ناخبو «عبر البحار» اللبنانيون بيضة القبان في الانتخابات.. و«14 آذار» تشكو من عراقيل أمام مشاركتهم

وسط اتهامات متبادلة بتقديم «إغراءات» تشمل تحمل نفقات السفر

TT

يعتبر لبنان من الدول القليلة في العالم التي لا تسمح بـ«الاقتراع عن بعد»، والسبب يعود إلى جملة عوامل طائفية وسياسية وتقنية. وإذا كان المواطن اللبناني يتكبد عند كل مناسبة انتخابية عناء الانتقال من مكان إقامته إلى مسقط رأسه وفقا لبطاقة الهوية، للاقتراع، لأن القانون اللبناني لا يجيز الاقتراع إلا في القلم المحدد للناخب، فمن الطبيعي أن لا يكون للمغتربين اللبنانيين المنتشرين في الخارج حق الاقتراع ـ أقله حتى عام 2013 كما وعد عدد من المسؤولين، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وكما نص صراحة قانون الانتخاب الجديد. غير أن هذا الاقتراع معرض للتأجيل إلى سنوات لاحقة ككثير من الإصلاحات الانتخابية التي بقيت «حبرا على ورق» نتيجة توافق القوى السياسية على مخالفتها أو «تحييدها».

وإذا كان بعض المرشحين قد حل معضلة «الانتقال الداخلي» للتصويت بابتكار وسائل «خلاقة» منها السيارات المستأجرة لنقل الناخبين، ومنها قسائم الوقود التي تُمنح لهم لملء سياراتهم بالوقود، فقد لا يكون مستغربا أن يفكر القادرون من المرشحين على تقديم خدمات مماثلة للناخب اللبناني المغترب. وفي حين تؤكد المصادر المختلفة أن عدد المغتربين اللبنانيين يفوق بأشواط عدد المقيمين منهم في بلدهم الصغير، تقدر ذوي الأصول اللبنانية في الخارج بعشرات الملايين وفقا لتقديرات غير دقيقة في بلد «يكره» الأرقام ويخشى الحديث عنها مخافة الإخلال بالتوازن العددي بين المسلمين والمسيحيين الذين ارتضوا منذ عام 1943 اقتسام السلطة بغض النظر عن العدد. تقدر الـ«بي بي سي» عدد المغتربين اللبنانيين بين عشرة ملايين، إذا أخذ في الاعتبار عدد المهاجرين اللبنانيين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأربعة ملايين إذا احتسبت موجات الهجرة في الـ50 سنة الماضية، فيما تقول أرقام أخرى إن عددهم يفوق 20 مليونا، وهي كلها تقديرات غير مثبتة.

ويبلغ عد سكان لبنان حاليا نحو 4 ملايين نسمة وفقا لتقديرات شبه رسمية، علما أن آخر إحصاء أجري في لبنان كان في عام 1932 وبلغ عدد السكان فيه 800 ألف نسمة. ولا يبدو رقم الأربعة ملايين بدوره واقعيا استنادا إلى لوائح الشطب التي صدرت في عام 2005 التي تحدد عدد الذين يحق لهم الاقتراع (من هم فوق 21 سنة) بنحو ثلاثة ملايين نسمة. فيما تقول دراسة أعدها الباحث يوسف شهيد الدويهي إن عدد اللبنانيين حاملي الجنسية اللبنانية ـ مقيمين وغير مقيمين ـ يبلغ 4,855,067 لبنانيا.

وينقسم الاغتراب اللبناني الواسع إلى ثلاثة أقسام: الأول مغترب حديث لا يزال يحتفظ بعلاقاته بوطنه الأم ويحمل جنسيته ويزور بلاده دوريا ولديه عائلة وروابط أخرى في بلده الأم، وقسم استقر في بلاد الاغتراب فلا يزور بلاده إلا في فترات متباعدة، لكنه لا يزال يحتفظ بجنسيته اللبنانية، وقسم ثالث تخلى عن جنسيته ولا يحمل الهوية اللبنانية لأكثر من سبب. وينص القانون الذي صدر حديثا على إمكان مشاركة كل من يحمل بطاقة الهوية أو جواز السفر اللبناني في الانتخابات، فيما تقرر إصدار نحو 300 ألف جواز سفر خاص للمغتربين الذين لا يحملون جوازات لبنانية وفق شروط معينة لتمكينهم من المشاركة في الانتخابات إذا كانت أسماؤهم مدرجة في سجلات الناخبين.

