قميص غزة منظّر «الجهاد» المصري: مأساة غزة اليوم أن حماس تريد أن تنفرد بالقرار.. وعلى الآخرين سداد الفاتورة

الدكتور فضل: حزب الله وحماس أطلقا صواريخهما من وسط النساء والأطفال ليصنعا لنفسيهما بطولات على حساب هؤلاء، ثم صرخا «أغيثوا غزة.. غزة منكوبة»

طفلة فلسطينية في مدرسة تابعة للأمم المتحدة تكتب على السبورة «القدس لنا كلنا»، وذلك بعد إحدى الغارات الإسرائيلية الأخيرة على مدينة غزة (إ.ب.أ)
TT

تنقّل منظر جماعة الجهاد وأول أمير لتنظيمها محللا للمأزق الذي خلفته حرب غزة الأخيرة، هذه الحرب التي زجت بالمنطقة إلى أعتاب من الفوضى الفكرية، سياسياً ودينياً، فاختلط الحابل بالنابل وتاهت الشعوب العربية وضاعت منها الحقيقة بفعل هذا الصخب المدوي، الكل رفع لواء فلسطين على أسنّة الفضائيات العربية، الكل يتاجر بقميص غزة، القميص الذي ما أن نظن أنه تهالك حتى يجدده عشاق الفتنة. يوجه السيد إمام عبد العزيز شريف (الدكتور فضل) منظّر جماعة الجهاد وأول أمير لتنظيمها في ختام كتابه «قميص غزة» الذي تنشر «الشرق الأوسط» حلقات منه، رسائل واضحة يتناول فيها مسألة مساندة فلسطين وشعبها بعيداً عن الشعارات الجوفاء. ويشير في الحلقة الأخيرة اليوم إلى أن الصمت أرحم من المتاجرة بدماء شهداء ضحوا بأرواحهم من أجل حرية الأراضي المحتلة. وفي خاطرته الحادية عشرة، التي اختار لها عنوان «الشعوب العربية وقميص غزة» يقول السيد إمام عبد العزيز شريف: مع بدء مأساة غزة الحالية هاجت بعض الشعوب العربية وخرجت في مظاهرات تصب غضبها على مصر فقط، وليس على الأردن أو سورية أو لبنان أو حتى الضفة الغربية مع أنها كلها من دول الطوق العربي المحيط بإسرائيل. كلهم يريدون أن يقاتلوا إسرائيل حتى آخر جندي وآخر جنيه مصري. ونفس هذه المظاهرات هي التي استفزت جمال عبد الناصر على خوض حرب 1967 بدون استعداد كافٍ فكانت النتيجة ما قد عرفتم.

وأنا أدل هذه الشعوب على ما يمكن أن تفعله لتقوم بواجبها، وهذه أمثلة:

1. ففي سورية:

لتطلب الجماهير الغاضبة في سورية من حكومتها الدخول في حرب مع إسرائيل لتحرير أرضها الجولان المحتلة التي لم تطلق فيها سورية طلقة واحدة لمدة 35 سنة (1973 ـ 2008)، إسرائيل موجودة في أرضكم وتسرح وتمرح في سمائكم قاتلوها لتخففوا ضغطها على غزة.

وإذا تعذّر هذا اطلبوا من إيران وحزب الله إطلاق صواريخهما على إسرائيل.

وعندكم قادة المنظمات الفلسطينية (خالد مشعل وغيره) اطلبوا منهم أن يذهبوا ليقاتلوا مع أهلهم الذين فرضوا عليهم الحرب، وقولوا لمشعل وغيره كلمة ابنكم أبي مُصعب السوري (إذا كنت إمامي فكن أمامي).

لقد تم ذبح ألفين من الفلسطينيين في مخيم (تل الزعتر) ومثلهم في (صبرا وشاتيلا) في لبنان أمام السلطات السورية ولم تتدخل لمنع هذه المجازر، واليوم ترفع قميص غزة وتبكي عليها.

