لمسات حضرية على طقوس عيد النوروز في طهران

تعود أصوله إلى الزرادشتية.. ورجال الدين الإيرانيون يتبنون فكرته لأنه ملتصق بالهوية القومية

TT

كانت مريم محمدي، ربة منزل من طهران، تساوم بشدة لشراء سمكة ذهبية. وقالت على عجل لصاحب المتجر، وهي تشعر بالقلق من عشرات الزبائن الآخرين على عجلة من أمرهم أيضاً: «فلتضف الطعام إلى السعر، وسأدفع لك 2000 تومانا» أي ما يساوي دولارين. قال أحد الواقفين: «تحركوا من فضلكم، الوقت ينفد». إن كل هذا الضغط ليس من قبيل المبالغة، فكل الواقفين في المتجر يحتاجون فعلياً شراء سمك ذهبي للاحتفال بعيد نوروز، بداية العام الإيراني، والذي يحل مع بداية الربيع. وفي رواق رخامي بالمركز التجاري، كانت هناك شاشة تلفزيونية بلازما، وكانت تشير للمشاهدين إلى أنه لم يتبق سوى 24 ساعة فقط على حلول العام الإيراني 1388، والذي يبدأ يوم الجمعة. وظهرت صور تماثيل ملوك فرس قبل ظهور الإسلام إلى جانب أعلام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومعها تماثيل النيروز، ومنها السمك الذهبي، وبراعم الشعير وأزهار الياقوتية.

وأظهر التدافع الأخير قبل حلول العام الجديد، كيف أن الثقافة الحضرية المتزايدة في إيران بدأت تغير من العادات والتقاليد القروية. وحيث يعيش أكثر من 70% من إجمالي تعداد السكان في إيران والبالغ 68 مليون نسمة في المدن، كما أن النسبة الباقية ترتبط بشدة بهم، بات من الواضح أن الطريقة التي يتم بها إنفاق الأموال وتمضية الوقت خلال عيد النيروز ـ حيث تكثر الاجتماعات العائلية ـ في تغير مستمر. وتتذكر مريم محمدي، وهي تحمل حوضاً به سمكتها الذهبية: «عندما كنت طفلة، كنا نحصل على السمك الذهبي من بركة المياه الموجودة في بستان جدي»، إلا أن طهران تحولت من مجرد مدينة يقطنها 4 ملايين نسمة عام 1979، إلى عاصمة حضرية تضم أكثر من 12 مليون نسمة. وأوضحت مريم أن بيت جدها قد هُدم، وأقيم على البستان بناية شاهقة الارتفاع. وأضافت: «لم يعد أحد يمتلك بركاً للمياه، كما أننا لم يعد لدينا وقت لمثل هذه الاستعدادات الكبيرة».

وكانت السمكة الذهبية جزءاً من مائدة هافت سين؛ وهي مائدة مزينة تضم بعض الأشياء الرمزية. وعلى سبيل المثال يضع الناس التفاح على المائدة كتعبير عن الجمال والصحة، وترمز السمكة الذهبية إلى الحياة، فيما يرمز البيض إلى الخصوبة. ويتم وضع نسخة من القرآن أو كتاب شعر تعبيراً عن الروحانية. ومع بداية العام الجديد ـ وهي اللحظة التي تتخطى فيها الشمس خط الاستواء ويبدأ الربيع رسمياً في نصف الكرة الأرضية الشمالي ـ تتجمع الأسر على مقربة من المائدة. وقال بائع متجول في الشارع أمام المركز التجاري: «حتى سنوات ماضية، كان الأشخاص يقومون بتلوين البيض، كما كانوا يزرعون الشعير لمائدة هافت سين. أما الآن فلم يعد لديهم الوقت للقيام بهذا بأنفسهم، لذا فنحن نبيع لهم ما يحتاجون».

