كركوك: الانقسامات الكردية ـ التركمانية ـ العربية اختبار لوحدة العراق

أحياؤها ومدارسها تحمل 3 أسماء.. والدراسة حسب القومية

TT

تحرك دراوان صلاح الدين، مرتدياً قميصا أسود وبنطالا من الجينز أزرق اللون، إلى خارج منزله في الجزء الكردي من الحي الممزق عرقياً الذي يقطنه، ليمر عبر حواجز خرسانية ونقطة تفتيش يحرسها مقاتل كردي. ودخل صلاح الدين إلى قطاع عربي وسار في هدوء نحو مدرسته. داخل الفصول، وجد طلابا أكرادا فقط، أما الطلاب العرب، فيصلون عندما يغادر أقرانهم الأكراد، ثم الطلاب التركمان. كما يوجد للمدرسة ثلاثة أسماء، كل منها يرتبط بلغة واحدة من هذه المجتمعات، علاوة على ثلاث مجموعات من المدرسين والمسؤولين الإداريين.

وقال صلاح الدين، 17 عاماً، «ليس لدي أصدقاء عرب أو تركمان. يقتصر أصدقائي على الأكراد فحسب. ولا أستطيع تحدث العربية أو التركمانية. لذا، ليس لدي أصدقاء من هاتين المجموعتين». وتسلط هذه الانقسامات الضوء على التوترات التي يعج بها هذا الحي وجميع أنحاء كركوك، التي تشكل مسرحاً لأقوى الصراعات داخل العراق على الأرض والنفط والهوية. وتعد المعركة الدائرة حول كركوك اختباراً مهماً فيما إذا كانت الحكومة العراقية باستطاعتها تسوية النزاعات الداخلية مع تضاؤل أعداد القوات الأميركية المرابطة بالبلاد. من جانبها، ترغب الأحزاب السياسية الكردية، بناءً على ادعاءات تاريخية تؤكد أنها تثبت أحقيتها في السيطرة على المدينة، توسيع نطاق المنطقة التي تتميز بالاستقلال الذاتي القائمة شمال العراق لتضم المدينة. من جهتها، تعارض الحكومة المركزية العراقية التي يهيمن عليها العرب سيطرة الأكراد على المدينة، التي تنتج آبارها النفطية 40% من إجمالي الإنتاج النفطي العراقي. ويعارض هذا الأمر أيضاً الأقلية التركمانية داخل كركوك وأنصارها في تركيا. بل إن اسم ضاحية صلاح الدين ذاته حوله جدال وشقاق، حيث يطلق عليه سكانه من العرب والتركمان «حي الواسطي»، مثلما كان معروفا قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، بينما أعاد الأكراد تسميته «نوروز»، والذي يعني رأس السنة الكردية.