2. وفي اليمن:

قال مسؤول كبير في اليمن ـ منذ سنوات ـ (إنه كان يتمنى أن تكون له حدود مشتركة مع إسرائيل ليقاتلها). فاحتل أهم حليف لإسرائيل في المنطقة، وهي إريتريا، أرض هذا المسؤول (عدة جزر في البحر الأحمر) فهل قاتلها هذا المسؤول أو الجيش اليمني؟ لا، لم يقاتلوا من احتل أرضهم، ويريدون أن يقاتلوا إسرائيل (العدو البعيد)، وإنما لجأوا للمحاكم الدولية التي أعادت لليمن جزيرة حنيش وحكمت لإريتريا بالجزر الأخرى، أي إن إريتريا ما زالت تحتل بعض الجزر اليمنية، فلتذهب الجماهير اليمنية الغاضبة لتحرير أرضها المحتلة.

وعندكم إيران موجودة في شمال اليمن عن طريق حلفائها الحوثيين.

عندما سجنوني في اليمن ظلمًا وعدوانًا (2001 ـ 2004)، قال بعض الشباب المسجونين لمدير المخابرات اليمنية (اللواء غالب القمش): إذا كنتم لا تريدوننا في اليمن اتركونا نذهب إلى فلسطين بوسائلنا الخاصة لنقاتل اليهود. فقال لهم القمش (أنتم عايزين تجيبوا لنا مصيبة، اتركوا اليهود والفلسطينيين يطحنوا في بعض).

عندما كنت مقيمًا باليمن حكى لي أحد اليمنيين عن مظاهرة خرجت في عدن أيام حرب يونيو (حزيران) 1967، فقال: طلب بعض المسؤولين من الناس الخروج في مظاهرة ووعدوهم بدفع أجر لكل مشارك، وجمعوا بطاقات المشاركين ليسلموها لهم مع الأجر في ختام المظاهرة. ثم هتف المتظاهرون (عبد الناصر يا حبيب، إحنا معاك لتل أبيب)، فقال أحد المشاركين للمسؤول (أعطني بطاقتي، فأنا لا أريد الذهاب إلى تل أبيب)، فقال له المسؤول (هذا كلام، كلام)، قال المشارك (إيش يعني كلام؟) قال المسؤول (يعني كِذب كِذب)، فقال المشارك (كل هؤلاء يكذبون؟)، فقال المسؤول (نعم). وصاحب الحكاية هو الأخ (ع.ب) من مدينة البيضاء باليمن.

والأمثلة كثيرة، والأسى أكثر. حتى السودانيون غاضبون، وكلهم يريد أن يقاتل إسرائيل إلى آخر مصري.

وأهدي لهذه الشعوب الغاضبة الخبر التالي (كشفت مصادر بكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عن دخول 2000 ـ ألفي ـ مصري من المنتمين للمجموعات السلفية الجهادية إلى قطاع غزة الأيام الماضية بعد فتح معبر رفح للانضمام إلى المقاومة والجهاد ضد إسرائيل... إلا أن قيادات حماس أعربت عن شكرها وتقديرها للمجاهدين، وطلبت منهم مغادرة القطاع والعودة إلى مصر حتى لا تحدث أزمة سياسية لمصر مع إسرائيل... وقالت في لقاء مع مجموعة كبيرة منهم «لا نريد منكم سوى الدعاء») (من صحيفة «المصري اليوم» 6 فبراير (شباط) 2008 ص1).

مأساة غزة اليوم أن حماس تكرر خطأ ياسر عرفات، اعتبرت أنها (أبو القضية) مثل عرفات، وتريد الكل أن يخدمها ويكون طوع أمرها، وتريد حماس أن تنفرد بالقرار وعلى الآخرين سداد الفاتورة ودفع الثمن.

إسرائيل وافقت على حكم ذاتي كامل لعرفات عام 1978 لأنها شعرت أن وراءه مصر وكل الدول العربية، فلما رفض، وصار وحيدًا بعد ذلك بلا ظهر لم يحصل على شيء.

