاح المفاجئ وغير المتوقع أغرى الكثيرين من العاطلين عن العمل ومن لم يحظوا يوما بفرصة لتلقي التعليم أو دخول المدارس وتربوا في أحضان دولة منهارة تعاني من حرب أهلية مستعرة على دخول مجال «بيزنس» القرصنة.

على الخريطة الصومالية تبدو مدينة «إيل» بسكانها البالغ عددهم نحو 19 ألف نسمة مجرد نقطة صغيرة، لكن هذا الموقع الجغرافي مثّل للقراصنة فرصة كبيرة لكي يحولوا المدينة إلى أكبر مستودع عرفته الإنسانية على الإطلاق للسفن المخطوفة التي يتم اقتيادها إلى عدة مدن في إقليم «البونت لاند» أشهرها تلك المدينة الصغيرة الكائنة في شمال الإقليم.

وتقع «إيل» التي تتمتع بمرفأ طبيعي، بالإضافة إلى كونها تقع في منطقة جبلية محصنة يسهل الاحتماء بها من الهجمات المحتملة من قوات الدول التي يحتجز القراصنة رعاياها بالقرب من شبه جزيرة هفون التي تكبدت معظم خسائر الصومال من «تسونامي» المحيط الهندي 2004 وأشهر قبائلها «ماجرتين» و«ليلكاسه» المتفرعتان من قبيلة «دارود».

حاضر المدينة يختلف تماما عن خلفيتها التاريخية السابقة حيث كانت «ايل» في مطلع القرن العشرين، مركز المناضل محمد بن عبد الله حسان ضد الاحتلال البريطاني السابق للبلاد.

وبذل قادة محليون وعلماء دين في محافظة «نجال» الواقعة في الإقليم قبل بضعة أشهر محاولات لإجبار ميليشيات القرصنة على الارتحال من المدينة، لكنهم سرعان ما عادوا مجددا وبشكل أكثر شراسة من ذي قبل.