سقطت الهدنة بين بري والسنيورة قبل أن يبدأ سريانها وبري يعتبر المساس بمجلس الجنوب «استهدافا للمقاومة»

السفير السعودي شجَّع على تسريع عملية تعويضات الحرب

TT

سقطت «الهدنة» التي طلبها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قبل أن يبدأ سريانها، فعاد التراشق الإعلامي بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وفريقيهما السياسيين في موضوع مجلس الجنوب الذي تحول إلى أزمة سياسية تهدد التهدئة السياسية القائمة في لبنان منذ اتفاق الدوحة في مايو (أيار) الماضي والتي لا تخلو من رائحة الانتخابات، وهو اتهام يتبادله الطرفان.

وامتد السجال ليطال ملف تعويضات حرب يوليو (تموز) التي كانت مادة دسمة للطرفين استعملت في السجال، وخصوصا الهبة السعودية، وهي الأكبر بين الهبات التي وصلت بعد الحرب، مما استدعى تدخلا من السفير السعودي لدى لبنان د.عبد العزيز خوجة الذي عقد اجتماعات مكثفة مع الرئيس السنيورة ومسؤولي الهيئة العليا للإغاثة، انتهت - كما علمت «الشرق الأوسط» - إلى إنهاء هذا الملف بشكل كامل. وعلم أن الدفعة الثانية من التعويضات البالغة 35 مليون دولار، سوف يتم تسديدها بالكامل خلال فبراير (شباط) الحالي سعيا إلى «إبعاد هذا الملف عن التجاذب الانتخابي الداخلي».

وقد استطلعت «الشرق الأوسط» موقفي رئيسي المجلس والحكومة من ملف مجلس الجنوب الذي لا يزال على رأس الاهتمامات الداخلية، ويكاد يتحول إلى ما يشبه كرة الثلج. وبالنسبة إلى الرئيس السنيورة لا تعتبر قضية «المجالس سياسية بقدر ما هي تقنية»، فالمالية العامة في خطر شديد جراء الإنفاق المتزايد وعدم القدرة على زيادة موارد الدولة، والضرائب - كما ينقل عنه زواره – «لا يمكن فرض المزيد منها. وهو (السنيورة) ليس في هذا الوارد». ويقول الزوار إن رئيس الحكومة يصف الاقتراح الذي أرسله بري إلى اللجان البرلمانية لإلغاء المجالس والصناديق كافة بأنه «خطأ كبير» مشيرا إلى أنه إذا وافق مجلس النواب على إلغاء مجلس الإنماء والإعمار فهو سيقبل بذلك، وينحني لرغبة ممثلي الشعب رغم إدراكه أن ذلك «خطيئة في حق لبنان» وأنه «لا توجد إدارة واحدة في الدولة قادرة على إدارة الكم الهائل من القروض والهبات التي يديرها المجلس» وأن هذا بمثابة إطلاق المرء النار على رأسه. ويقول السنيورة إن إقفال صندوق المهجرين ومجلس الجنوب مطلب قديم للكثيرين، وقد أدرج في أكثر من موازنة كموازنة عام 2004، كما ورد في البيان الوزاري للحكومة الحالية. ويشير في هذا المجال إلى الاتفاق على إقرار مبلغ 200 مليون دولار لمجلس الجنوب، و300 مليون لصندوق المهجرين لدفع كل المستحقات المترتبة عليهما وإقفالهما بعد ذلك، مبررا الأمر بأن هذا الملف «كلما ترك من دون معالجة فرَّخ مستحقات إضافية على مالية الدولة». ويضيف أنه قبل بوضع مبلغ 25 مليار ليرة (نحو 17 مليون دولار) في موازنة المجلس مساهمة منه في حل المشكلة، لكن بري رفضه، طارحا المزيد من المطالب التي رفعت المبلغ إلى نحو مائة مليون دولار. ويرى أن بري لا يريد السلفات «لأنه يعتبرها مضمونة في جيبه، ويريد المزيد» متهما إياه بالسعي إلى «استعمالات انتخابية لهذا الملف».

وأفاد السنيورة بأنه اقترح أن يصار إلى وضع رواتب أهالي الشهداء وجرحى الاعتداءات الإسرائيلية من ضمن الرواتب التي تدفعها وزارة المال دوريا كما تفعل مع المتقاعدين، لكن بري رفض هذا الأمر أيضا. واستغرب كيف أن رئيس المجلس رفض هذا الاقتراح، متسائلا عن الأسباب التي تدعوه إلى إبقاء هذا الملف في عهدة مجلس الجنوب. وأشار إلى أنه لا يعرف شيئا عن مجلس الجنوب ومصاريفه ومشاريعه رغم أنه المسؤول المباشر – نظريا – عن هذا المجلس الذي يتبع له إداريا. وقال: «لم أستشر يوما في أي أمر من الأمور المتعلقة بمجلس الجنوب. أما بشأن صندوق المهجرين فأُستشار أحيانا». وشدد على أن عمل المجلس بعيد تماما عن الرقابة التي تعتبر رقابة شكلية.

