موريتانيا 2008: عام «الانقلاب العاشر» والبروز القوي للسلفية الجهادية

البلاد عاشت سنة غير مسبوقة بفعل تمدد «القاعدة» وتداعيات إطاحة أول رئيس منتخب منذ استقلالها

مؤيدات للجنرال محمد عبد العزيز، ترفع إحداهن صوراً له في نواكشوط، بعد يومين على الانقلاب الذي نفذه، في 6 اغسطس (آب) الماضي (ا.ب)
TT

تميزت سنة 2008 في موريتانيا بحدثين بارزين، الأول هو ظهور الجماعات السلفية المسلحة ودخولها في مواجهات مسلحة مع الأمن وتنفيذها عمليات دموية لم تعرفها موريتانيا من قبل، والثاني هو الانقلاب العسكري الذي نفذه قادة المؤسسة العسكرية الغاضبون وأطاح بالرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بعد 18 شهرا على تنصيبه كثاني رئيس مدني لموريتانيا منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960. وبموجب الانقلاب العاشر من نوعه في البلاد أصبح الجنرال محمد ولد عبد العزيز رئيسا للدولة، ما نجمت عنه وضعية سياسية متأزمة لم تشهدها موريتانيا من قبل.

وكان مقتل 4 سياح فرنسيين في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2007 في جنوب شرقي موريتانيا نقطة تحول في نشاط «السلفية الجهادية»، إذ كانت تلك أول عملية مسلحة ينفذها موريتانيون ضمن ما سيعرف لاحقا بفرع تنظيم «القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي» في موريتانيا. اختفى منفذو الهجوم بعد أن تسللوا جنوبا إلى السنغال، لكن أعين المخابرات الفرنسية والموريتانية والسنغالية كانت تلاحقهم حتى وصلوا إلى غينيا بيساو، حيث ألقي القبض على اثنين منهم (سيدي ولد سيدينا، ومحمد ولد شبرنو) هناك مطلع يناير (كانون الثاني) 2008، وسلموا إلى موريتانيا، بينما اختفى الثالث وهو معرف ولد الهيبه الذي يفترض أنه قائد المجموعة، ليعتقل بعد أقل من أربعة أشهر في نواكشوط. وبعد حوالي أسبوع وتحديدا في الثاني من يناير 2008 كان الشمال الموريتاني على موعد مع هجوم آخر سقط فيه 3 جنود في عملية لـ«القاعدة» بمنطقة الغلاوية، وهي ثاني مرة يستهدف فيها التنظيم الجزائري المنشأ الجيش الموريتاني بعد هجوم «لمغيطي» في يونيو (حزيران) 2005. وتسبب الحادثان في نكسة للسياحة في موريتانيا وجاراتها الأفريقيات، حيث عزف الفرنسيون عن زيارة هذه البلدان، وألغت الحكومة الفرنسية لاحقاً رالي لشبونة ـ داكار الدولي الشهير، لأول مرة منذ انطلاقه عام 1978. ولم يدم الهدوء طويلا، ففي الثاني من فبراير (شباط) تعرضت السفارة الإسرائيلية بنواكشوط إلى إطلاق نار من الشارع، خلف جرحى ضمنهم فرنسية كانت في مطعم قرب السفارة. وأعلن تنظيم «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» مسؤوليته عن الهجوم، وقال في بيان نسب له إن مقاتليه «باغتوا السفارة الإسرائيلية بنيران أسلحتهم وقنابلهم وتمكنوا من إصابة عدد غير محدد في صفوف اليهود وحرسهم».

ثم جاء هروب أحد المتهمين بقتل السياح الفرنسيين في الثالث من ابريل (نيسان) ليشكل صدمة للأمن الموريتاني، حيث تمكن سيدي ولد سيدين من الهرب بعيد استجوابه من طرف وكيل النيابة في قصر العدالة بنواكشوط، عن طريق حمامات القصر. ولكن فراره شكل بداية إمساك الخيط بالنسبة للاستخبارات والأمن، حيث استطاعوا من خلاله الوصول لاحقا إلى أهم المطلوبين. التحق ولد سيدينا برفاقه المسلحين، وفي السابع من ابريل نشبت اشتباكات مفاجئة في قلب نواكشوط بين الشرطة وأعضاء خلية مسلحة، بعد اكتشاف فيلا يقطنها أفراد تلك الخلية التي اتضح فيما بعد أنها تابعة لـ«القاعدة» ويقودها الخديم ولد السمان الهارب من السجن المدني في ابريل 2007 إبان حكم العقيد اعل ولد محمد فال.