ويتم الاحتفال بعيد نوروز في إيران وأفغانستان وطاجاكستان، والكثير من الدول الأخرى. وتعود أصول هذا العيد إلى الزرادشتية؛ والتي انتشرت في عهد الإمبراطورية الفارسية. وحتى بالرغم من معارضة بعض القادة الحاليين في إيران أحياناً الأعياد التي ظهرت قبل ظهور الإسلام التي تحتفي بالعام الجديد، فإن علماء الدين الشيعة الحاكمين يتبنون فكرة هذه الأعياد بصفتها جزءاً لا يمكن فصله عن الهوية القومية للبلاد. وتبدأ الكثير من العائلات الإيرانية استعداداتها لعيد نوروز قبل أسبوع كامل من ميعاده، حيث يقومون بعملية تنظيف تتم خلال الربيع ويتم القيام بذلك بهدف استقبال العام الجديد ببداية جديدة. ويتم جلب الأزهار والورود احتفاء بقدوم الموسم الجديد، كما يقوم الأفراد بشراء الملابس الجديدة لأسرهم. وكان علي جامشيدي، مدير محل يبيع ملابس برباري مقلدة ومشابك الشعر المرصعة بجواهر زائفة مكتوب عليها شانيل، دائما ما يجني خلال الشهر الذي يسبق عيد النيروز الكثير من الأرباح. وأضاف لدى جلوسه في متجره الفارغ، لم يعد الوضع كما كان في السابق، «ففي الماضي، كان الأشخاص يبتاعون الملابس الجديدة فقط في العام الجديد. أما الآن، فهم يتسوقون طيلة العام، لأنهم يملكون المزيد من الأموال عما كان عليه الحال في تلك الأيام». وقال ناصر فاكوهي، أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة طهران: «لقد غير التحضر من عيد نوروز». وأشار إلى غرفة المعيشة الخاصة به لتوضيح كيف تغيرت حياة وتقاليد الكثير من الإيرانيين خلال العقود الأخيرة. وأبدى ملاحظته قائلا: «تبلغ مساحتها 50 متراً مربعاً» أو حوالي 540 قدماً مربعة. وتساءل: «كيف يمكن لها أن تتسع لـ30 فرداً؟» وأوضح أن العائلات الكبيرة اعتادت على الإقامة في منازل كبيرة للغاية، إلا أن هذا لم يعد له وجود، «فجميعنا الآن يعيش في شقق اعتدنا وصفها بأنها (أقفاص في السماء). وهذه أحد الأساليب التي تغيرت بها حياتنا نتيجة للانتقال للعيش في المدينة». وأضاف أن الحياة المدنية توفر الكثير من الفرص من حيث العمل والخدمات المتاحة، إلا أنها وفي الوقت ذاته، عمدت إلى تغيير عادات وتقاليد مثل عيد نوروز. واستطرد: «منذ نحو 10 سنوات، بدأ الكثير من الأفراد إنفاق أموالهم بصورة تبدو أكثر شخصية، مثل السفر إلى الخارج. والآن فهم يدفعون إلى أشخاص ليقوموا باستعدادات عيد نوروز الخاصة بهم. وبصورة عامة، أصبح الأفراد يجتمعون بصورة أقل بكثير عما كانوا يفعلون قبل 10 أعوام، كما أنهم ينفقون أموالا أكثر على أنفسهم». وحتى مع حدوث هذا، ظل عيد نوروز فرصة يجتمع فيها عشرات الأصدقاء والأقارب ممن يمكنهم تحمل نفقاته المالية أو من اختاروا القيام بهذا.

وقال رجل كبير في السن كث الشارب لابنه فيما كان الأخير ـ والذي يبدو أنه يبلغ من العمر 20 عاماً ـ يستعد للقفز فوق ثلاث حلقات نارية صغيرة، وهو طقس يشير إلى انتصار الضوء على الظلام في الوقت الذي يقترب فيه الشتاء على الانتهاء: «يمكنك القيام بهذا». وكان يصاحب هذا المشهد دوي سماعات الصوت بالموسيقى الأوروبية والأغاني الشعبية الإيرانية، وسرعان ما قفز الشاب فوق النيران الصغيرة، وصفق له الجميع، فيما بدأت صديقته إطلاق مفرقعات نارية. ورقص حوالي 30 فرداً ـ شباباً وكباراً في السن ـ في غرفة المعيشة، الموجودة داخل المنزل القروي المكون من طابقين، والحديقة التي يفوح منها رائحة الربيع. وهناك قاموا بالترحيب باثنين من أبناء عمومتهم المقيمين في إيرفين بكاليفورنيا، واللذين أتيا خصيصاً للاحتفال بالعام الجديد مع الأسرة. وقال علي ـ والذي طلب عدم ذكر اسم عائلته: «ما كان يمكن أن أضيع على نفسي فرصة عيد نوروز في إيران، فما هو المكان الآخر الذي يمكنك أن ترقص وتضحك مع كل أسرتك وأصدقائك وأن تقفز فوق النيران؟».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»