محكمة الحريري (الحلقة 5): حاملو ضريبة الدم

مستهدفون وعائلاتهم يريدون المحكمة الدولية ويعلمون أنها لن تعيد الأحبة أو تزيل الآلام

نائبان لبنانيان يرفعان لوحة تحمل صور رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وخمسة من النواب الذين اغتيلوا منذ الرابع عشر من شباط 2005 («الشرق الأوسط»)
TT

بدأ الكابوس في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2004. صباح ذلك اليوم دوى انفجار أطاح بسيارة النائب مروان حمادة بعيد مغادرته منزله في منطقة رأس بيروت. حمادة نجا بأعجوبة لكن دوامة العنف والإرهاب فتحت شهيتها، لتبلغ الذروة في 14 فبراير (شباط) 2005 وتختار هذه المرة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ومرافقي الرئيس يحيى العرب وطلال ناصر وزياد طراف ومازن الذهبي ومحمد درويش وعمر المصري ومحمد غلاييني، ومواطنين صودف وجودهم في ساحة الجريمة، هم رواد حيدر وعبدو أبو فرح وزاهي أبو رجيلي وآلاء عصفور وهيثم عثمان وعبد الحميد الغلاييني وريما بزي. الجريمة أحدثت زلزالا شعبيا وسياسيا في لبنان، وأسفرت عن خروج الجيش السوري وإرسال الأمم المتحدة لجنة دولية لتقصي الحقائق. ومن ثم لجنة تحقيق دولية. لكن دوامة العنف والإرهاب لم تكتف بما حصدت. فكان دور سمير قصير ومن ثم جورج حاوي والنائب جبران تويني والوزير بيار الجميل والنائب وليد عيدو والنائب أنطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد.

ومقابل هذه الحصيلة الفظيعة، عجزت آلة الإرهاب عن القضاء على الوزير الياس المر ومي شدياق والمقدم سمير شحادة الذي كان أول من تمكن من تحليل الاتصالات الهاتفية المرتبطة بالجريمة. كل هؤلاء دفعوا ثمن إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي من لحمهم ودمهم ودموعهم. الثمن لم يكن بالمعنى المجازي وإنما بالمعنى الحقيقي المرتبط بانفجارات إرهابية طاولتهم أو طاولت أحبتهم ولم تخلف لهم إلا الأمل بوجود عقاب يكون على قدر الجريمة وليس أقل. المحكمة التي ستلاحق مرتكبي جرائم الاغتيال في لبنان أصبحت حقيقة على بوابة الأول من مارس (آذار) 2009. صحيح أن جميع اللبنانيين ينتظرون انطلاقة المحكمة لمعرفة هوية مرتكبي الجرائم التي حرمتهم استقرارهم وأمنهم. لكن للانتظار طعما آخر لدى عائلات الذين دفعوا الثمن من لحمهم ودمهم ودم أقربائهم. ولعل المحكمة هي العزاء. هكذا يحسب الذين ينظرون إلى الأمور من خارجها. لكن ماذا يقول حاملو ضريبة الدم؟ «الشرق الأوسط» تعرض في الحوارات التالية وجهة نظر عدد من هؤلاء.. وفي ما يلي نص الحوارات:

* يقول الوزير السابق والنائب الحالي مروان حمادة: «تم اغتيالي مرارا وتكرارا. الأمر لا يقتصر على المحاولة التي نجوت منها بإرادة إلهية، إنما أيضا عندما اغتالوا الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ورفاقي وجبران تويني ابن شقيقتي والياس المر خال ابنة جبران وسمير قصير».

ويضيف: «دقت ساعة العدالة. صحيح أني لا أعرف نتائج التحقيق أو الوقت الذي ستستغرقه المحكمة في جلساتها قبل إصدار الأحكام. إلا أن ما أعرفه هو أن ما بعد الأول من مارس (آذار) لن يكون مثل ما قبل ذلك التاريخ. إطلاق المحكمة يأتي تتويجا لمعركة طويلة هي أهم من كل المعارك التي خاضها لبنان طوال ثلاث سنوات ماضية. لا السابع من مايو (أيار) ولا اجتياح بيروت ولا اتفاق الدوحة ولا عمليات الاعتصام والتفجيرات ولا حرب البارد. كل هذه الأحداث ستفقد قيمتها وكل شيء سيعود إلى حجمه الطبيعي. حينها لا عودة إلى الوراء. حاولوا كل شيء. اغتالونا واغتالوا اقتصاد البلد وأمنه وجيشه ودستوره والمؤسسات والعاصمة. كل ذلك من أجل منع المحكمة. قيل لنا إنه لا محكمة ولا معنى لها. قيل لنا خذوا المحكمة من الخارج. لبنان لن يعطيكم إياها. أرغمونا على أن نأتي بها من مجلس الأمن. لماذا من مجلس الأمن؟ كان من المفروض أن يتم التصويت في المجلس النيابي اللبناني على معاهدة تضع لأسباب أمنية قضية رفيق الحريري تحت قوس محكمة دولية ذات طابع خاص. لكن المجلس أغلق أبوابه واغتيل أعضاؤه بهدف القضاء على أكثرية قادرة على التصويت. لذلك لا أعتبر أن المحكمة هي انتصار سياسي لنا. بل أعتبرها هزيمة كبرى للمجرمين، آمرين كانوا أو محرضين أو منفذين للجرائم. وكم هم كثر إذا نظرنا إلى أقوال كثيرين وأفعالهم في لبنان وحوله خلال السنوات الأخيرة. ولا أظن أن القرار لبناني. ولم أغير قناعتي منذ اللحظة الأولى، منذ أن خرجت وأنا مصاب وزحفت هربا من أتون الحريق والانفجار الذي استهدفني».

