الأعظمية: الحياة تدب مجددا بأبواق السيارات وضجيج المذياع.. والشاورمة

تجار الحي الذي كان معقلا للقاعدة في بغداد: أغلب زبائننا من الشيعة

مطعم شاورمة في حي الأعظمية في بغداد الذي كان من المناطق الساخنة («واشنطن بوست»)
TT

تحركت العربة التي تجرّها الخيول في الرابعة عصراً، التي وصفها مالكها، بهلول يونس، بأنها فريدة في نوعها. وأشار بزهوٍ إلى الزخارف الصلبة المؤلفة لحرف سين بالانجليزية. ونظر بإعجاب تجاه العجلات المتزعزعة التي تحمل العربة كل يوم نحو حي الأعظمية، الذي كان في فترة من الفترات أخطر أحياء بغداد. واعترف يونس بأن «إيجاد مكان مناسب سيكون مُكلفاً للغاية». وسرعان ما قام يونس بتعليق ثلاثة مصابيح في العربة، وحصل على الكهرباء من شبكة بالشارع. وصدرت أضواء المصابيح على نحو متقطع، مثلما الحال بمختلف أرجاء بغداد هذه الأيام. وتم وضع حمولة من الفحم النباتي على العربة، وقام المساعد المصري ليونس، هشام جلال، بإشعال لفيفة من الورق. وسرعان ما اشتعلت النيران، وتحول الفحم الأسود إلى اللون الأحمر، ثم إلى الرمادي بحيث بات مناسباً لأسياخ الشاورمة التي يصنعها يونس، التي يعتبرها زبائنه الأفضل من نوعها على مستوى بغداد. وتحدث يونس عن ذلك بتواضع قائلاً: «لا يمكنني الثناء على نفسي، لكن بعض الناس يقولون ذلك». يقف يونس بعربة بيع الشاورمة التي يملكها في أحد شوارع الحي السني، ما بين مسجد أبو حنيفة وساحة عنتر، وعلى امتداد قرابة ست سنوات، افتقر الشارع والحي بأكمله إلى الجمال اللائق بمكانة الشاعر. وخلال الشهور التالية للغزو الأميركي للبلاد، حملت منشورات جرى توزيعها داخل مسجد أبو حنيفة عنوان «كارثة الاحتلال». وحملت الجدران عبارات مثل «عاش صدام» و«الجهاد سبيلنا». وسرعان ما اندلعت حرب طائفية بالعراق. وخلال تلك الفترة، بدت ساحة عنتر بعد غروب الشمس بساعة واحدة تماماً مثلما يبدو قبيل الفجر بساعة، حيث خيم عليها الظلام والوحشة والخطر. أما الشارع الكائن خلفها فحمل اسم «شارع الموت». وفي وصفه لهذه الفترة، قال محمد (أبو ميس)، الذي يضطلع بنشاط تجاري نشط في الساحة التي تعج حالياً بالأطفال المشردين والدراجات الثلاثية، إنه: «إذا دخل شخص للمنطقة، لم يكن ليخرج مجدداً». وحتى اليوم، لا يزال الخطر يخيم على بغداد. على سبيل المثال، في هذا اليوم، انفجرت عبوتان ناسفتان في سيارتين، وتفجر لغمان أرضيان بالقرب من حاجز حجري على امتداد الطريق. في الوقت ذاته، ضرب صاروخ منشأة لتكرير النفط بضواحي العاصمة، بينما هوى آخر داخل «المنطقة الخضراء». كما تم العثور على مخازن للأسلحة تخصّ المتمردين. لكن في بعض أيام الربيع، مع تضاؤل حدة أشعة الشمس وانتشاء الدفء الصادر عن الفحم المحمول على عربة يونس بمختلف أرجاء الشارع، تأتي لحظات يشعر فيها العراقيون أن المساء بالمنطقة يشبه الأمسيات في بيروت أو القاهرة، وبأن هناك لحظات يمكن لهم أن يحظوا خلالها بحياة طبيعية. بالقرب من مسجد أبو حنيفة، أمسك أحد الجنود العراقيين بجهاز مذياع في يديه، وانطلق يشدو بإحدى الأغنيات المذاعة، بينما انتشر البائعون يبيعون سلاسل مفاتيح بها دمى صغيرة، تبدو مثل جنود أميركيين يحملون مناظير للرؤية الليلية. وبساحة عنتر، تجلس النسخ الحقيقية من هؤلاء الجنود مرة كل أسبوع بأحد المطاعم المتخصصة في شي الأسماك، بالقرب من فرن يحرق أخشاب شجر التفاح والمشمش والتوت والرمان. من جانبه، وصف أبو ميس الجنود بأنهم: «مجرمون ومرتزقة». لكن هذه المشاعر لم تعد سائدة بين كافة أوساط العراقيين، حتى داخل حي الأعظمية. في هذا الصدد، قال معن الوزان، بائع أثاث: «دعونا نتحدث بصدق، أيهما تفضل، أن يكون لديك أبٌ قمعي أم أن تكون يتيماً بلا أب على الإطلاق؟» فيما يخص يونس المتميز بقدر كبير من الحماس والمرح، فقد عاد إلى الحي منذ بضعة شهور، وهو يجر عربته التي يملكها منذ اثني عشر عاماً إلى الشارع الذي يقف به الآن في حي الاعظمية، الذي كان اضطر إلى الرحيل عنه عام 2003. في الخامسة وعشرين دقيقة مساءً، عمل شقيقه على معاونته على إخراج الشاورمة في صورة أسياخ عملاقة محملة بـ65 رطلاً من لحم الدجاج و45 رطلاً أخرى من اللحم البقري، يحمل كل منها نكهة الليمون والخل والفلفل والتوابل والزبادي. لكن يونس أوضح أن الأهمية الكبرى تكمن في الدهن، الذي تتوافر لديه كمية كبيرة منه كافية لإسقاط نقاط على الفحم والاختلاط برائحة دخان الفحم.