وكما دخل حزب الله المغامرة الأليمة في لبنان 2006 وأعلن فورها عن الانتصار العظيم، ثم أعلن خطاب الندم بعد شهر بسبب الخسائر الفادحة وقَبِل بالهدنة وبقوات دولية. فكذلك ستفعل حماس، لتكرر كارثة أخرى من كوارث الإخوان المسلمين.

حماس انفردت باتخاذ القرار وعليها وحدها تحمل التبعات، كما ذكرت في الخاطرة الخامسة، لا أن تستغفل الآخرين ـ بقميص غزة ـ وتحملهم التبعات والأخطاء. حماس هي التي قامرت بأهل غزة، وهي التي نقعت قميص غزة في الدماء، وعليها وحدها أن تغسله.

كانت مصر أغنى دولة في المنطقة، وكان من ضاقت به الدنيا يقدم إليها فيجد سعة العيش منذ أيام إخوة النبي يوسف ـ عليه السلام ـ ولم تفتقر مصر إلا بحروبها في فلسطين واليمن، فتغرّب أهل مصر لطلب الرزق بعدما كان يأتي إليها كل جائع فيشبع، ويا ليت الناس رحموا أهلها.

الخاطرة الأخيرة نصيحة خاتمة للمسلمين ولشبابهم لا عزة لنا إلا بالتمسك بالإسلام، قال عُمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العز بغيره يذلكم الله) ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) 7/64.

سيظل الناس يجربون نظريات الشرق والغرب، وأفكار فلان وفلان، حتى يدركوا أنه لا نجاة ولا خلاص في الدنيا والآخرة إلا بالإسلام، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...» (فصلت53). وإذا كان لا عزة إلا بالإسلام، فاعلموا أنه لا توجد جماعة إسلامية أو تنظيم من التنظيمات المعروفة في الدنيا اليوم قد وضعت قدمها بعدُ على بداية الطريق الصحيح لنصرة الإسلام وإعزازه. كلهم يجربون أفكارهم في المسلمين، وكلهم يعملون من أجل مصالح محدودة، وبعض الجماعات هي في الحقيقة أحزاب سياسية علمانية تتكلم باسم الإسلام لاصطياد الأتباع. والمسلمون ـ خاصة الشباب ـ يدفعون ثمن هذه التجارب (قتل وخراب)، بدون أي إنجاز على أرض الواقع حتى على المستوى الشعبي، فالفساد والجريمة والفقر والجهل في ازدياد.

وحتى ينجو المسلم من ضلالات المضلين يجب عليه أن يتعلم دينه ولا يفعل شيئًا إلا بعلم (يجوز أو لا يجوز) كما قال الله تعالى: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...» (الإسراء36)، فإن كنت لا تعلم فاسأل الأمناء من أهل العلم كما قال الله تعالى: «...فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل43).

ولا تسلّم عقلك لغيرك حتى لا تصير مجرد رقم في قطيع، هذا يسرقك بقميص أميركا، وهذا بقميص فلسطين وغزة. عقلك هو جنتك ونارك، وما دخل أهل النار النارَ إلا بسبب تعطيل عقولهم كما وصفهم الله تعالى: «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ» (الملك10 ـ 11). ففكر بعقلك لا بأذنك.

والله سبحانه لن يحاسب الناس على ما يستحسنونه وإنما على ما شرعه لهم.

واعلم أن الله سبحانه قد شرع الجهاد لتحقيق مقصدين ذكرهما في قوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه» (الأنفال:39):

* فالمقصد الأول: (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي لدفع الفتن والضرر عن المسلمين، وهذا لحفظ رأس مال الإسلام.

* والمقصد الثاني: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) فهذا لطلب الربح والزيادة بتوسيع سلطان المسلمين.

