نص كلمة الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي

TT

... من نافلة القول أن العلاقات الخليجية – الأميركية، علاقات إستراتيجية ترسخت عبر عقود طويلة من التعاون المثمر والمصالح المشتركة في كافة المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والتربوية والثقافية والاجتماعية.

إن الولايات المتحدة الأميركية تظل الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون، والمساهم الأبرز في المشاريع التنموية، وتظل الجهة المفضلة لتلقي المعرفة والعلم والطبابة لدى ابناء هذه المنطقة الرغبين في مواصلة تعليمهم العالي أو المحتاجين لرعاية طبية متقدمة.

إن دول الخليج العربية تعتبر إرساء دعائم السلام والأمن والاستقرار والتنمية والرفاه في دول الخليج تحديدا ومنطقة الشرق الأوسط عموما بمثابة أهداف استراتيجية ذات أولوية قصوى للطرفين لكن تحقيق هذه الأهداف مرهون بإزالة التناقض الواضح في السياسات الأميركية بين السعي لتحقيق السلام وبين إعطاء إسرائيل كل ما تطلبه دون قيود أو شروط حتى لو أدى ذلك الى تقويض جهود إحلال السلام، وتظل هذه العقدة المؤثر السلبي الأكبر على مسيرة علاقاتنا مع الولايات المتحدة الأميركية.

لقد حتمت أحداث السنين الأخيرة أن تكثف دول الخليج العربية مجالات تعاونها وتشاورها مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك لمواجهة تحديات ومخاطر بالغة الأهمية والتاثير تشمل مخاطر الإرهاب الإجرامي العابر للحدود والذي يستهدفنا جميعا، وكذلك مخاطر القرصنة البحرية المتنامية، كما تشمل مخاطر عدم الاستقرار وتصاعد التوترات في كامل المنطقة المحيطة بدول الخليج العربية من المثلث الأفغاني - الباكستاني - الهندي إلى المثلث الفلسطيني - اللبناني - السوري مرورا بالطبع بالعراق وإيران.

وكم كنت أتمنى لو أن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض قد أتت وهذه التحديات والمخاطر في طريقها للمعالجة والإنحسار، لكن الحقائق التي تفرض نفسها علينا جميعا تجعل من الضروري أن نحشد طاقاتنا وهممنا لمواصلة التصدي، وبشكل مشترك وفي وقت مبكر لهذه التحديات والمخاطر المترابطة والمتداخلة، وبدلا من الخوض بالتفصيل في كل قضية من هذه القضايا، وهو ما أتوقع أن تغطيه مداولاتكم في هذا المنتدى، اسمحوا لي أن أركز بشكل خاص على الأهمية البالغة لمساحات الترابط والتداخل بين هذه الأزمات المتنوعة، والتي إن كانت تزيد من تعقيدات وخطورة كل أزمة على حدة، إلا أنها أيضا توفر المدخل الملائم والضروري لتلمس سبل المعالجة الحاسمة والفعالة.

إن منطقة الخليج جزء لا يتجزأ من العالمين العربي والإسلامي ومن منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم ليس هناك على مدى الستين عاما المنصرمة صراعا أكثر خطورة في مجرياته وتداعياته وتأثيراته على أمن واستقرار الخليج والشرق الأوسط من الصراع العربي – الإسرائيلي، ولعل الأحداث الأليمة التي يشهدها قطاع غزة في هذه الأيام ترسخ في أذهان جميع المتشككين بأن هذه الحقيقة باتت من البديهيات التي لا تحتاج لبرهان أو دليل، فإذا كنا نتحدث عن أسباب تنامي التطرف والإرهاب، أو عن مخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل، أو عن عوامل عدم الاستقرار في دول متعددة أو حتى عن فرص التنمية والتحديث المهدرة، سنجد بكل يقين أنه ليس هناك بؤرة من بؤر التوتر لا ترتبط بشكل واضح وملموس بفشل المجتمع الدولي، والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، في تحقيق حل سلمي عادل وشامل لهذا الصراع الذي طال أمده، وبالمقابل فإن التوصل الى حل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي، أو حتى إحياء الأمل بقرب التوصل جديا لمثل هذا الحل من شأنه بالتأكيد أن يغير جذريا من مجمل معطيات بؤر التوتر والتأزم المتعددة في كامل المنطقة.

من هذا المنطلق فقد قرر المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية تكليفي مع معالي أمين عام جامعة الدول العربية بإرسال رسالة بإسمهم جمعيا إلى الرئيس المنتخب باراك أوباما نحثه فيها على إعطاء أولوية قصوى ومبكرة لجهود تحقيق حل سلمي للصراع العربي – الاسرائيلي، ونجدد فيها التزام العرب بتحقيق السلام العادل والشامل المتوافق مع مبادئ وقرارات الشرعية الدولية.

إن الجميع يدرك المعالم الأساسية لتحقيق السلام المنشود، وهي واضحة كل الوضوح في عناصر مبادرة السلام العربية التي تلتزم فيها جميع الدول العربية، بل والدول الإسلامية أيضا بعد قمة مكة المكرمة الاستثنائية، بإقامة سلام شامل وعلاقات طبيعية مع إسرائيل آمنة ومستقرة بعد إنسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م، وإقامة دول فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، والتوصل لحل إنساني عادل لمشكلة اللاجئين، ولكن هذه المبادرة التاريخية واجهت وتواجه مواقف إسرائيلية تصعيدية تتناقض بكل وضوح مع الرغبة في السلام ومع التأييد العالمي الواسع الذي تحظى به مبادرة السلام العربية.