ويشكو عضو كتلة تيار «المستقبل» والوزير السابق للداخلية أحمد فتفت من «قيود غير قانونية» يضعها جهاز الأمن العام اللبناني من شأنها أن تعرقل عملية إصدار جوازات السفر ذات اللون الأحمر (الجواز اللبناني الحالي أزرق). ويكشف فتفت لـ«الشرق الأوسط» عن مذكرة بعث بها جهاز الأمن العام تطلب من القناصل الحصول على موافقته قبل إصدار أي جواز سفر جديد، معتبرا أن هذا الإجراء يؤخر عملية صدور جواز السفر لنحو شهرين على الأقل، معطيا مثلا على ذلك عن مدينة ملبورن الأسترالية التي زارها أخيرا والتي يعيش فيها نحو 30 ألف لبناني، إذ تصلها الحقيبة الدبلوماسية مرة في الشهر، مما يحتم على من يتأخر يوما عنها أن ينتظر شهرين. وأشار إلى أن معدل إصدار الجوازات وفق الصيغة الحالية يبلغ أربعة أشهر. وردا على سؤال عن وجود «أسباب سياسية» وراء قرار الأمن العام، قال فتفت: «في الأساس يقول الأمن العام إنها أسباب أمنية، لكنها تستغل في السياسة، فيمكن أن (ينام) (الأمن العام ) على جواز سفر ما، أو أن يوافق عليه فورا، وفقا لطبيعة الانتماء السياسي لصاحب الطلب».

ولما كانت لعبة الانتخابات تدار وتحسب على الصوت الواحد، التفت السياسيون اللبنانيون إلى خارج الحدود ساعين لحث المغتربين على «زيارة» لبنان هذا الصيف والتصويت للوائحهم. وقد عمد بعض هؤلاء إلى اصطحاب مخاتير مناطقهم إلى الخارج من أجل تسهيل استصدار الأوراق الرسمية اللازمة لاستصدار بطاقات الهوية وجوازات السفر لمناصريهم، أملا في الفوز في دوائر تعتبر صعبة، كما هي حال دائرة زغرتا بالنسبة إلى المرشح ميشال معوض، نجل النائبة نايلة معوض، الذي يواجه خصما صعبا جدا هو الوزير السابق سليمان فرنجية، أو المتن الشمالي، حيث تقول المعلومات المتوافرة لـ«الشرق الأوسط» إن حزب «الطاشناق» الأرمني يحصي مناصريه في الاغتراب وينظم أمور عودتهم إلى لبنان في هذا الصيف، وخصوصا في لوس أنجليس الأميركية.

والحماس الاغترابي الواضح كان مثار اهتمام الجميع في لبنان، حتى باتت مشاركة المغتربين أحد المظاهر الأساسية للانتخابات المقبلة في لبنان. وقد وقع نحو 20 ألف مغترب على عريضة مطلع العام الماضي تطالب بإقرار حقهم في الاقتراع، فيما تنشط الماكينات الانتخابية الحزبية في معرفة أماكن وجود الناخبين «المرغوبين» ومحاولة استرضائهم. وتقول لبنانية إن ولدها الذي يعمل في المملكة العربية السعودية تلقى اتصالا من جهة حزبية في قوى «8 آذار» تعرض عليه تأمين تذكرة سفر للمشاركة في الانتخابات. ولفتت إلى أن مهاجرين من أشقائها لم يتلقوا اتصالات مماثلة لأنهم من الجنوب، حيث تشعر قوى «8 آذار» براحة انتخابية أكبر. وفي المقابل تجري قوى «14 آذار» عملية تسجيل للناخبين المؤيدين لها في مختلف بلدان الاغتراب.

والرهان على المغتربين أصبح كبيرا، خصوصا لدى قوى «14 آذار» التي تحظى بتأييد واسع في صفوفهم، وهو ما حمل هذه القيادات على اعتماد ما أمكنها من الوسائل لحثهم على المشاركة في الانتخابات. ويكشف النائب مروان حمادة أن كل الأحزاب التي تنضوي تحت لواء الرابع عشر من آذار قررت «تجنيد الاغتراب اللبناني للانتخابات النيابية المقبلة التي ستكون مفصلية للبنان». ويشاركه في هذا الموقف فتفت الذي ينفي بشدة ما يتردد عن تحمل قوى «14 آذار» نفقات سفر المغتربين إلى لبنان، معتبرا «الناس تسبق قيادات الأكثرية في الحماس، وتحجز تذاكر العودة من أشهر حتى بات من المؤكد أنه لا يوجد مقعد شاغر على الطائرات الآتية إلى لبنان في تلك الفترة».

