المكسيك: إجراءات حكومية ورشاوى للموظفين.. تخنق المواطنين

يدفع المكسيكيون رشاوى سنوية تبلغ أكثر ملياري دولار غالباً مقابل خدمات أساسية

TT

لم يتردد أرتورو سانتريا على مكاتب الهيئات الحكومية مرة واحدة أو اثنتين ولا حتى ثلاثة فقط (بل ذهب إلى هناك أكثر من عشرة مرات). ووقف في رتل مضجر إلى حد كبير، وملأ الاستمارات، ثم أخذ رقماً آخر، وملأ المزيد من الاستمارات، ودفع 250 دولاراً رشاوى. بعد 6 أشهر، مازال أرتورو يسعى دون كلل للحصول على مراده: وهو تصريح لطلاء منزله. «أمر مضجر، إنهم يطلبون العديد من الأشياء غير الضرورية فعلياً»، يقول أرتورو.

في أحد الايام، بقي ارتورو الذي يعمل فنيا في الإلكترونيات، ويبلغ من العمر 50 عاماً، ينتظر في صف آخر في هيئة حكومية أخرى مكتظة. كان يمسك بملف قديم يحوي الكثير من الأوراق، خارج أحد الفروع الحكومية بوسط مدينة مكسيكو سيتي، وكانت تلك الزيارة الـ13 بالنسبة له.

وقال ارتورو، وهو رجل قصير مكتنز البنية، ويرتدي سترة حمراء: «قد تكون هناك ثلاث أو أربع زيارات أخرى، ويمكن أن يقولوا في النهاية نسيت توقيع على الشيك أو نسيت ان تضع نقطة هنا».

معاناة ارتورو مع الروتين الحكومي أمر مألوف لدى الكثير من المكسيكيين الذين حفظوا عن ظهر قلب العقبات التي يواجهونها يوميا والمتطلبات البيروقراطية الحكومية، والتي من المحتمل أن تصيب الأميركيين بنوبات هياجية. وكما هو الحال في الولايات المتحدة، هناك العديد من المتطلبات الحكومية الروتينية لافتتاح شركة ما، أو تسجيل سيارة، أو حتى بناء شرفة. إلا أن ما يميز الروتين الحكومي المكسيكي، هو القدر الكبير من الأوراق والاستمارات المطلوبة – والتي تتمثل في الهوية الشخصية، وإثبات الإقامة، وشهادات الميلاد، صكوك وسندات الملكية - وبعض هذه الاوراق من الصعب استحصاله.

غالباً ما يشكو المكسيكيون من أن الرشاوى باتت السبيل الوحيد لتحريك عجلة الحكومة المتثاقلة.

وقد أثار قرار حكومة الرئيس فيليب كالديرون في الفترة الأخيرة بعرض جوائز مالية في منافسات لتحديد «أكثر الإجراءات الروتينية عدم فائدة»، شعوراً جميلاً للانتقام من هذا الروتين المضجر. وتأتي تلك المسابقة في الوقت الذي صورت فيه حملة إعلانية مواطنا منهكا، يحمل الكثير من الأوراق والملفات، ويقف أمام موظف حكومي يحملق فيه بتعجب.