وبعد 3 أيام، وتحديدا في العاشر من ابريل، ألقي القبض على معروف ولد هيبة، المتهم بقيادة العملية التي قتل فيها السياح الفرنسيون الأربعة، عندما كان يحاول استقلال سيارة أجرة قرب ثكنة عسكرية وسط نواكشوط، وهو متخف في زي امرأة. وفي الثلاثين من الشهر ذاته نجح الأمن في اعتقال أبرز الملاحقين السلفيين الناشطين: سيدي ولد سيدينا والخديم ولد السمان والتقى ولد يوسف في عمليات منفصلة وخاطفة خلال ساعات الفجر الأولى. وواصلت قوات الأمن منذ ذلك التاريخ عمليات البحث والتمشيط واعتقلت عددا من المشتبه بهم، والمتهمين بدعم الارهاب، وأحيل المعتقلون إلى وكيل النيابة الذي أودعهم السجن المدني في انتظار المحاكمة. وتؤكد الشرطة أن كل المطلوبين الخطرين قد اعتقلوا باستثناء اثنين هما الطيب ولد السالك وحماده ولد محمد الخيري اللذين أوقفهما الأمن المالي في وقت لاحق، ولم يسلمهما إلى موريتانيا. ورغم تلك الجهود، فإن منتصف سبتمبر (أيلول) حمل خبرا مفجعا، حيث قتل 11 عسكريا موريتانيا ودليلهم المدني، بعد أن سقطوا في كمين تبناه لاحقا تنظيم «القاعدة»، في منطقة تورين القريبة من مناجم الحديد في ولاية تيرس زمور شمال موريتانيا (750 لكم شمال نواكشوط). وفي 16 ديسمبر (كانون الاول) أعلن الجيش الموريتاني عن إرسال وحدات متخصصة ومدربة على مكافحة تسلل العناصر الإرهابية عبر الحدود إلى الولايات المتاخمة للحدود، حيث تنشط الجماعات السلفية المسلحة. سياسيا، كان السادس من مايو (ايار) بداية النهاية لنظام الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، حيث قدم الوزير الأول الزين ولد زيدان استقالة حكومته الأولى بعد انتخاب ولد الشيخ عبد الله، ليسمي الأخير في اليوم التالي الوزير الأمين العام للرئاسة يحي ولد أحمد الواقف وزيرا أول من خلال مرسوم رئاسي أصدره. ولم يستمر الاستقرار طويلا، ففي 29 يونيو (حزيران) قام الجيش بالإعداد لانقلاب «سياسي» بحثه نواب الاغلبية على إعداد مذكرة لحجب الثقة عن حكومة يحيى ولد احمد الواقف، قائلين إن «الوضع الحالي هو انقلاب سياسي حقيقي ضد النظام الجمهوري القائم»، متهمين ضباطا في الجيش بالسعي إلى إذلال رئيس الجمهورية سيدي ولد شيخ عبد الله، عبر مذكرة حجب الثقة التي من شأنها الاطاحة بالحكومة. وقبل ذلك كان نحو 40 نائبا في البرلمان، معظمهم ينتمي إلى الحزب الحاكم، قد قدموا طلبا بحجب الثقة عن حكومة يحي ولد أحمد الواقف، وعرفوا لاحقا باسم «نواب حجب الثقة». وفي 2 يوليو (تموز) هدد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بحل البرلمان، إذا استمر النواب في مساعيهم لحجب الثقة عن الحكومة، وطالب في خطاب موجه إلى الشعب النواب بمراجعة موقفهم، مستغربا كيف يسعى نواب الأغلبية لحجب الثقة عن الحكومة التي تمثلهم.

وفي اليوم التالي (3 يوليو)، قدم يحي ولد الواقف استقالة حكومته الأولى بعد قرار نواب البرلمان التصويت لحجب الثقة عن الحكومة، وقد أعاد الرئيس سيدي ولد الشيخ، تعيين الواقف في نفس المنصب وكلفه بتكوين حكومة جديدة، أطيح بها في السادس من أغسطس (آب) إثر انقلاب عسكري قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز قائد الحرس الرئاسي، ومدير الديوان العسكري لرئيس الجمهورية، وأعلن قادة الانقلاب عزل رئيس الجمهورية المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله وتشكيل «المجلس الأعلى للدولة» يتولى حكم البلاد. واعتقل قادة الانقلاب الرئيس ورئيس الحكومة. وجاء ذلك الانقلاب بعد حوالي ساعتين على إقالة ولد الشيخ عبد الله لأبرز قادة المؤسسة العسكرية من مناصبهم، لينفذوا الانقلاب فيما وصف بأنه «ردة فعل» إلا أنهم أصروا على القول إن انقلابهم هو «تصحيح للمسار الديمقراطي». وفي 6 و7 أغسطس، دان المجتمع الدولي ممثلا في المنظمات الاقليمية والدولية الانقلاب العسكري، مؤكدا ضرورة العودة إلى الحياة الديمقراطية في هذا البلد.