حمادة يرى أن «الهدف الأساسي كان ضرب الاستقرار في لبنان. وقد لجأ إليه (الرئيس السوري) بشار الأسد بعد خروج قواته ومخابراته من لبنان، وانهيار أكثريته النيابية وحكومته وانتهاء الولاية الممددة لرئيس الجمهورية السابق إميل لحود، والذي انتهت مفاعيل التمديد له لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري». ويقول: «أنا شخصيا مع قناعتي بترابط الجرائم التي شهدها لبنان. ما يعنيني أولا هو إظهار الحقيقة ومعاقبة المجرمين في القضايا التي استهدفت الحريري وزملائي سواء في الحكومة أو المجلس النيابي أو في الجسم الصحافي، إلى جانب شهداء الجيش والمواطنين الأبرياء الذين سقطوا. لذا أنا لا أبحث عن ثأر لنفسي، إنما عن حق اللبنانيين جميعا وحتى حق الإنسانية في معرفة الدافع الأساسي لجريمة اغتيال الحريري والمرتبطة بالجرائم الأخرى».

يرفض حمادة أن يروج أي طرف للتسوية في المحكمة على حساب الحقيقة. يقول: «من يشيع فكرة التسوية هم السوريون وحلفاؤهم. لماذا هذا الحرص على إشاعة مناخ تسوية في قضية إجرامية؟ الجواب هو أن هذا المناخ يأتي من القاتل ومحاميه». ويشير إلى أن «السرية التي أحاطت التحقيق هي سرية حقيقية. الأمر الذي يحصن التحقيق ونتائجه. لا خوف من تسوية ولا دخل للانفتاح الغربي على النظام السوري. وهو انفتاح سياسي له قواعده وله حدوده. وقد ظهر هذا الأمر من مواقف الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي حاول النظام السوري إظهاره وكأنه عضو في حزب البعث - فرع القامشلي. لا أخشى من تسوية لأنه حتى الدول التي كانت وبقيت على علاقة طيبة مع النظام السوري، مثل روسيا والصين، لا تدعو ولا تماشي تسوية في جرائم الاغتيال».

ويسأل حمادة: «لماذا اغتالوا الضابط الشاب وسام عيد؟ هو لم يكن عضواً في 14 آذار ولا كان نائبا أو وزيرا ولا كاتباً كتب عن النظام السوري. هو ضابط كفء ومهندس اتصالات مكلف التنسيق مع لجنة التحقيق. الجواب عن السؤال موجود في مسلسل الجرائم المتعلقة بإعاقة المحكمة الدولية». ويرى أن «أمام المجرمين وقت كاف لانتظار نتائج التحقيق والقرار الاتهامي ومداولات المحكمة. إلا أن الحكم الأسرع الذي سيصدر هو حكم الشعب بعد انطلاق المحكمة. وسنرى أن هذا الحكم سيؤدي إلى نتائج ستنعكس سلبا على المرتكبين وحلفائهم وتحديدا في صناديق الاقتراع. لذا بدأنا نشهد مؤشرات لاستهداف الأمن».

