العائلات السياسية اللبنانية تتمسك بمواقعها.. وبعضها أسس أحزابا

الانتخابات وفق قانون الـ1960 تعزز موقعها

TT

رغم أن لبنان يتباهى بكونه «ديمقراطية برلمانية» وبمحافظته على إجراء الانتخابات التشريعية بانتظام، أي كل 4 أعوام، صونا لمبدأ «التناوب على السلطة»، وهو مدماك أساسي من مداميك الديمقراطية، يستحيل «تخيّل» أروقة مجلس النواب خالية من بعض الوجوه التي ورثت مقاعده الوثيرة أبا عن جد.

وإذا تمكّن عدد من الأحزاب والتيارات، وبألوانها المتعددة، من اختصار المشهد السياسي اللبناني في السنوات الأخيرة، فإنه لا يعكس عمق تركيبة المجلس أو صورته الصحيحة. فهو منذ إنشائه، لا، بل منذ اعتماد الصيغة التمثيلية في لبنان، لطالما طُبع ببعض الأسماء المنحدرة من عائلات استطاعت الحفاظ على مكانتها في الحياة السياسية رغم كل التطوّر الذي طرأ على المجتمع.

فمنذ تأسيس دولة لبنان الكبير أنشأ الانتداب الفرنسي «اللجنة الإدارية»، ولاحقا، أي في عام 1926، أنشأ مجلس النواب. وفيه احتلّت العائلات العريقة مقاعد توارثتها من جيل إلى جيل، وأشهر هذه العائلات آل جنبلاط في الشوف، وأرسلان في عالية، وآل سلام في بيروت، وآل كرامي في طرابلس، وحمادة في بعلبك، وسكاف في زحلة، والأسعد وعسيران والخليل في الجنوب، والخازن في كسروان، والجميّل في المتن، وفرنجية في الشمال... غالبية هذه العائلات كانت تتمتّع في الأصل بمستويين اجتماعي واقتصادي متقاربين جدا، وفي هذا الإطار يذكر وزير الثقافة السابق الدكتور غسان سلامة في كتابه «المجتمع والدولة في المشرق العربي» أن «التجدد في الأفراد نسبي أو حتى كاذب إلى حد كبير، باستمرار العائلات وتوارث الزعامات». ويردّ هذا الوضع إلى أن «أعيانا ريفيين استطاعوا، إلى حد متفاوت بين عائلة وأخرى، التأقلم مع نمو الرأسمالية المدينية». ويعتبر أن هذه السطوة العائلية على مقاليد السلطة هي ما يفسّر عددا من مميزات النظام اللبناني. ويرى أن «أولى هذه المميزات هي ضعف الانتماء الحزبي بين النواب، وسيطرة الفئات التقليدية جدا على المجلس».

واللافت أن هذا الإرث السياسي أوجد معادلة خاصة في الحياة السياسية اللبنانية، فإذا خسر مرشح من عائلة لها تاريخها في العمل السياسي، فهذا لا يعني بالضرورة إقصاءه عن تعاطي العمل السياسي. وهذا ما حصل مع الوزير السابق سليمان فرنجية حين خسر في دورة عام 2005، والرئيس أمين الجميّل في انتخابات المتن الفرعية عام 2007.

لكن، لماذا يعود الحديث عن العائلات السياسية اللبنانية؟ بالتأكيد ليس من باب التقليد في مواسم الانتخابات البرلمانية، رغم أن كلا من ابنة النائب الراحل جبران تويني نايلة، أعلنت ترشيحها في دائرة بيروت الأولى، إلى جانب نديم، ابن مؤسس «القوات اللبنانية» الرئيس بشير الجميّل، بل لسببين: الأول، اعتماد قانون انتخابات عام 1960 في الدورة المقبلة المقرّرة في 7 يونيو (حزيران) المقبل، واحتمال تعزيزه عودة العائلات إلى واجهة الحياة السياسية، بما أنه يعتمد القضاء دائرة انتخابية. الثاني، التركيز الكبير والمستمرّ للخطابات المحمومة على الديمقراطية وسبل حمايتها، وهذا ما يطرح علامات استفهام كثيرة حول مدى تعارض التوارث السياسي مع مسار الديمقراطية اللبنانية.

وحول هذه النقطة لا يرى أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور ملحم شاوول أي تعارض، ويقول لـ«الشرق الأوسط» أن «التوارث السياسي لا يمثّل خطرا على الديمقراطية، ما دام يحتكم إلى الشعب. فلو كان الوريث يفرض فرضا من خلال آلية دكتاتورية شمولية لصحّ هذا الافتراض. على أية حال إن توارث الأدوار لا ينحصر في الحياة السياسية أو القبلية أو العشائرية، فهذه ظاهرة تطاول القطاعات الاقتصادية أيضا، لذلك علينا إدراك أن الديمقراطية تختلف من بلاد إلى أخرى، لأنها تعكس تركيبة المجتمع وتتّسم بخصوصية معينة». ولفت إلى «خطأ شائع، فكثيرون يعتقدون أن المقعد يصل إلى الوريث على طبق من فضّة. وهذا خطأ لأنه إذا لم يضِف الوريث شيئا جديدا إلى إرثه فالفشل سيكون حتما من نصيبه، لذلك أسس مثلا الزعيم الدرزي كمال جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أطّر العمل السياسي للعائلة، وعبّد لها الدرب للاستمرار. كذلك، إن بشير الجميّل حين أسس القوات اللبنانية كان بذلك يضيف شيئا إلى إرث بيت الجميّل».