لم يأبه الانقلابيون للتهديدات الدولية وعينوا في الرابع عشر من أغسطس مولاي ولد محمد الأغظف السفير السابق في بلجيكا رئيسا للوزراء. وفي 17 اكتوبر (تشرين الاول) أعلنت وزارة الخارجية الأميركية فرض قيود على سفر بعض أعضاء المجلس العسكري الحاكم. وفي 20 اكتوبر، بدأ الاتحاد الاوروبي في باريس مشاورات سياسية مع وفد موريتاني يترأسه الوزير الاول مولاي ولد محمد لقظف. وقد رفض الطرف الموريتاني إعطاء أي تعهد بعودة الرئيس المخلوع إلى سدة الحكم، وركز الوزير الأول الموريتاني الذي قاد المفاوضات على سلبيات نظام الرئيس المخلوع، وباءت تلك المحادثات بالفشل. وبعد سلسلة من الضغوطات الدولية والمحلية أفرجت السلطات العسكرية عن الرئيس المعزول في 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، لكنها وضعته تحت الإقامة الجبرية في منزله بمسقط رأسه، ليطلق سراحه بشكل نهائي في 21 ديسمبر (كانون الاول). وفي 21 نوفمبر (تشرين الثاني) أصدر الاتحاد الافريقي توصية ضمن اجتماع في أديس ابابا بإيفاد بعثة دولية الى موريتانيا للقاء الفرقاء السياسيين تحضيرا للقاء بروكسل في 12 ديسمبر، بغية اتخاذ موقف محدد بشأن الوضع السياسي في موريتانيا. وأرجأ اجتماع بروكسل البت في الملف بشكل نهائي إلى اجتماع أديس بابا الذي عقد في 22 ديسمبر، وجدد خلاله مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي دعوته لعودة الشرعية والنظام الدستوري في موريتانيا.

ورغم أن وفودا عربية وافريقية ودولية زارت موريتانيا عدة مرات منذ الانقلاب، إلا أن أي حل سياسي للأزمة القائمة لم يتفق عليه بعد، وتزداد حدة التوتر الداخلي يوما بعد يوما بين القادة العسكريين ومؤيديهم من الأحزاب والمجموعات السياسية وبين الجبهة المناوئة للانقلاب، مع تشبث كل طرف سياسي بمواقفه. وشهدت البلاد خلال العام عودة الفوج الاول من اللاجئين الموريتانيين في السنغال ومالي، حيث وصلت الدفعة الأولى منهم في 29 يناير. كما تم خلال هذه السنة تفعيل القانون الجديد لمحاربة الرق الذي أقره البرلمان، إضافة لقانون تحرير الفضاء الإعلامي السمعي البصري. وخلال العام أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرين شديدي اللهجة حول موريتانيا الأول في الأول من يوليو يقول ان المهاجرين غير الشرعيين، الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا عبر موريتانيا يتعرضون للاعتقال والمعاملة السيئة والإبعاد الجماعي من موريتانيا بدون أن تُتاح لهم فرصة الطعن في قرار إبعادهم. والتقرير الثاني صدر في 3 ديسمبر، وأكد أن قوات الأمن الموريتانية تعذب بعض المحتجزين في السجون بشكل روتيني باستخدام الصدمات الكهربائية والحروق والعنف الجنسي، وأن التعذيب ازداد منذ الانقلاب العسكري في أغسطس.

واختتمت المفوضية المكلفة بحقوق الإنسان في موريتانيا أنشطتها للعام المنصرم بحفل تأبين للضحايا الفرنسيين الذين سقطوا في أول عملية إرهابية في موريتانيا في 24 ديسمبر 2007 تعبيرا عن رفض الموريتانيين لهذا العمل الذي وصفوه بأنه خارج على القيم وعادات المجتمع، وحضر الحفل عدد من رجالات الدين والفكر وأئمة المساجد إضافة إلى مطران الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في نواكشوط وهذا هو أول نشاط في موريتانيا يجمع هذه الأطراف تحت خيمة أصيلة في صحراء موريتانيا التي ارتوت بدماء الرعايا الفرنسيين، في حادثة لن ينساها الموريتانيون والفرنسيون معا.