وقد اتفق الفقهاء على أن (حفظ رأس المال مقدم على طلب الربح) ذكره ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى) 35/158 ـ 159. فلا يجوز السعي في قهر العدو على حساب تضييع المسلمين كما تفعله حماس اليوم في غزة، ولهذا قال الإمام السرخسي رحمه الله (ولأن حقيقة الجهاد: في حفظ المسلمين قوة أنفسهم أولا، ثم في قهر المشركين وكسر شوكتهم، فإذا كانوا عاجزين عن كسر شوكتهم، كان عليهم أن يحفظوا قوة أنفسهم بالموادعة إلى أن يظهر لهم قوة كسر شوكتهم) من (شرح السير الكبير) 1/133، ط.دار الكتب العلمية. وبهذا تعلم أن ما تفعله حماس في غزة اليوم إنما هو ضد المقاصد الشرعية للجهاد، إذ تسببت في إشعال حرب معلوم مسبقًا أنها ستدمر غزة وأهلها، وفيهم مستضعفون شرع الله الجهاد لإنقاذهم لا لتدميرهم كما قال سبحانه: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ...» (النساء75)، فما عاد على هؤلاء بالضرر من أعمال قتالية فهي ضد الجهاد المشروع. وفي غزوة الأحزاب وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء والأطفال في حصن بالمدينة بعيدًا عن ميدان المعركة حتى لا يصابوا بضرر، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يكره أن ينقل المجاهدون ذراريهم (نساءهم وأطفالهم) إلى الثغور المخوّفة (نقاط التماس الساخنة مع العدو) حتى لا يصيبهم العدو. فجاء حزب الله وحماس وأطلقاا صواريخهما من وسط النساء والأطفال ليصنعا لنفسيهما بطولات على حساب هؤلاء، ثم صرخاا (أغيثوا غزة، غزة منكوبة). من أراد أن يقاتل إسرائيل فليحمل سلاحه وليدخل إليها لا أن يطلق صواريخه من بين النساء والأطفال ثم يبكي عليهم.

واعلموا أنه لا يمكن أن يقع دمار في مكان ـ بسبب عدو أو زلزال وغيره ـ إلا بسبب ذنوب ومظالم كثيرة في ذلك المكان، هذا كلام ربنا: «...وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» (القصص59).

وبعد مُضي أسبوع على بدء الحرب في غزة بدأ الحديث عن إعادة إعمار غزة، فأقول: لماذا يبني الناس مُدنًا وعمارات وهم عاجزون عن حمايتها؟، هذا سفه وإسراف. أما إذا استقرت الأمور فإن المسؤول عن إعمار غزة هي حماس وحدها (فمن كَسَر جَبَر)، أما إذا قام أحمق بتخريب بيته وبناه الناس له فسوف يكرر التخريب، وكل إنسان مسؤول عن تبعات قراره كما ذكرته.

ولا تصدقوا أنه ستقوم وحدة وطنية فلسطينية أو وحدة عربية، سيبقى التشرذم ما بقيت أسبابه، هذا فعل الله تعالى القائل: «...فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء...» (المائدة14). توجد عوائق تحول دون الوحدة يجب إزالتها أولا ليسمح الله بالوحدة والألفة، قال تعالى: «...إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...» (الرعد11)، وقال تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (الأنفال63).

وليس من عمل أهل العلم مجاراة أهواء الناس، أو الخضوع للإرهاب والابتزاز بقميص غزة، فليس من الدين (الجمهور عايز كده) هذا مذهب أهل السينما. وإنما واجب أهل العلم كشف الشبهات وبيان الحق عند الاختلاف كما قال تعالى: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ...» (النحل64). ويجب قول الحق وإن كرهه الناس، فالحق ثقيل على النفوس كما قال تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا» (المزمل5).

أما أن ما يجري الآن في غزة سببه الانتخابات الإسرائيلية أو الفلسطينية فهذه أمور شكلية، الله سبحانه هو الذي يصرف السوء والعدو، ولكنه قد قال سبحانه: «...إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...» (الرعد11). وهذا آخر ما أذكره في هذه الخواطر.

(انتهى)