فإذا كان الجميع يدرك معالم الحل المنشود فإن الجميع بات يدرك أيضا أسباب عدم تحقيق السلام حتى الآن .

إن السلام لم ولن يتحقق عبر استمرار إسرائيل في إرتكاب المجازر والمذابح والقصف العشوائي بحق أبناء الشعب الفلسطيني أو حين تعتبر إسرائيل كما حصل ويحصل مرارا وتكرارا بأن إراقة المزيد من الدماء الفلسطينية الطاهرة يعد من آليات المزايدات الأنتخابية بين الأحزاب الأسرائيلية.

إن السلام لم ولن يتحقق عبر التضاهر بإجراء مفاوضات مطولة وغير مجدية في نفس الوقت الذي تنكث فيه إسرائيل بكل وعودها والتزاماتها وتسارع لبناء المزيد من المستوطنات والطرق الالتفافيه لتغيير الحقائق على الأرض بحيث يستحيل تصور قيام دولة فلسطينية مستقلة مترابطة وقابلة للحياة والسلام المنشود، لم ولن يتحقق بفرض العقوبات والاشتراطات على الشعب الرازح تحت الاحتلال في حين يتم إعفاء إسرائيل من أية تبعات رغم مخالفتها لأبسط قواعد وقرارات القانون الدولي، وأخيرا وآمل أن يكون ذلك واضحا كل الوضوح فإن السلام المنشود لم ولن يتحقق بمحاولة فرض التطبيع على العرب قبل تحقق الإنسحاب وقبل إنجاز السلام وكأن علينا مكافأة المعتدي على عدوانه في منطق معكوس لا يمت للجدية والمصداقية بأي صلة.

وإذا أردنا أن نخاطب مباشرة عبر هذا الجمع الكريم، الرئيس المنتخب باراك أوباما، فإننا نقول له لقد أكد انتخابكم يا فخامة الرئيس تميز وعمق التجربة الديمقراطية الأميركية، وأكد شعار حملتكم الانتخابية القائل لطالبي التغيير بأننا نستطيع فعلا تحقيق ذلك معا «yes, we can» ونحن هنا نقول لفخامتكم إننا أيضا نستطيع معا تحقيق الإختراق المطلوب للوصول إلى حل سلمي دائم للصراع العربي - الإسرائيلي "yes, we can" , وأن جميع الدول العربية جاهزة ومستعدة للعمل بكل جدية ومصداقية في هذا السبيل. ولا شك أن فخامتكم سيسمع من البعض بأن تحقيق هذا الهدف الحيوي ما يزال بعيد المنال أو تكتنفه صعوبات لا سبيل لتجاوزها مبكرا، لكن هذه الآراء تقال دوما لجميع من ينشدون تحقيق تغيير حاسم، والواضح والمؤكد، والذي أثبتته بكل جلاء ووضوح أحداث هذه الأيام الدامية، أن تطورات ومعطيات الصراع العربي الإسرائيلي لن تسمح لأي منا حتى بترف التفكير في جدوى أو عدم جدوى تخصيص أولوية قصوى ومبكرة لمساعي التوصل الى حل سلمي شامل ودائم.

إن إدراك أهمية الترابط والتداخل بين ما نشهده من تحديات ومخاطر ينسحب أيضا وبشكل مباشر على منطقة الخليج التي تشهد توترات وأزمات تهدد أمنها واستقرارها ومصالحها الحيوية، فالأزمات والتدخلات العسكرية التي اندلعت في كل من العراق وأفغانستان كان لها آثار مباشرة وواضحة على اختلال التوازن التقليدي بين دول منطقة الخليج لمصلحة إيران، كما أن غض النظر طوال عقود عن البرنامج النووي الإسرائيلي ، والذي لا يتذرع حتى بانتاج الكهرباء بل لا ينتج سوى أسلحة الدمار الشامل، يمثل خطيئة أصلية كان من شأنها تحفيز إيران على المضي قدما في تطوير قدراتها النووية، وتمكينها من التذرع بإزدواجية المعايير لتبرير عدم التزامها بقرارات الشرعية الدولية في هذا المجال.

إننا في دول الخليج العربية لا نكن سوى الإحترام والأخوة لأبناء الشعب الإيراني العريق، ولما يمثله من إرث حضاري عظيم، وثقافة راقية طالما تفاعلت وامتزجت مع الثفافة العربية الإسلامية، لكن من حقنا أن نؤكد أيضا على أهمية الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتي تعد من أبسط قواعد حسن الجوار وتنمية العلاقات، ومن حقنا أن نعبر بكل وضوح عن قلقنا المشروع ومخاوفنا المبررة من أي تطورات تؤدي إلى انتشار أسحلة الدمار الشامل في منطقة الخليج، أو تعرض شعوب المنطقة لمخاطر بيئية وأمنية ولعبثية سباقات التسلح، ومن حقنا أيضا أن نؤكد رفضنا القاطع لأي انفراد بالهيمنة والنفوذ على حساب دولنا وشعوبنا ومصالحنا أو لأي مخططات تحيل دولنا وشعوبنا إلى أحجار شطرنج في مساومات الآخرين.