وللتنفيس عن الإحباط والكبت المصابين به طيلة السنوات الماضية، اندفع أكثر من 20 ألف مواطن مكسيكي لترشيح أنفسهم في تلك المسابقة عبر الانترنت والهاتف، وحتى النظام البريدي. وخلال هذا الشهر، سيتم الإعلان عن أسماء الفائزين، وسيحصل كل منهم على منزل قيمته نحو 50 ألف دولار. وقال سلفادور فيغا كاسيلاس الذي يترأس مكتب المراقبة الفيدرالي: «تمثل الفكرة هنا في الحصول على تقييم للمتطلبات الروتينية الحكومية من وجهة نظر المواطنين. وتعتبر هذه المرة الأولى التي تدفع فيها الحكومة أموالاً نظير انتقادها». ويقول كالدرون، من حزب العمل القومي المؤيد لتسهيل الإجراءات على الأنشطة التجارية، إن الحكومة التي تسهل الإجراءات وتحسن المحاسبة سوف تجعل من المكسيك بيئة أكثر تنافسية، وأيسر في المعيشة، كما سيؤدي إلى ضعف الرغبة في الفساد. وغالباً ما تحمل المتطلبات الروتينية الحكومية الزائدة المواطنين على تقديم الرشاوى كطريقة للالتفاف حول الروتين الحكومي المعقد. وتوصلت دراسة أجرتها منظمة ترانسبيرانسي مكسيكو غير الهادفة للربح العام السابق الى أن سكان المكسيك البالغ قوامهم 105 ملايين نسمة يدفعون رشاوى سنوية تبلغ في مجموعها أكثر من ملياري دولار، وغالباً ما يقدمون تلك الرشاوى نظير الحصول على الخدمات الأساسية مثل تركيب خط مياه، أو جمع النفايات. وقول إدواردو بوهوركويز مدير نرانسبيرانس مكسيكو: «نفس هذا المبلغ يعادل ما ننفقه على النظام القضائي الفيدرالي كاملاً. إن هذا يعد عبءا كبيراً». وعبر الكثير من المكسيكيون عن سأمهم النابع من سنوات طوال من الروتين الحكومي المضجر، مشيرين إلى أنه ما الذي يمكنهم فعله حيال هذا الأمر. ومع ذلك، يلوح في الأفق ثمة تغير بطيء نوعاً ما، وذلك على أساس أن البلاد بدأت تخرج من إطار النظام المحمي المتستر ـ نظراً لسيطرة نفس الحزب على الحكم منذ عقود ـ متجهة نحو الديمقراطية الناشئة، كما أنها باتت أكثر قابلية على قبول منتجات، واعتناق أفكار من الخارج. وجلب هذا التغير منافسة سياسية حقيقية، كما أنه حفز المواطنين على طلب المزيد والمزيد من الحكام، أو على الأقل في ما يتعلق بالروتين الحكومي المضجر. ويقول بوهوركويز: «يقولون (يقصد المواطنين)، إذا تمكنت من الحصول على خدمة أفضل في السينما، فلماذا لا أستطيع الحصول على مثل تلك الخدمة من الحكومة»؟ ورغم دعوة كالدرون لتخفيض الإجراءات الحكومة، إلا أنه وفي تلك الأيام يوجد أكثر من 4200 متطلب روتيني فيدرالي، أي ما يوازي تقريباً ضعف العدد الكائن فعلياً قبل استئثار حزبه المحافظ على السلطة من الحزب الثوري المؤسسي، والذي انتهى استئساده على السلطة على مدار 70 عاماً في هزيمة انتخابية عام 2000. ويقول المسؤولون، إن ثمة قفزة كبيرة نتجت من الموظفين، إذ يحاولون السعي لإعادة تشكيل النظام المكسيكي، كما أن هناك جهدا يبذله حزب العمل القومي لتنظيم وتصنيف الإجراءات الحكومية بعد الحكم الطويل للحزب الثوري المؤسسي، والذي اتسم بتقتير الرؤساء المحليين للمنافع على المواطنين على نحو متردد. وقال فيغا إن المسؤولين يأملون في تخفيض قدر الروتين والإجراءات الحكومية إلى 3000 بنهاية فترة ولاية كالدرون عام 2012، وتيسير تلك الإجراءات عبر السماح للمواطنين بملء الاستمارات أو تحديد المواعيد عبر الإنترنت. وأضاف: «إننا نحاول العودة إلى المتوسط الجيد، وللحكومة اليسيرة المنظمة، وأن نجعلها أكثر قبولاً وانفتاحاً، وأزهد في التشغيل والعمل، فضلاً عن أن تكون أكثر إرضاءً للعامة». ولا يتعين أن يكون هذا الجزء الأخير صعباً، وذلك على أساس الأعباء التي يُثقل بها كاهل أغلب المكسيكيين. ومثال على ذلك، يتعين على المتقاعدين التردد على مكتب الأمن الاجتماعي كل ثلاثة شهور لإثبات أنهم مازالوا على قيد الحياة. ويضطر قاطنو القرى إلى السفر 5 أو6 ساعات بالحافلة لحل قضية تتعلق بملكية الأرض، ليتم إخبارهم بعد ذلك أن يأتوا في يوم آخر. كما من المحتمل أن يستغرق تسجيل سيارة أو استخراج رخصة لتاكسي أياماً. ولهذا السبب تكتظ أرصفة الشوارع بعربات بيع السندويتشات، والطاولات المنتشرة المملوءة بالملابس، والألعاب، والأشياء الأخرى المعروضة للبيع، حيث يبتعد الكثير من البائعين والتجار عن صداع الرأس الذي قد ينجم عن محاولة استخراج ترخيص رسمي لفتح متجر.

ويعتبر الموظفون المكسيكيون شديدي التمسك بالنظام والرسميات الروتينية، إذ من الممكن أن يؤدي مجرد شطب، أو نبش في الاستمارة إلى أن تعيدك من نقطة البداية. ويقول إيستيبان غازكا – الاقتصادي البالغ من العمر 52 عاماً لدى مغادرته لمكتب الجوازات الفيدرالي الموجود داخل المجمع الحكومي بالمدينة: «بالنسبة لي، إنها طريقة لتبرير الضرائب التي ندفعها، ولتبرير كل تلك التعيينات». وقد غادر بدوره المكتب صفر اليدين بعد وقوفه في الطابور لليوم الثاني، حاملاً بيديه ملف الأوراق الخاصة به. وفي اليوم السابق، قيل لغاسكا في هذا المكتب الحكومي أنه سيتم تجديد جواز سفره، إلا أنه أُخبر أنه يتعين عليه أولاً إعادة استصدار شهادة ميلاد معدلة طبقاً للشكل الجديد. وهو ما يعني طلباً روتينياً آخر، وطابورا آخر، وهيئة حكومية أخرى.

* خدمة «لوس أنجلس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»