وذكَّر مجددا بالوضع «الصعب جدا» للمالية العامة «بما يمنع التفكير في أي إنفاق غير ملح»، مؤكدا أنه يدرك تماما مطالب الناس، وأنه يمكن له شخصيا أن يضع لائحة بالكثير من هذه المطالب، لكنه مضطر إلى التعامل بواقعية مع هذه الملفات حرصا على مالية الدولة. ويتحدث السنيورة عن «استحقاقات داهمة» على المالية العامة، إذ يتوقع أن يبلغ العجز العام في الموازنة نحو 4 مليارات دولار من دون ذكر سلفات مجلس الجنوب وصندوق المهجرين ومبلغ الـ 450 مليون دولار اللازم لاستكمال ملف تعويضات حرب يوليو (تموز)، بالإضافة إلى التزامات مؤتمرات باريس 1 و2 و3. ويقول إن «لا أحد يتحمس لإقراض الدولة. وكلما زدنا في الاقتراض زادت الفوائد». ويضيف: «أنا لا أحضر المال بكبسة زر، فالعملية معقدة وصعبة. وأحيانا لا نجد من يقرضنا، فيما هم يقولون لي هذه شغلتك...نحن نريد المال». ويتابع أنه كان قادرا على إرضاء الجميع لو أراد، فهو سينهي عمله بعد نحو أربعة أشهر عند انتهاء الانتخابات النيابية «ولولا شعوري بالمسؤولية لقلت ومن بعدي الطوفان وأرضيت الجميع، ثم تنفجر الأمور بعد مغادرتي. لكني لا أستطيع أن أتصرف إلا كرجل مسؤول».

وتطرق السنيورة إلى ملف تعويضات الحرب الأخيرة، موضحا ملابسات ما حصل وما تردد عن الاستدانة مقابل هذه الأموال من مصرف لبنان. وذكر - كما نقلت عنه المصادر - أن المبالغ التي تحتاجها الدولة لموضوع الإغاثة العاجلة هي نحو 217 مليون دولار، فيما المتوفر من الهبات هو 87 مليونا فقط بناء على مذكرات التفاهم مع الدول المتبرعة التي خصصت قسما من تبرعاتها للإغاثة العاجلة، وقسما آخر لتعويض المتضررين، وثالثا لإنجاز مشاريع تريدها هي. أما في ما يخص الأبنية السكنية فهناك مبلغ 782 مليون دولار تحتاجها الدولة لإعادة الإعمار، فيما المتوفر 490 مليونا فقط. وفي «المقلب الآخر» يبدو الرئيس بري أشد تمسكا بموقفه من قضية موازنة مجلس الجنوب فهو يريدها 60 مليار ليرة (40 مليون دولار) بالتمام والكمال. فالمسألة لديه ليست «بيعة بطاطا» يقبل بالمساومة حولها بل هي، كما يقول: «حقوق الناس المتضررين والجرحى وأهالي الشهداء الذين يرعاهم مجلس الجنوب».

ويشرح باستفاضة سيناريو المشكلة، وكيف أنه فوجئ بإطاحة موازنة مجلس الجنوب وإنزالها إلى صفر باستثناء رواتب وأجور الموظفين، مشيرا إلى أن ما يجري يزرع في صدره الكثير من الشكوك حول ما إذا كان المطلوب إلغاء كل ما من شأنه دعم صمود الجنوبيين وما يقوي مناعتهم في مواجهة أي عدوان مستقبلي. ويقول إنه صارح رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بذلك عندما كان الأخير يطرح عليه «تسوية» تقضي بخفض المبلغ إلى 25 مليار ليرة (نحو 17 مليون دولار). وذكر أنه توجه إلى الرئيس بالقول: «فخامة الرئيس، أنت رجل وطني، قاتلت مع الجيش في الجنوب وفي كل لبنان دفاعا عن الوطن، لكني بت أعتقد أن ما يحصل هو هجمة مدروسة ضد كل ما له علاقة بالمقاومة».

ويوضح بري أنه أرسل إلى مجلس الوزراء لائحة باحتياجات مجلس الجنوب تفوق المائة مليون دولار هي مستحقات عليه، من أجل دفع رواتب عوائل الشهداء واستكمال مشاريع ينفذها المجلس، مؤكدا أنه لا يطلبها كلها دفعة واحدة لأنه يعرف الوضع المالي للدولة «ولا أحد يزايد علينا في هذا الموضوع». ويشدد على أنه أرسلها للعلم فقط ولا يزال يتمسك بأرقام الموازنة المخصصة لمجلس الجنوب، كاشفا أن عدم دفع الأموال لا يعني أن أعمال المجلس سوف تتوقف، بل ستستمر وإن رتبت ديونا على الدولة. وردا على سؤال عن رفضه القبول بسلفات الخزينة رغم أن الرئيس السنيورة أبدى استعداده لإصدارها، قال بري: «هذه السلفات تعود لمستحقات الناس على مجلس الجنوب. ولا علاقة لها بموازنته السنوية. ولهذا قلنا لهم أن لا يدفعوا السلفات الآن ويستعيضوا عنها بموازنة المجلس». واتهم الرئيس السنيورة باستعمال أموال التعويضات المخصصة لمتضرري حرب يوليو (تموز) للضغط على الناس في الانتخابات، مشددا على أنه (بري) ليس في حاجة إلى أموال مجلس الجنوب ولا أموال المتضررين لإثبات شعبيته. ويقول إنه طلب إلى رئيس الجمهورية «تقطير» المبالغ التي ستدفع لمجلس الجنوب إلى ما بعد الانتخابات النيابية حيث يتم الإفراج عنها ضمانا لعدم استخدامها في الانتخابات، متهما السنيورة، في المقابل، باستعمال أموال «الإغاثة» في «التزفيت الانتخابي» وبأنه يعمل من أجل «فؤاد الثاني» ويسعى إلى بقاء المشاكل قائمة لتصبح عودته إلى هذا المنصب حاجة في الحكومة الأولى بعد الانتخابات، مؤكدا أنه لن يعلق في هذا الفخ مرة ثانية.