والواضح أن السياسة تتخلل جميع النقاشات التي تدور داخل جنبات الحي المؤلف من مجموعة مبعثرة من المنازل والمحال والمساجد المرتبطة ببعضها عبر طرق غير ممهدة يملؤها الغبار في الجزء الجنوبي من كركوك. وتجتمع قرابة 120 أسرة كردية داخل ممرات رملية ضيقة ووراء جدران مضادة للتفجيرات ونقاط تفتيش، بينما تحيط بهم منازل العرب والتركمان. على امتداد عقود، اختلط العرب والأكراد والتركمان بحرية وتزاوجوا من بعضهم البعض وأداروا نشاطات تجارية معاً، لكن اليوم بات من النادر أن يختلط أبناء هذه المجتمعات الثلاثة. ولا يقتصر العازل بين المجتمعات الثلاثة على الجانب المادي فحسب، فعلى سبيل المثال، داخل حصة الجغرافيا يتعلم صلاح الدين أن كركوك جزء من كردستان، وهو اللفظ الذي يشير به الأكراد إلى الإقليم الذين يتمتعون بالاستقلال الذاتي داخله، بصورة أوسع الدولة المستقلة التي لم يحظوا بها قط. أما المادة المفضلة لصلاح الدين فهي اللغة الكردية، وفسر ذلك بقوله: «لأنها لغتنا». كما يدرس صلاح الدين جغرافيا وتواريخ المدن وسيرة الأبطال الأكراد القدامى. وعندما يغادر صلاح الدين والطلاب الآخرون المدرسة، حيث يدخل اليها أقرانهم العرب، يحيون بعضهم البعض بقول «سلام»، ثم يتجه كل فريق إلى طريق مختلف. في 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، وعلى الجانب الآخر من الطريق القادم من حي الواسطي، وقفت شاحنة نقل صغيرة على بقعة من الدماء في انتظار القيام برحلة أخيرة. وكانت قد مرت أربعون دقيقة منذ قيام مسلح بإطلاق رصاصة واحدة على رأس خلف حمود الجبوري، محام عربي. وقد عثرت عليه ابنته ملقى على عجلة القيادة. والآن، يرقد جسده داخل منزله، في انتظار مراسم الدفن، بينما يرتفع صوت زوجته وبناته بالعويل ليخترق الجدران. وصرخ أحد أبنائه الذكور: «اللعنة على الأكراد. أعلم أن الأكراد هم من قتلوا والدي». يذكر أن الجبوري، 58 عاماً، وهو أب لخمسة أبناء، عمل داخل بوتقة الصراع على مساندة الادعاءات العربية بأحقية السيطرة على المناطق المتنازع عليها. ولم يشكل اغتياله مفاجأة لعبيد الجبوري، أحد سكان حي الواسطي، حيث أكد قائلا لقد «توفيت الكثير من الشخصيات العربية بطرق غامضة». وقد سبق للجبوري العمل في الجيش العراقي في عهد صدام حسين برتبة عقيد، ويعيش داخل هذا الحي منذ عام 1995. ويبدي الجبوري حساسية تجاه الاتهامات الكردية بأن الادعاءات العربية حول أحقية السيطرة على كركوك غير شرعية وأن معظم السكان العرب بالمدينة جاءوا إليها نتيجة جهود صدام حسين «لتعريب» كركوك. وقال الجبوري، الذي يملك وكالة عقارية: «أعطتني الحكومة الأرض لأنني أنتمي في الأصل إلى كركوك». ويرى الجبوري أن كركوك تشكل عنصراً يسهم في توحيد العراق، ويخشى أن يتعرض للتمييز حال وضعها تحت السيطرة الكردية. وادعى أن الكثير من الأكراد الذين وصلوا حديثاً إلى المدينة لديهم بطاقات هوية عراقية مزيفة تسمح لهم بالتصويت والحصول على الخدمات. وأكد نجله ليث أن: «الهدف هو محاولة تحويل كركوك إلى مدينة كردية». جدير بالذكر أن الكثير من العرب داخل الحي انتقلوا للسكن في المناطق العربية أو إلى قراهم. خلال هذا العام فقط، قام الجبوري بتأجير 20 منزلاً عربياً، إلى عملاء ينتمي معظمهم إلى تركمان مشردين من مناطق كردية. ويتقلد الأكراد مناصب عليا في الشرطة ويهيمنون على مجلس المدينة ولهم حلفاء في الجانب الأميركي. ويقول ليث: «إذا شكونا، يلجأ الأكراد إلى الأميركيين ويخبرونهم بأن هؤلاء العرب إرهابيون. ويأتي الأميركيون ويلقون القبض على عرب». من جانبهم، قال مسؤولون أكراد إنهم يشنون غارات بالتعاون مع قوات أميركية، لكن فقط ضد المتمردين المشتبه فيهم، والذين ينتمي غالبيتهم للعرب. ويشكو كبار قيادات الشرطة من غير الأكراد من أن وكالات الاستخبارات الكردية تفتح مكاتب لها داخل الكثير من الجيوب، ما يشبه الجهاز الأمني الخاص بصدام حسين. من جانبه، أكد اللواء تورهان يوسف عبد الرحمن، نائب رئيس شرطة كركوك، أن: «لدينا قانونا يقضي بأن: أي جماعة مسلحة تتبع حزباً محدداً تعد ميليشيا. وبالتالي يصبح وجودها هنا غير قانوني. لكن هذه الجماعات أصبحت واقعاً قائماً». واستطرد موضحاً أن رجاله لا يمكنهم حتى الدخول إلى الحي للاستجابة لأية شكاوى ضد الأكراد «لأنهم يسيطرون على المنطقة». وعندما سئل عن سبب عدم دخول القوات، اكتفى عبد الرحمن بالابتسامة وقال «أمور سياسية».