* شدياق: أريد أن تتم معاقبة من حوّل حياتي جحيما

* الإعلامية مي شدياق هي التي دفعت الثمن الأكبر للمحكمة، وذلك في 25/9/2005، بعد تفجير سيارتها في شمال بيروت. فقدت مي ساقها اليسرى ويدها اليسرى. غيرها دفع حياته ثمنا أو أصيب وعاد إلى حالته الطبيعية... إلا هي. فحالتها الصحية لا يمكن علاجها ليبقى ألمها رفيقها الأوفى على رغم محاولتها التصدي لما حلّ بها ومتابعة مسيرتها بما تيسر من إرادة وقوة. تقول شدياق: «أنا كنت مقتنعة بأننا سنصل إلى المحكمة. هناك إرادة دولية لتحقيق العدالة. وبالتالي محاكمة الذين ارتكبوا مسلسل الأعمال الإرهابية التي طاولتني ولم تعد جريمة وطنية لبنانية متمثلة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ومن ثم مسلسل الاغتيالات والتفجيرات، لتصبح جريمة إرهابية ضد الإنسانية وذات طابع دولي، مما استدعى محكمة ذات طابع دولي. المجرمون لم يفكروا في أن جريمتهم ستأخذ هذا البعد. ظنوا أنهم سيقدمون التعازي وينتهي الأمر. وعندما اكتشفوا إمكانية ذلك، سعوا إلى القضاء على كل من صنفوه خطرا عليهم». وتضيف: «صحيح أني لا أعلم إذا ما كان المجرم سينال عقابه. لكني أكيدة أن الإدانة ستصل إليه. وعندما سيحدد القرار الاتهامي المسؤوليات سأشعر أني لم أدفع الثمن الذي دفعته هباءً». شدياق متأكدة من أن الرابط بين الجرائم موجود. تقول: «كلنا نعلم أن كل الأوامر كانت تصدر عن جهة واحدة. لا يستطيعون أن يزوّروا الحقائق وأن يسخروا منا. يكفيهم أن الاغتيالات لم تبق في إطارها المحلي. وتشكيل المحكمة هي ظاهرة في حد ذاتها». شدياق التي أجرت قبل فترة جراحة في رأسها، تحمل الرقم 30 من جملة العمليات الجراحية التي خضعت لها منذ استهدافها، قالت: «لا يشعر بالألم إلا صاحبه. حظي أسوأ من جميع الذين استهدفوا. من قتل انتهت معاناته في هذه الدنيا. ومن أصيب تم علاجه وشفي تقريبا. وحدي لن أرتاح إلا عندما أموت. سأبقى أتحمل الألم الذي لا يوصف. وسأبقى عاجزة عن الحياة بشكل طبيعي لأني خسرت نصف جسمي. والنصف الآخر ليس سليما. نسيت فرح أن يعيش الإنسان. ومع هذا أنا لا أطلب أن يعاملني أحد انطلاقا من هذا الواقع. لكني لا أرضى مطلقا أن أكون رمزا لقضية يريدون محوها. أريد أن تتم معاقبة من حوّل حياتي جحيما لأنه اعتبر أن صوتي يضر بمصالحه الإجرامية».

* عيدو: لا أتمنى لعدوي أن يشاهد أهله كما شاهدت أهلي

* زاهر عيدو الذي خسر والده النائب وليد عيدو وشقيقه خالد في 14/6/2007، لا «يروّض» غضبه. يقول: «المحكمة الدولية تحضر الحق وتبرد قلب الوالدة. لكنها لا تعوّض عن خالد وأبي». ويضيف: «أتمنى أن يجلب إلى المحكمة كل من له يد في جرائم الاغتيال. ليس فقط الرؤوس الصغيرة وإنما الكبار الذين يسعون إلى التسويات ليتمكنوا من النجاة. ولأننا لا نعيش على كوكب منفصل ونعرف أن الصفقات مع الدول الكبرى تتم وفقا لمصالحها. وأملنا أن لا تكون قضية والدي من ضمن هذه المصالح». هل لديك خوف من الصفقات؟ يجيب: «ليس خوفا، لكن هذا الاحتمال يبقى موجودا مع أن اجتماعاتي بأعضاء في لجنة التحقيق الدولية ورئيس كتلة المستقبل النائب سعد الحريري تبدد هذا الاحتمال. وما يطمئنني أن المحققين يطلبون تفاصيل وأشياء لا تخطر بالبال. وما يطلبونه يدل على مدى احترافهم وجديتهم. ومن خلال تحليلهم للمعلومات، يبدو واضحا أن الحقيقة ستظهر وأن المحكمة لا تبدأ من نقطة الصفر. هناك مذنبون وسيتم جلبهم. صحيح أني أتمنى الأسوأ لهم. وأصلي حتى ينالوا عقابهم في الدنيا، ثم يحترقون بنار جنهم في الآخرة». زاهر لا يستطيع أن يمحو من ذاكرته المشهد الأخير لوالده وشقيقه في «البراد». يقول: «لا أتمنى حتى لعدوي أن يشاهد أهله كما شاهدت أهلي». إلا أنه يستعيد صورة والده الذي كان رفيقا له ولأشقائه. يقول: «نحن أربعة شبان وهو رفيقنا الخامس. كان يلعب معنا بالكرة ويسابقنا في السباحة. وعندما يستدعي الأمر ذلك، يعود الوالد الحازم ويقوّم طيشنا. كنا نعيش في فرح لأن وليد عيدو كان خفيف الظل وطيب القلب».

