خبراء اقتصاديون: المدن الأميركية تفقد صحفها الكبرى

نقاد ومنافسو الصحف: لا ينبغي لأي جهة الترحيب بهذا الانحسار

TT

يعود تاريخ صحيفة سياتل بوست إنتلجنسر إلى ما يزيد على عقدين قبل أن تتحول واشنطن إلى ولاية. لكن بعد 146 عاماً من النشر، من المتوقع أن تصدر الصحيفة عددها الأخير الأسبوع المقبل، وربما تحتفظ بنسخة إلكترونية أصغر حجماً على شبكة الإنترنت. ولا يقتصر هذا الوضع على سياتل بوست إنتلجنسر فحسب، فعلى سبيل المثال، توقفت روكي ماونتنز نيوز عن النشر منذ أسبوعين، ومن المتوقع أن تلحق بها توسكان سيتيزين الأسبوع القادم. ومع ذلك، ما تزال مدن دينفر وسياتل وتوسكان تحظى بوجود صحف خاصة بها على الأقل. إلا أن بعض الخبراء الاقتصاديين والمسؤولين التنفيذيين بالمجال الصحافي أن الأمر لا يعدو كونه مسألة وقت ـ وربما لا يمر وقت طويل ـ قبل أن تخلو بعض المدن الأميركية الكبرى تماماً من صحف محلية بارزة خاصة بها. في هذا الصدد، قال مايك سيمونتون، مدير مؤسسة فيتش رايتنغز، المعنية بتحليل شؤون الصناعة الصحافية، إنه: «في عامي 2009 و2010، ستتحول كافة الأسواق المعتمدة على وجود صحيفتين إلى أسواق تقوم على صحيفة واحدة، وستبدأ بعض الأسواق القائمة على صحيفة واحدة في التحول إلى أسواق تخلو كلية من الصحف». ويؤكد الكثير من النقاد والجهات المنافسة للصحف ـ بما في ذلك الصحف الإلكترونية الحديثة التي حظيت بإشادة كبيرة باعتبارها تمثل مستقبل الصحافة ـ أنه لا ينبغي لأي جهة الترحيب بهذا الانحسار. على سبيل المثال، شدد جويل كريمر، رئيس التحرير والناشر السابق لصحيفة ستار تريبيون والرئيس التنفيذي لـ MinnPost .coK، وهي منظمة صحافية على شبكة الانترنت مقرها مينابوليس، على أنه: «سيكون أمراً بشعاً بالنسبة لأي مدينة اختفاء الصحيفة البارزة لديها، لأنها الكيان الذي يضطلع بالجزء الكبر من العمل الصحافي الجاد». وقال: «إن جهات مثل مؤسستنا ستظهر، لكنها لن تكون على نفس المستوى من الضخامة. إن باستطاعتنا الضغط على الصحف والتنافس معها، لكن ليس بمقدورنا الحل محلها». حتى الآن، لا يعلم أحد على وجه التحديد أي المدن الكبرى ستكون أول من يفقد الصحف البارزة، لكن هناك مدن مرشحة لهذا الدور بمختلف أرجاء البلاد. من ناحيتها، هددت ذي هيرست كوربوريشن، التي تملك بوست إنتلجنسر، بإغلاق سان فرانسيسكو كرونيكل، التي تجاوزت خسائرها مليون دولار أسبوعياً العام الماضي، حال عجزها عن توفير مبالغ كبيرة فيما يخص تشغيل هذه الصحيفة. وفي إطار اتفاق مؤقت تم التوصل إليه مساء الثلاثاء، وافقت نقابة العمال بالحقل الإعلامي في كاليفورنيا على إجازات أقل وتمديد ساعات العمل للعمال والسماح بمرونة أكبر بالنسبة لسان فرانسيسكو كرونيكل بحيث تتمكن من تسريح العمال بغض النظر عن الأسبقية في العمل. وقال مسؤولو النقابة إنه تم إخبارهم بأن عليهم توقع فقدان 150 وظيفة على الأقل من بين أعضاء النقابة، ما يعادل نحو ثلث إجمالي الوظائف، منوهين بأن الإدارة ما تزال تحاول التفاوض من أجل الحصول على امتيازات من نقابة السائقين. من ناحية أخرى، أعلنت شركة أدفانس ببليكيشنز الخريف الماضي أنها ربما تقدم على إغلاق ذي ستار ليدجر، الصحيفة البارزة في نيو جيرسي، إلا أن إجراءات تخفيض الإنتاج والتنازلات التي حصلت عليها الصحيفة من النقابة مكنتها من البقاء، وإن في حجم أقل بكثير. جدير بالذكر أن الصحف البارزة داخل الكثير من الأسواق، مثل ستار تريبيون في مينابوليس، وفيلادلفيا إنكويرر ونيو هافين ريجستر، تنتمي لشركات أشهرت بالفعل إفلاسها خلال الشهور الثلاثة الماضية. من جانبهم، يصر ملاك هذه الصحف على أنه ليست لديهم نية لإغلاقها، لكن الإدارات التي تطلق هذه التأكيدات ربما لا تكون في موقع المسؤولية بعد مرور هذه