عند إحدى نقاط الدخول إلى حي نوروز، يرابط مقاتلون أكراد لمراقبة طريق أطلق عليه الناس «طريق العبوات الناسفة». وعلى الجانب الآخر، تقع منازل لعرب وتركمان. وعلق صلاح الدين مهادين، والد دراوان، على الوضع بقوله: «إننا محاطون بهم». وعلى خلاف الحال مع نجله، لا يعبر مهادين الشارع إلى الجهة المقابلة قط. كان مهادين قد فر من كركوك عام 1991، في أعقاب قمع قوات صدام حسين لثورة كردية اندلعت خلال الفترة اللاحقة مباشرة لحرب الخليج. وعلى مدار السنوات الاثنتي عشرة التالية، عاش بمدينة جبلية تعرف باسم رانيا في الإقليم الكردي شمال العراق. في 20 يونيو، 2003، عاد مهادين إلى هنا برفقة أسرته، لينضم إلى آلاف الأكراد الذين دخلوا كركوك بعد الغزو ليطالبوا بأحقية السيطرة على أراض يعتبرونها ملكاً لهم. وقال مهادين إن العرب العاملين في ظل النظام السابق عذبوا وقتلوا والده، وإن جيرانه التركمان اتهموه بمناصرة المقاومة الكردية، مما أجبره على الفرار. وعندما عاد إلى كركوك، سكن مهادين، وهو أب لخمسة أبناء، منزل ضابط عسكري بالحكومة التي أجبرته على الرحيل. وعلق على الأمر بقوله: «كان الأمر أشبه بأن يولد المرء من جديد». عام 2006، انفجرت شاحنتان مفخختان بالقرب من منزله، وأسفرت الشظايا المتطايرة عن فقدانه الإبصار بعينه اليمنى. منذ ذلك الحين، تراجع معدل أعمال العنف، لكنها ما تزال قائمة. على سبيل المثال، منذ عشرة أيام، انفجرت قذائف هاون بالقسم الكردي من الحي. وقالت زوجته، زيتون شريف: «كانت هذه المنطقة تخص ضباط صدام في وقت من الأوقات. والآن، يعيش الأكراد هنا. لذلك يهاجموننا». ولا تزال أسرتان عربيتان تعيشان بالقسم الخاص بهم. وتقتصر التعاملات معهما على إلقاء التحية، وفسر مهادين ذلك بقوله: «إنهم مسلمون مثلنا». وقالت زيتون: «لا أثق بهم. إنهم يعيشون وسط الأكراد. لذلك يتعين عليهم التحلي باللطف. لكن إذا ما أصبحوا أقوياء مجدداً، سيتعاملون معنا على نحو مختلف». وقال مهادين: «فقد الأكراد الكثير من الدماء من أجل كركوك ـ خلال كل ما حدث في عهد صدام، وعمليات الإعدام، وعقوبات السجن، وعمليات الاغتصاب، وإراقة الدماء ـ كل هذا كان من أجل كركوك. لو كانت المشكلة تكمن في النفط، إذاً سنعطيهم النفط. إننا نريد الأرض. كيف يمكننا العيش بدون قدسنا، بدون قلبنا؟». كان أبو أمجد النجفي، 61 عاماً، التركماني، يجلس بأحد المقاهي عندما علم بنبأ مقتل خلف حمود الجبوري، الذي كان صديقاً له. وقد عاش النجفي في وقت من الأوقات في نفس الحي الذي كان يسكنه الجبوري. عام 1983، قامت حكومة صدام حسين بتشريد النجفي وآلاف الأسر التركمانية بحجة بناء محطة للسكك الحديدية. ثم تم توطين أسر عربية من أجزاء أخرى من العراق بالمنطقة. وقال النجفي: «والآن، يجري تنفيذ السياسة ذاتها على يد الأكراد». وأكد النجفي، وهو شيعي المذهب، أن التركمان هم السكان الأصليون لكركوك. وأضاف أن الجيب الكردي ـ وجميع أجزاء حي الواسطي ـ كانت مملوكة للتركمان. وشدد على أن: «هذه جميعها أراض تركمانية 100%». في الوقت الحالي، يعيش النجفي بالقرب من مكتب محلي للاستخبارات الكردية. ويوجد على جانبي الشارع حواجز خرسانية. ونادراً ما يتزاور الأصدقاء والأقارب خوفاً من الرقابة الكردية. وأكد النجفي على هويته التركمانية ويدعي بفخر أن بعض أبرز الفلاسفة في اللغة العربية كانوا من التركمان. وينكمش خوفاً كلما شاهد خريطة لكردستان، والتي تلقى رواجاً في الأسواق هنا، والتي ترسم التطلعات الكردية؛ وهي عبارة عن حدود تضم الكثير من أجزاء العراق وتركيا وسوريا وإيران. وقال: «إن لدينا مقولة شهيرة هنا بأنه إذا منحت الأكراد كركوك، سيطالبون بالعراق. وإذا منحتهم العراق، سيطالبون بالعالم العربي بأكمله». كما يشعر النجفي بالحذر تجاه بعض العرب، وبرر ذلك بقوله: «لدينا بعض الإرهابيين داخل حينا، معظمهم من العرب. وفي يوم من الأيام، قد يتم استهدافي لأنني شيعي».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»