لكن الراحل لم يكن يخاف على حياته. ولم يسع إلى التزام الحذر على رغم التهديد الذي طاول نواب الأكثرية. يقول زاهر: «هذا الأمر كان أزمتنا. ذلك أن والدي كبر بين 14 فبراير (شباط) 2005 و15 منه عشرين عاما. لم يصدق أن الرئيس رفيق الحريري يقتل بهذا الشكل. فقد الرغبة في الحياة وأصبح حاد الطباع وقاسيا، ولم يعد لديه سوى إعلان الحرب للوصول إلى المحكمة الدولية. أهملنا وأصبح استفزازيا يرفض أي نصيحة. كان هاجسنا احتمال تعرضه للاغتيال. لكنه رفض تحذيراتنا. وإذا عاتبناه كان يقول: إذا استطاعوا استهداف رفيق الحريري فلن يعجزوا عن الوصول إلى من يشاؤون. معه حق فهم اندسوا بيننا طوال 35 عاما ويعرفون الشاردة والواردة. لا نريد أن نحكي أكثر من ذلك». يصمت زاهر ثم يستدرك: «سأقول شيئا قاسيا. كنا نتوقع اغتيال الوالد، لكن ما كسر ظهرنا هو خالد الذي قضى معه».

* الذهبي: لن يعود مازن لكننا نريد للقتلة أن ينالوا عقابهم

* من منا لا يتذكر صورة الشاب مازن الذهبي يخرج بجسده المحروق من سيارة كانت في موكب الرئيس الحريري؟ لم يكن الشاب الطموح مهتماً بالسياسة، وفي الفترة التي سبقت استشهاده، كان يقوم بتجارب مهنية قبيل انتقاله إلى العمل مع الفريق الطبي للرئيس الشهيد الحريري. يوم استشهاده كان مازن قد أنهى أشهر التجربة وقرر العمل مع الرئيس الشهيد بشكل دائم. وللمفارقة، طلب مازن من أحد زملائه في اليوم نفسه، أن يستبدل معه يوم العطلة بيوم عمل. كأنه اختار بذلك موعد استشهاده. لم يشفع له تمسكه بالحياة. الممرضات في المستشفى قلن إن مازن قد طلب من مسعفيه فتح حنجرته كي يسحبوا الدخان من رئتيه بدلا من وضع الأنابيب في فمه. كما أنه ذكّرهم بأن الرئيس الحريري لديه حساسية من نوع معين من الأدوية. تقول هنادي شقيقة مازن: «المحكمة ستعطي العائلة الكثير. فنحن نريد أن نعرف من ارتكب هذه الجريمة، لكنها لن تريحنا. العذاب منذ وفاة مازن لا يزال على حاله. ما الذي سيتغير؟». وتضيف: «لدينا أمل في أن تتم محاكمة المجرمين. القصة واضحة. الأربعة الموقوفون في سجن رومية، لم يستمر اعتقالهم صدفة أو لأسباب كيدية كما يحاول البعض إظهار الأمر. وعندما تبدأ المحاكمة يجب أن نعرف من كان يقف وراءهم وأوامر من كانوا ينفذون».

لكن لا شيء سيخفف الحزن، تقول هنادي: «نحن نتذكر مازن كلما تنفسنا. نشعر أن هناك شيئا ينقصنا لنواصل حياتنا كبقية الناس. أراه أمامي كلما استدرت في المنزل. كأنهم قتلوه بالأمس. هذا الشعور أصبح أقوى بعد أربع سنوات. لا أعرف كيف يتأقلم الآخرون مع مثل هذه الجريمة. العائلة لا تستطيع أن تنسى خسارته، ربما لأنه كان حنونا. لم يكن يحتمل رؤية أحد أفراد عائلته حزينا. كان يخترع الضحك ويريد أن يعم الفرح كل من يحبه.

كل من عرفه يقول الأمر ذاته. رفاقه لا يزالون يتذكرون حضوره بينهم. يتصلون بنا ويخبروننا كم يفتقدونه. الأمر لم يتغير بعد هذه السنوات. نعرف أن لا شيء سيتغير ولن يعود مازن. لكن هذا لا يمنع أننا نريد المحكمة الدولية. ولا يكفينا أن نعرف القتلة، بل نريد محاكمتهم لينالوا أشد درجات العقوبة، لأن لا قلب لديهم ولا ضمير».