والملاحظ، أن النشاط التجاري ليونس زاد بمقدار يزيد على الضعف منذ أن بدأه. ويتنوع زبائنه بين «الأطباء وغير المتعلمين». ويتدفق عليه الزبائن من مختلف أنحاء العاصمة. إلا أنه يقدر أن ما يزيد على نصفهم يأتي من الكاظمية، وهي حي شيعي يقع على الضفة المقابلة من نهر دجلة. مع غروب الشمس، تحول لحم الدجاج واللحم البقري إلى اللون البني، وعكف المساعد المصري ليونس على تقليب الأسياخ. وارتفع صوت الأذان من مسجد أبو حنيفة، لكن صوته لم يكد يسمعه أحد في خضم صوت أحد المولدات وأصوات أبواق السيارات وصفارات الإنذار التي تنطلق من حين لآخر. وتحرك عبر الشارع صبية يقودون دراجات، وحمل أحدهم العلم العراقي، بينما سار رجل عجوز يستند إلى عكاز نحو أحد الشوارع المهدمة جراء الحرب التي عصفت بالبلاد. على امتداد فترة طويلة، كان من الصعب التكهن بأي شيء هنا داخل العراق، ولم يكن هناك تشابه بين أي يومين. وكان من شأن هيمنة مشاعر الشك والخوف من المجهول غياب الشعور بالأمن. أما الآن فيعلم يونس تماماً الخطوة التالية التي عليه اتخاذها، فهو يخطط لتنظيف القمامة الموجودة على قارعة الطريق، بالقرب من لوحة باهتة تحمل عبارة «ارفع رأسك، أنت سني!». وينوي يونس افتتاح مطعم على الجانب المقابل من الشارع بالتعاون مع شريك شيعي من حي الكاظمية. وينوي كذلك العودة غداً من جديد، مثلما كان يفعل على امتداد أربعة شهور. بحلول السادسة مساءً، كانت النيران متوهجة. وبعد عشر دقائق، عادت الكهرباء وتم إيقاف المولد. وانبعثت أصوات مغنٍ عراقي من مذياع إحدى السيارات، بينما سار شباب يرتدون سراويل جينز ضيقة وقمصاناً أكثر ضيقاً. وتوقفت سيارة أجرة حاملة أول زبائن يونس خلال اليوم. وصاح عبد الرحمن عبد الوهاب لدى خروجه من السيارة: «إنني أعلم الشاورمة التي يصنعها من خلال رائحتها».

* خدمة: «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»