منطقة أبيي.. أو «كشمير» السودان.. تنتج 70% من إجمالي النفط

وصفتها الأمم المتحدة بمدينة أشباح.. بعد اشتباكات داخلها العام الماضي

مدينة أبيي تبدو وكأنها مدينة أشباح بعد معارك شهدتها العام الماضي (أ.ب)
TT

يرى المراقبون في الخرطوم أن وصول الأزمة حول منطقة أبيي الغنية بالنفط، بين شمال السودان، يمثله حزب المؤتمر الوطني بزعامة الرئيس عمر البشير، والجنوب تمثله الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة شريكه في الحكم سلفا كير ميارديت، إلى مرحلة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي، بمثابة آخر الخيارات «الحكيمة» المطروحة من قبل الطرفين لرسم مصير المنطقة، بعيدا عن خيار الحرب بينها مرة أخرى.

وجاء قرار إخضاع أبيي للتحكيم الدولي في اجتماع مشترك بين الطرفين في 8 يونيو (حزيران) من عام 2008، انتهى بما عرف بـ«خارطة طريق أبيي»، حملت ثلاثة بنود أساسية هي: ترتيبات أمنية، وعودة النازحين، والترتيبات المؤقتة لإدارة المنطقة وترتيبات الحل النهائي. وجاء في هذا البند الأخير: «يلجأ الطرفان إلى هيئة تحكيم مهنية متخصصة يتفق عليها الطرفان للفصل في خلافهما حول ما توصل إليه تقرير خبراء دوليين ومحليين، أوكلت إليهم حسب اتفاقية السلام الموقعة عام 2005 تحديد مصير المنطقة. وإذا فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق حول هيئة التحكيم أو مرجعياته أو قواعد تسييره، يلجأ الطرفان إلى التحكيم في لاهاي، وفقا لقواعد محكمة التحكيم الدولية والأعراف الدولية المرعية».

وفي مطلع العام الحالي أودع الطرفان القضية أمام محكمة التحكيم، وانخرطا في سلسلة زيارات ولقاءات مع المسؤولين في المحكمة، إلى أن تم اختيار القضاة، وسددت الحكومة رسوم المحكمة بعد جدل عنيف بين المتنازعين، كما تقدم كل طرف فيما بعد بمرافعاته المكتوبة للمحكمة، وهما بانتظار النتيجة التي سيسفر عنها التحكيم عندما تعلن الحكمة قرارها في 22 يوليو (تموز) المقبل.

ويتلخص نزاع منطقة أبيي التي تحتضن أكثر من 70% من النفط السوداني المنتج الآن، في أن الشماليين ممثلين في حزب المؤتمر الوطني وقبيلة المسيرية العربية، من أكبر قبائل المنطقة، يعتقدون أن المنطقة تتبع للشمال كما هي الآن، غير أن الجنوبيين، الحركة الشعبية ومن ورائها قبيلة «دينكا نقوك»، وهي أيضا من أكبر قبائل المنطقة، يرون أن المنطقة تتبع للجنوب، وضمها إلى الشمال تم بقرار إداري غير سليم من السلطات الاستعمارية الإنجليزية في خمسينات القرن الماضي.

وظل هذا الصراع يعلو ويهبط على ساحة الأحداث السودانية منذ عام 1955، أي منذ بروز الإشارات الأولى للصراع السياسي الذي تطور إلى صراع مسلح فيما بعد بين الشماليين والجنوبيين. ولكن كل محاولات حل قضية جنوب السودان، منذ تفجرها مع بداية إعلان الاستقلال، تحاشت الخوض في قضية أبيي من: مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، إلى بيان 9 يونيو (حزيران) عام 1969، إلى اتفاق أديس أبابا عام 1970، إلى اتفاق «كوكادام» عام 1988، إلى اتفاق «الميرغني قرنق» عام 1989. وحسب المراقبين فإن النزاع يتسم بحساسية عالية، ويأخذ طابعا «كشميريا»، نسبة إلى نزاع كشمير بين الهند وباكستان.

وشكلت قضية أبيي عقبة كأداء في مفاوضات نيفاشا للسلام بين الحكومة والحركة الشعبية، التي جرت تحت رعاية الهيئة الحكومية للتنمية المعروفة بـ«إيقاد»، منذ يوليو (تموز) عام 2002. لتنتهي في عام 2005 باتفاق للسلام بين الطرفين عرف باسم اتفاق السلام الشامل أو «اتفاق نيفاشا»، عالجت القضية في بروتوكول منفصل ضمن ستة بروتوكولات أساسية وفرعية شكلت كتاب نيفاشا الواقع في 2500 صفحة من الحجم المتوسط.

وحسب المتابعين عن كثب لتداعيات مفاوضات نيفاشا فإن بروتوكول أبيي كان آخر ملف تم حسمه في المفاوضات، نسبة إلى تباعد الخلافات بين الطرفين حول وضعية المنطقة، ولم يرفق البروتوكول، وهو في الأصل مقترح أميركي قدمه مبعوث السلام آنذاك جون دانفورث، الذي لعب دور الوسيط غير المباشر في المفاوضات. ولم يرفق بكتاب اتفاق السلام المعد للتوقيع إلا بعد شد وجذب وحذف وتعديل، فضلا عن الضغوط من قبل الوسطاء في منظمة «إيقاد» وشركاء «إيقاد» من الدول الغربية.