الشركات بعملية إعادة تنظيم. وعلى ما يبدو، يحيق خطر الإفلاس بجهات نشر أخرى، مثل سياتل تايمز كمباني وميديانيوز غروب، المالكة لدينفر بوست، وسان جوز مركيري نيوز وديترويت نيوز. يذكر أن الكثير من الصحف ـ بدءا من ميامي هيرالد وصولا إلى شيكاغو صن تايمز ـ تم عرضها للبيع، ولم يظهر في الأفق حتى الآن مشترون. والملاحظ أن عائدات الإعلانات، التي تعد بمثابة شريان الحياة لصناعة الصحف، تراجعت بمعدل 25% على مدار العامين الماضيين (في المقابل، انخفضت عائدات بيع السيارات لدى الشركات الثلاث الكبرى بهذا المجال في ديترويت بنسبة نحو 15% خلال الفترة ذاتها، رغم تسارعها في الفترة الأخيرة). ولا تبدو أي مؤشرات على انحسار هذا التراجع، الذي تسبب الركود الاقتصادي في تسارعه، في عام 2009. وقد خلفت مواقع على شبكة الانترنت مثل Craigslist تأثيراً على الإعلانات المبوبة أشبه بتأثير المحركات العاملة بالاحتراق الداخلي على العربات التي تجرها الخيول. يذكر أن أسعار أسهم غالبية مؤسسات النشر الصادرة لصحف انخفضت بنسبة تفوق 90% عن مستويات الذروة التي سبق أن بلغتها. من بين المشكلات الكبرى في مواجهة الكثير من المؤسسات الصحافية الديون الهائلة التي تحملها على عاتقها، والتي يرجع الجزء الأكبر منها إلى انهماك هذه المؤسسات في عمليات شراء كبيرة لصحف أخرى بين عامي 2005 و2007. على سبيل المثال، تقدمت تريبيون كمباني، المالكة لشيكاغو تريبيون ولوس أنجليس تايمز وصحف أخرى، بطلب لإشهار إفلاسها في ديسمبر (كانون الأول)، لأسباب عدة أولها الديون الهائلة التي تعاني منها الشركة. في الواقع، رغم صعوبة المناخ الاقتصادي العام بالنسبة للصحف، فإن جهات النشر التي أشهرت إفلاسها ستبقى قادرة على جني المال حتى مع عدم توفير الصحف مبالغ لسداد الديون، مثلما الحال مع معظم الصحف بمختلف أرجاء البلاد. إلا أن الأرباح تشهد انكماشاً سريعاً. وبصورة عامة، حققت مؤسسات النشر الصحافية الكبرى هامش أرباح تشغيل بلغ نحو 10% عام 2008، بانخفاض عما يزيد على 20% عام 2004، طبقاً لبحث أجراه جون مورتون، أحد المحللين المستقلين. والواضح أن عمليات إغلاق الصحف التي شهدتها الفترة الأخيرة والتهديد بإغلاق أخرى تنبئ بظهور توجه عام غير مبشر، خاصة أنه بالنسبة لسان فرانسيسكو كرونيكل وروكي ماونتنز نيوز وستار ليدجر وتوسكان سيتيزين وصحف أخرى، لم تمثل الديون قط مشكلة حقيقية، وتنتمي هذه الصحف إلى شركات قادرة على الوفاء بديونها. ورغم ذلك، استمر نزيف الأموال بها. من ناحيتهم، يعتقد المحللون أن الكثير من الصحف الكبرى تكبدت خسائر تجارية في الفترة الأخيرة، بما فيها واشنطن بوست وبوسطن غلوب (المملوكة لنيويورك تايمز كمباني). والواضح أن عمليات الانكماش المستمرة التي شهدتها الصحف الأميركية بمعدل بطيء على امتداد قرابة العقد تسارعت بصورة بالغة في السنوات القليلة الماضية. يذكر أن لوس أنجليس تايمز لا تزال تحظى بأكبر فريق عمل إخباري على مستوى البلاد، حيث يبلغ عددهم نحو 600 فرد، لكن حجم نفس الفريق كان يبلغ قرابة الضعف في أواخر التسعينات. وبالمثل، كان لدى واشنطن بوست صالة تحرير بها ما يزيد على 900 شخص منذ ست سنوات. والآن تضاءل هذا العدد إلى أقل من 700. أما شركة غانيت، أكبر جهة نشر للصحف على مستوى البلاد، فقلصت الوظائف بها بما يزيد على 8.300 وظيفة خلال عامي 2007 و2008، ما يعادل 22% من الإجمالي. يوم الأربعاء، أعلنت ميامي هيرالد، أنها ستقلل الوظائف، التي تقلصت بالفعل، لديها بنسبة 19% إضافية. وفي الوقت الحالي، باتت جميع الصحف الكبرى داخل الولايات المتحدة تصدر بالفعل في عدد صفحات أقل وتحوي مقالات أقل، بل وأقدم الكثير منها على إلغاء أقسام بأكملها. وأغلقت بعض الصحف مكاتبها الخارجية، بل وداخل واشنطن