محمود أمين العالم.. رحيل مفكر أعطى اليسار وجها إنسانيا

خاض معركة ثقافية بين «الوجه» الفكري و«القناع» السياسي

TT

اهتز الوسط الثقافي العربي صباح أمس، بإعلان نبأ وفاة المفكر المصري محمود أمين العالم، الذي رحل عن الدنيا فجرا، إثر أزمة قلبية هاجمته فأودت بحياته عن عمر يناهز السابعة والثمانين. فيما أعلن محمد سلماوي رئيس اتحاد كتاب مصر في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» أن الاتحاد يدرس إقامة احتفالية فكرية خاصة لمناقشة إسهامات الفقيد الفكرية، وخاصة في المجال الثقافي والأدبي.

المعروف أن العالم يعد أحد أقطاب الفكر اليساري في مصر وقد انتسب في مرحلة الشباب لـ«الحزب الشيوعي» المصري، وتعرض للاعتقال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وأيضا في عهد أنور السادات، فيما فر من البلاد إبان فترة الستينات مهاجرا إلى بريطانيا، ومنها إلى فرنسا، حيث اشتغل بتدريس الفكر العربي المعاصر في جامعة باريس، لفترة قاربت العشر سنوات، ركز خلالها على إطلاق مجلة «اليسار العربي»، ولما عاد إلى بلاده أصدر مجلة «قضايا معاصرة». كما أشار سلماوي الذي يشغل أيضا موقع الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، إلى أن قيمة أمين العالم تتجاوز الحدود الإقليمية لمصر، واعتبر رحيله خسارة كبيرة للحياة الثقافية العربية بشكل عام، إذ أن مشاركته في الحياة الثقافية طوال فترة ناهزت ربع القرن، مكنته من أن يكون أحد أعمدة الفكر والأدب والثقافة في مصر، بغض النظر عن التوجهات السياسية للأنظمة المتعاقبة.

ومن المقرر أن يقام سرادق كبير للعزاء في الفقيد بعد غد (الثلاثاء)، حسبما أشار رفعت السعيد رئيس حزب التجمع ونائب مجلس الشورى المصري، الذي أكد أيضا في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن العالم يمثل رمزا لجيل من المفكرين، الذين تمكنوا من الجمع بين البزوغ في عدة مجالات، فقد كان العالم قطبا من أقطاب الفلسفة المعاصرة، إذ رأس لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، كما كان أيضا رمزا من رموز الحركة السياسية والشعر والنقد، ويعد أحد كبار النقاد العرب، في ذات الوقت الذي لم يتخل فيه عن نهجه في النضال السياسي، مما عرضه للاضطهاد حقبا طويلة من عمره، ودفع ثمنا لتمسكه بآرائه أن فصل من الجامعة، فيما كان على وشك الحصول على الدكتوراه، وبرغم ذلك، تمكن بإنتاجه الفكري الثري، أن يسطر اسمه بحروف خالدة في الثقافة العربية. وأشار السعيد الذي يعد من أقطاب المعارضة اليسارية المصرية، إلى أن رحيل العالم يعد خسارة ليس لليسار المصري فحسب، ولكن لليسار العربي بأسره. جدير بالذكر أن التوجه اليساري للعالم، برز في فترة دراسته الجامعية، حينما تبوأ مركزا قياديا في الحركة الشيوعية الطلابية. وولد العالم في الثامن عشر من فبراير (شباط) بوسط مدينة القاهرة عام 1922، وتلقى أول تعليم له بحفظ القرآن في أحد الكتاتيب بحارة «السكرية»، وبعد حصوله على البكالوريا (الثانوية) بمدرسة الحلمية القريبة من حي القلعة الشعبي التحق بقسم الفلسفة بآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، وحاز درجة الماجستير من الكلية ذاتها وكان موضوع رسالته «فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة»، ولكن فصل عام 1954 قبل أن يستكمل رسالة الدكتوراه بعنوان «الضرورة في العلوم الإنسانية»، وراح يتكسب قوته من العمل في التدريس الخاص للغتين الإنجليزية والفرنسية، وكذا الفلسفة والمنطق، وبزغت أولى اهتماماته بالشأن العام، حينما التحق بمجلة «روز اليوسف» التي عرف عنها في تلك الفترة انتقادها للأوضاع المناقضة للديمقراطية، حيث عهد إليه كتابة افتتاحيتها.

وتردد اسم العالم بقوة في الأوساط الأدبية، حينما كتب مقالا صحافيا مشتركا مع صديقه عبد العظيم أنيس، ردا فيه على مقال لطه حسين حول مفهوم الأدب، وآذن ذلك المقال بنشوب معركة ثقافية على مستوى فكري عال، ساهمت في إثراء حركة نقد النص الأدبي المعاصر. ومن أهم إسهاماته الفكرية «ألوان من القصة المصرية» الصادر عام 1955 و«معارك فكرية» عام 1970 و«الثقافة والثورة» عام 1970 و«تأملات في عالم نجيب محفوظ» عام 1970 و«الرحلة إلى الآخرين» عام 1974، و«الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر» عام 1973 والبحث عن أوروبا عام 1975 و«توفيق الحكيم مفكرا فنانا» عام 1994، و«ثلاثية الرفض والهزيمة» في نقد رويات لصنع الله إبراهيم. وقد حصل العالم على جائزة الدولة التقديرية عام 1998.

ولكن التوجه اليساري للعالم كان ذا نكهة خاصة، نأت عن الطابع المادي الجامد، وخرجت به من قوقعة الخلايا والعمل السري الخفي المرتبط بالخروج على الشرعية، وكما يصف الكاتب المصري محمد سلماوي ناعيا إياه، فقد كانت أبرز بصماته في الحياة الثقافية والسياسية معا، أنه نجح في إعطاء اليسار وجها إنسانيا، وقد تمكن من أن ينزع عن الفكر اليساري، ما اصطبغ به طوال عقود من جمود وتطرف، وتمكن بمعرفته الفلسفية الواسعة من أن يخرج بالفكر اليساري إلى عالم أكثر رحابة، حتى خصومه، كان يخاطب فيهم إنسانيتهم التي كان يراهن عليها قبل أن يراهن على فكرهم أو سطوتهم. ولم تختلف السمات الشخصية التي تمتع بها العالم عن سمات كتاباته، فقد كان تجسيدا حيا لإنسانية اليسار على الصعيدين السياسي والفكري، حسبما أضاف سلماوي، مضيفا أن اتحاد الكتاب المصريين يدرس بجدية التباحث حول إعادة نشر إسهاماته النقدية مع دور النشر وورثته.