«استراتيجية» الأكثرية أثارت ريبة الأقلية البرلمانية، خصوصا رئيس تكتل «الإصلاح والتغيير» النائب ميشال عون، وحليفه المسيحي سليمان فرنجية، اللذين شنا حملات عنيفة على «قضية المخاتير» معتبرين أنها «تجاوز للقانون ورشوة للناخبين»، مما دفع وزارة الداخلية إلى إصدار بيان أعلنت فيه أنها طلبت رأيا قانونيا من هيئة التشريع والقضايا في وزارة الداخلية حول قانونية هذا الأمر.

واتهم عون في كلمة وجهها إلى المغتربين اللبنانيين تيار «المستقبل» بـ«تنظيم انتقال المقيمين في دول الانتشار خلال موسم الانتخاب، موفرا للناخبين بطاقات السفر ومصاريف الإقامة». وقال: «علمنا من بعض الأصدقاء، كما أثبتت الوقائع، أن تيار المستقبل يقوم بانتقاء هادف لبعض الأقضية المسيحية التي يأمل تغييرا للمعادلة فيها عبر نقل قسم من الناخبين المغتربين إليها».

وفي اتصال أجرته «الشرق الأوسط» مع أحد ناشطي «تيار المستقبل» في العاصمة البريطانية حول هذا الاتهام قال (مشترطا عدم ذكر اسمه) إن التيار «يشجع» المغتربين على المشاركة في الانتخابات المقبلة بوصفها «مصيرية» بالنسبة إلى مستقبل بلدهم، ويجري اتصالات دورية مع العديد منهم لحثهم على التأكد، في أسرع فرصة ممكنة، من ورود أسمائهم في لوائح الشطب ومن ورودها غير محرفة، وكما هي مسجلة على جوازات سفرهم مخافة أن يحول التحريف دون قبول اقتراعهم.

وفيما نفى الناشط المذكور ما يشاع عن تقديم «إغراءات» مالية للناخبين المقيمين في المملكة المتحدة، قال إن الاتصالات التي يجريها ناشطو التيار تركز، بصورة خاصة، على ناخبي الدوائر التي تعتبر نتائجها «غير محسومة» بالنسبة إليه. وذكر، على سبيل المثال، دوائر المتن وكسروان وجبيل وزحلة والبقاع الغربي.

ويرى عضو كتلة «القوات اللبنانية» النائب إيلي كيروز أن «الضجة» التي يثيرها عون و(التيار الوطني الحر) حول تسهيل عدد من المخاتير أمور المغتربين بالنسبة إلى الانتخابات النيابية «في غير محلها»، معتبرا أن «ما يثير الاستغراب هو أن ينبري إلى استهجان قيام بعض المخاتير بتسجيل أسماء المغتربين وتسهيل حصولهم على بطاقات الهوية، وكأن القانون يمنع هذا الأمر، أو كأنهم يقومون بعمل غير قانوني وخارج إطار دورهم الطبيعي». ورأى أن «ما يزيد من الاستغراب أن العماد عون نفسه وعددا من نواب تكتله لا ينفكون يدعون إلى استعادة المغتربين حقوقهم في الجنسية والاقتراع، ويشكون من الإهمال الرسمي في هذا المجال». واعتبر كيروز أن «حملة عون والتيار لا تفسير لها إلا الخشية من أن يسهم اقتراع المغتربين في خسارته والتيار عددا من المقاعد باعتبار أن المناخ العام لدى الاغتراب اللبناني لا يلتقي مع خيارات عون وتحالفاته الجديدة». وأكد أنه «تم الوقوف على رأي وزير الداخلية زياد بارود الذي اعتبر أن لا شيء يمنع مبدئيا من قيام المخاتير بمتابعة شؤون مواطنيهم المغتربين في إطار مهماتهم القانونية والبديهية».

واستنكر المرشح معوض الحملة على المخاتير وقال: «في الشق السياسي ما يتهم به المخاتير أنهم يسهلون لوجستيا لهذا المغترب الحصول على الهوية اللبنانية، فإذا كانت هذه هي تهمة فأنا أتشرف أن توجه إلي أو إلى المخاتير. أما في الموضوع القانوني الذي ننضوي جميعا تحت سقفه، فقبل سفرنا إلى أستراليا وضعنا وزير الداخلية في الصورة ولم يمانع. الآن وبعد هذه الحملة فضل وزير الداخلية ـ ونحن نحترم هذا القرار ـ أن يرسل هذا الملف للاستشارة لدى هيئة التشريع والاستشارة في وزارة العدل، من هذا المنطلق جمدت كل المعاملات بانتظار قرار وزارة الداخلية، ونحن نلتزم به، وعلى كل نعتبر أن مشكلة المغترب للحصول على هوية أو جواز سفر تم معالجتها لأنه أصبح هناك إمكان للحصول على جوازات السفر الحمراء. وهذا القرار اتخذه مجلس الوزراء مشكورا بعد عودتنا من السفر».