كذلك، وتخلى البعض عن الأقسام المخصصة لنقد الأفلام ومراجعة الكتب وتغطية الأخبار المحلية خارج نطاق أسواقها المحلية. وتشترك الكثير من الصحف في تغطيتها مع جهات سبق أن كانت منافسة لها بهدف توفير المال. (وقد عانت نيويورك تايمز أيضاً تراجع العائدات، لكنها نجحت في تجنب تقليص العاملين بصالة التحرير بصورة بالغة حتى الآن). على امتداد ما يزيد على عقدين، شكلت الصحف مصدراً لا يمكن الاستغناء عنه للمعلومات العامة وفرض قيود على تجاوزات الحكومة والكيانات القوية الأخرى. ولا تزال الصحف قادرة على الوصول إلى جمهور عريض ومتنامٍ. إلا أن الإحصاءات تشير إلى تراجع معدلات التوزيع بالنسبة للصحف اليومية المطبوعة من مستوى الذروة الذي وصلته منذ عقدين وبلغ ما يقرب من 62 مليون نسخة إلى 49 مليون نسخة تقريباً. في المقابل، ارتفعت أعداد القراء بالنسبة للصحف الالكترونية على شبكة الانترنت بمعدل أسرع، ليصل إلى قرابة 75 مليون أميركي و3.7 مليار مشاهد للصحف في يناير (كانون الثاني)، طبقاً لما ورد عن نيلسن أونلاين. لكن أحداً لم يتمكن من دعم صالة تحرير ضخمة اعتماداً على عائدات النسخ الرقمية فحسب، الأمر الذي ربما يعد مؤشراً على حقبة جديدة تتميز بمنظمات صحافية أصغر وأضعف وأقل قدرة على الاضطلاع بمهمتها التقليدية ككيان رقابي وطني. في هذا السياق، قال باز وولي، رجل أعمال ثري من سان دييغو وكان من بين كبار منتقدي الصحيفة الصادرة هناك، يونيون تريبيون، علاوة على كونه الداعم الرئيس لموقع VoiceofSanDiego.org الإخباري على شبكة الانترنت، إنه: «لا أتخيل الوضع الذي سيصبح عليه المجتمع المدني. ولا أرغب في مجرد تخيل هذا الوضع. حينئذ لن تخرج كميات هائلة من المعلومات على العلن». ويتفق الجميع مع وجهة النظر تلك. وأعرب جيف جارفيز، مدير الصحافة التفاعلية بكلية الصحافة داخل جامعة مدينة نيويورك، عن اعتقاده بأن وفاة صحيفة ينبغي أن ينشأ عنه انفجار لعدد كبير من مصادر المعلومات على شبكة الانترنت، بحيث توفر ذات حجم التغطية الذي قدمته الصحيفة على الأقل. ويرى جيف أن بعض هذه المصادر ربما يكون أقل براعة، لكنها ستتسم بطابع تنافسي، وستضع نهاية للاحتكار الذي تتمتع به الكثير من الصحف منذ أمد بعيد. وقال إن بعض الصحف التي تمنى بخسائر مادية «ينبغي أن تبدي الشجاعة اللازمة لإغلاق النسخة المطبوعة والتحول إلى أخرى إلكترونية. وستكون المنتجات في هذه الحالة أقل بكثير، لكن هذا هو السبيل الذي نتحرك باتجاهه على أي حال».

في الواقع، بات الكثير من خبراء الصناعة الصحافية، الذين سبق أن تهكموا على فكرة اعتماد مؤسسات على منتج الكتروني فحسب، يوافقون على فكرة أن الصناعة ربما تتحرك بالفعل نحو هذا الاتجاه. وتتفق الآراء حول أن الصحف التي ستصبح كافة منتجاتها رقمية سيتضاءل عدد العاملين في صالات التحرير بها بدرجة هائلة على امتداد المستقبل المنظور. حتى ذلك الحين، لجأت الصحف إلى إجراءات كان من المتعذر تخيلها منذ عام واحد فقط، بما في ذلك إقدام بعضها على دراسة ما إذا كان ينبغي طلب رسوم من القراء للدخول إلى نسختها الالكترونية، مثلما تفعل وول ستريت جورنال. يذكر أنه بداية من مارس (آذار)، ستقوم الصحف الكبرى في ديترويت، فري برس وذي نيوز، بتسليم النسخ إلى المشتركين ثلاثة أيام فقط أسبوعياً، بهدف توفير أموال الطباعة والشحن. أما كريستيان ساينس مونيتور، فستتطبع نسختها اليومية الأخيرة في 27 مارس (آذار)، لتتحول بذلك إلى الصورة الالكترونية بصورة أساسية، مع صدور نسخة أسبوعية مطبوعة. وعلق جون يما، رئيس تحرير كريستيان ساينس مونيتور، على ذلك بالقول: «لا يتعلق الأمر بتوافر خطة عظيمة لدى الجميع. وإنما يشعر الجميع بيأس بالغ يدفعهم لمحاولة استكشاف كل إمكانية قائمة». * خدمة نيويورك تايمز