وأعطى البروتوكول سلطة الإشراف على أبيي إلى مؤسسة الرئاسة السودانية، وحدد البروتوكول فترة انتقالية تمنح خلالها وضعا إداريا خاصا بحيث يصبح المقيمون في أبيي مواطنين في كل من غرب كردفان وبحر الغزال، ويكون لهم ممثلون في المجالس التشريعية في الولايتين. كما خصص البروتوكول لأبيي نسبا من عائدات النفط توزع صافي عائدات بترول أبيي في الفترة الانتقالية على 6 حصص تحصل فيها الحكومة القومية على 50%، وحكومة جنوب السودان على 42%، ومنطقة بحر الغزال (جنوبا) على 2%، وغرب كردفان (شمالا) على 2%، والجهات المحلية في دينكا نقوق على 2%، والجهات المحلية في المسيرية على 2%. وأخضع البروتوكول أبيي إلى رقابة دولية تساهم في تنفيذ الاتفاق، وذلك بنشر مراقبين دوليين في أبيي لضمان التنفيذ الكامل لهذه الاتفاقات.

وحدد البروتوكول نهاية المرحلة الانتقالية 6 سنوات، يجري سكان أبيي استفتاء منفصلا بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان، ويضمن الاستفتاء لسكان أبيي الخيارات التالية بصرف النظر عن نتيجة استفتاء جنوب السودان: إما أن تحتفظ أبيي بوضع إداري خاص في الشمال، أو تكون أبيي جزءا من بحر الغزال (الجنوب). واشترط البروتوكول ألا يتم انتهاك حدود 1 يناير (كانون الثاني) 1956 بين الشمال والجنوب السوداني (تضع أبيي في الشمال) إلا بعد الاتفاق بين الطرفين.

ولكن البروتوكول خضع بعد أشهر إلى التعديل حيث دعا إلى إنشاء «مفوضية» تقوم بترسيم حدود أبيي، تتكون من خمسة أعضاء يمثلون الحكومة السودانية، وخمسة أعضاء يمثلون الحركة الشعبية، وخمسة خبراء محايدين يتم تعيينهم من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا ومنظمة «إيقاد»، مهمتهم الاستماع إلى ممثلي أهل منطقة أبيي وجيرانها، كما تستمع أيضا إلى ما يقدمه الطرفان. وبالإضافة إلى ذلك يرجع الخبراء في المفوضية إلى الأرشيف البريطاني والمصادر الأخرى عن السودان أينما كانت متاحة، بغرض التوصل إلى قرار يكون مستندا إلى التحليل العلمي والبحث. وينص الملحق كذلك على قيام الخبراء بتحديد القواعد الإجرائية لمفوضية ترسيم حدود أبيي، على أن يكون تقرير الخبراء الذي يتم التوصل إليه نهائيا وملزما للأطراف.

وتم لاحقا تشكيل لجنة الخبراء برئاسة سفير أميركي سابق، قامت بجولات ميدانية على الأرض وزيارات لعدد من الدول ودور الوثائق، وأعدت تقريرها الختامي، جاء فيه أنهم لم يستطيعوا أن يحددوا حدود عام 1905، التي بموجبها تم إتباع 9 مشيخات من دينكا نقوق إلى الشمال، ولكن لجنة الخبراء اقترحت من جانبها حدودا لأبيي عند خط 10/22 درجة عرضا (يضع جزءا كبيرا من المنطقة في الجنوب)، وبتقديمها للتقرير النهائي متضمنا هذا المقترح رفض حزب المؤتمر الوطني تقرير لجنة الخبراء، واتهم لجنة الخبراء بالخروج عن مجال اختصاصها عندما اقترحت الحدود لأبيي، وظل المسؤولون في حزب المؤتمر الوطني يقولون إن لجنة الخبراء إما أن تحدد حدود 1905 المشار إليها في البروتوكول، وحسب الاختصاصات الممنوحة لها، وإما أن تترك الأمر. فيما ظلت الحركة الشعبية من جانبها تتمسك بالتقرير بأنه «نهائي»، حسب الملحق المعدل في البروتوكول.

وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي اعتمد الطرفان، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، اتفاقا عرف بـ«المصفوفة»، على أن تجلس الرئاسة في كنفه بشكل دائم لحل أزمة أبيي، غير أن شيئا من ذلك القبيل لم يحدث. وفي مارس (آذار) من نفس العام قررت الحركة الشعبية تسمية القيادي في الحركة «إدوارد لينو»، وهو ينتمي إلى قبيلة دينكا نقوق في أبيي، مشرفا سياسيا لأبيي، وبعد أسابيع وصل المدينة على رأس قوة من قوات الحركة، مما أثار حفيظة مليشيات المسيرية، وكذلك المسؤولين في حزب المؤتمر الوطني، حيث رفضوا الخطوة واعتبروها بمثابة فرض للأمر الواقع، وطالبوا لينو بالخروج من أبيي حسب اتفاق أبيي الذي يقول بعدم وجود قوات للحركة الشعبية في المنطقة طوال الفترة الانتقالية، ولكن لينو ظل يرفض الخطوة ويردد في تصريحاته بأنه مشرف سياسي وإداري في المنطقة. ويعتقد المراقبون أن وصول لينو إلى أبيي هو الخطوة التي عجلت بالانفجار الذي أحال المدينة إلى صحراء ومدينة أشباح، حسب تعبير المسؤولين في الأمم المتحدة، على خلفية اشتباكات عنيفة وقعت في الثالث عشر من مايو (أيار) بين قوات جنوبية منضمة للجيش السوداني، وقوات للحركة الشعبية في المدينة. ليجس الطرفان فيما بعد «وينسجا» خريطة للطريق لحل النزاع، أخضعت المنطقة إلى التحكيم الدولي الذي بدأ الآن.