ويردّ شاوول هذا التلازم بين العائلية والسياسة إلى قوانين الانتخابات، ويرى أنه «في الدورة المقبلة سيتعزّز وجود العائلات لأن القانون يعتمد الدائرة الصغيرة، أي القضاء مع النظام الأكثري».

في المقابل نفى رئيس «مركز بيروت للأبحاث والمعلومات» عبدو سعد ان يكون اعتماد قانون 1960 أو الدائرة الصغيرة هو السبب، مرجعا ذلك إلى «النظام الأكثري الذي يطيح الأقليات، ومعها إمكان التجديد في النخب». وقال: «إن مبدأ التناوب على السلطة لم يطبّق منذ عام 1926، ذلك أن السلطة بقيت محصورة في أيدي زعماء الطوائف وأبنائهم وبعض الإقطاعيين. وإذا لم نضع قانون انتخاب يجعل لبنان دائرة واحدة مع النسبية، فإن تداول السلطة لن يحصل أبدا».

صحيح أن العائلات السياسية اللبنانية تمكّنت من فرز النخبة الحاكمة، ولكن ما السبل التي مكّنتها من الحفاظ على أدوارها السياسية منذ ما قبل الاستقلال إلى ما بعده؟ فكيف حافظ آل الجميّل أو جنبلاط على مكانتهما، فيما اندثر مثلا دور آل الأسعد في الجنوب؟ ففي أول انتخابات بعد الحرب، أي في عام 1992، لم ينل كامل الأسعد إلا 18 ألف صوت مقابل 100 ألف صوت لتحالف «أمل» و«حزب الله»، وتراجع الرقم إلى نحو 6 آلاف أو 7 آلاف في آخر انتخابات خاضها الأسعد في عام 2000، أي حاز أقل من 5 في المائة من أصوات المقترعين، علما بأن هؤلاء لم ينخفض عددهم عن دورات الاقتراع السابقة.

يجيب سعد: «يعتبر الحراك السياسي لدى الشيعة الأكثر ثورية، فتاريخيا هم معروفون بأنهم ضد السلطات المستبدة، لذلك كانوا من أولى الطوائف التي انخرطت في أحزاب ورفضت الإقطاع السياسي. ولاحقا انضوت العائلات التي كانت تتمتّع بنفوذ تحت عباءة المؤسسة الشيعية السياسية (حركة أمل وحزب الله). وهذا حال آل الخليل وآل الزين الذين انضموا إلى حركة أمل. أما رأس الهرم في حزب الله فلا يمت إلى العائلية بِصلة».

ويفسّر كل من سعد وشاوول محافظة العائلات التي تنتمي إلى طوائف أخرى على أدوارها، إلى إدراكها باكرا ضرورة مواكبة الحداثة، لذلك عمدت إلى تأسيس الأحزاب والتيارات. وهذه حال آل فرنجية الذين أسسوا تيار المردة، وآل الجميّل الذين أسسوا الكتائب، فيما أسس آل جنبلاط التقدمي الاشتراكي، لكن آل أرسلان أسسوا «الحزب الديمقراطي» في فترة متأخرة. وهنا يقول سلامة إن «التحزب السياسي هو صورة من صور العصرنة»، فيما يلفت سعد إلى أن «الأحزاب التي انخرطت في حرب 1975، ولاحقا في الحروب الأهلية، وأنشأت ميليشيات تمكّنت من الحفاظ على مكانة معيّنة بعد الحرب. فهناك الكثير من البيوتات السياسية التي أفل وهجها لمصلحة الميليشيات، فالسلاح يدعم السلطة ويقوّي النفوذ». من هنا يُفهم تراجع دور «الكتلة الوطنية» التي كان يتزعّمها العميد ريمون إده.

ولكن ماذا عن عائلات بلاد جبيل وكسروان من الخازن إلى البون وصفير وزغيب وسلامة؟ يجيب سعد: «أدركت عائلات كسروان مجتمعة أنها لا تستطيع اكتساح الانتخابات حاليا أمام ارتفاع شعبية التيار الوطني الحر في مناطقها، لذلك نلاحظ أن في مناطق أخرى انضوت بعض العائلات في تيارات تتمتّع بنفوذ كبير، لتصبح رافدا للتيارات والأحزاب الكبيرة. لذلك لا أعتقد أن قانون 1960 سيعيد الدور إلى العائلات، لأن هذه كانت مهيمنة على المجلس قبل الحرب، أما اليوم فلا تستطيع تجاوز أدوار الأحزاب».

وعن مسار الانتقال من العائلية المجرّدة إلى تأسيس الأحزاب يلفت شاوول إلى أن «علم الاجتماع يلاحظ صراعا خفيا وحادا بين الحالة العائلية والتنظيم السياسي، فالعائلة أنشأت الحزب كمحاولة تأقلم مع متطلّبات الحداثة وانتشار التعليم. فلم يعد في إمكان زعيم هذه العائلة أو تلك أن يخاطب قاعدته الشعبية التي باتت متعلّمة ومطّلعة على الأنظمة الديمقراطية». من هنا يبرّر كيف أن العائلات التي أنشأت أحزابا تسعى دوما إلى إبقائها في كنفها، وكأن الحزب تحوّل «حاضنة مؤطّرة للعائلة». من هنا يُفهم عودة «الكتائب» إلى أحضان بيت الجميّل، أما العائلات التي فشلت في تعزيز دور أحزابها فبات حضورها السياسي مهدّدا بالاندثار. وهنا يورد سعد عددا من العائلات التي لطالما تمتّعت بنفوذ سياسي في أقضية الشمال، فانحسر دور بعضها وانضوى بعضها الآخر، إما في تيار «المستقبل» أو في «القوات» بالنسبة إلى عائلات قضاء بشري.