طيارون عراقيون سابقون: المخابرات الإيرانية مسؤولة عن تصفية العشرات منا

قالوا لـ«الشرق الأوسط» : لسنا مجرمي حرب.. وكنا مرغمين على تنفيذ الأوامر * تحولوا بالتدريج من أرقى نخبة بالمجتمع إلى باعة أرصفة

صورتان من أرشيف العميد الطيار الركن عقيل نجم عبد وهو يقود طائرات روسية («الشرق الأوسط»)
TT

تشكل قضية الضباط السابقين في سلاح الطيران العراقي المنحل، على أهميتها القصوى، إحدى القضايا المنسية، التي يبدو أن السلطات السياسية في العراق الجديد، تأبى معالجتها أو حتى مجرد التعاطي معها؛ لسلسلة من الأسباب المبهمة.

فسلاح الطيران العراقي، الذي أثبت فاعلية منقطعة النظير طول ثماني سنوات من الحرب ضد إيران، كان يضم نحو 800 طيار في صنفي القوة الجوية، المؤلفة من الطائرات الحربية النفاثة فقط والتابعة لقيادة القوة الجوية، وطيران الجيش المؤلف من المروحيات العسكرية فقط، والتابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة سابقا، وقد تلاشى هذا السلاح الحربي الفاعل على مراحل، بفعل سياسات النظام السابق الخاطئة وحروبه المستمرة، فبعد أن كان الطيار يمثل أرفع نخبة اجتماعية في المجتمع العراقي من حيث السمعة الاجتماعية والوضع المعيشي، خصوصا في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، تحول بمرور الوقت، لا سيما بعد فرض الحظر الدولي المحكم على العراق، إثر غزو الكويت في أغسطس (آب) 1990 وما بعد ذلك، إلى مجرد عسكري متعب بالكاد يسد رمق أطفاله، وبعد سقوط النظام السابق في العراق عام 2003، اضمحل سلاح الطيران العراقي اثر قرار الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، بحل الجيش العراقي بكل صنوفه، لتبدأ بعده سلسلة عمليات اغتيال مدروسة لكبار ضباط سلاح الطيران والجيش المشاركين في الحرب ضد إيران، أسفرت عن تصفية نحو 200 ضابط طيار في بغداد وسائر المدن العراقية، فيما لاذ البقية الباقية بالفرار نحو دول المهجر، بينما انتهز عدد قليل جدا منهم العرض، الذي قدمه الرئيس جلال طالباني لهم عام 2005 بالمجيء إلى إقليم كردستان الآمن، للسكن ودرء المخاطر عن أنفسهم وعائلاتهم.

وعلى إثر ذلك، أصبح العراق خاليا، على نحو شبه تام، من أي كفاءات عراقية في مجال سلاح الطيران وهندسة الطيران، وصارت المحاصصة السياسية والنزاع الطائفي والمذهبي يحولان دون إعادة الضباط الطيارين السابقين إلى الخدمة، في وقت العراق فيه بأمس الحاجة لكفاءاتهم، بغية بناء سلاح طيران فاعل ومخلص.

ويقول العميد الركن، الطيار عقيل نجم عبد 49 عاما، آمر أحد أسراب الطائرات العراقية سابقا، الذي يعمل منذ 2003 مدربا للطيران في مطار عربت الزراعي بمدينة السليمانية، انه تخرج من كلية الطيران في بغداد عام 1984، وشارك في الحرب ضد إيران، وقاد العديد من الطائرات الحربية روسية الصنع، من طراز سوخوي 22 و25، وميغ 21، ثم أصبح مدربا للطيران، وقاد طائرات أخرى من طرازL32 ، توكانو، وجت بروفيست البريطانية الصنع، وله في الخدمة 3150 ساعة طيران، وعن كيفية قبول الطلبة في كلية القوة الجوية في عهد النظام السابق، يقول الكابتن عقيل «في الستينات كان القبول يتم على أساس السمعة الطيبة للطالب وصحته البدنية، أما في عهد النظام السابق وبسبب ظروف الحرب، فإن التركيز صار على الكم على حساب النوعية، أي أن القبول كان متاحا للجميع، بغض النظر عن الانتماء القومي أو المذهبي أو السياسي، باستثناء أبناء الطائفة المسيحية، الذين كان من المحظور عليهم الانتماء إلى سلاح الجو، على خلفية حادث خطف طيار مسيحي يدعى منير روفة لطائرة عراقية من نوع ميغ 21، ونقلها إلى إسرائيل إبان الستينات من القرن الماضي، ولكن صار النظام يشترط على الطلبة بعد قبولهم، الانتماء إلى حزب البعث» .

وتابع الكابتن عقيل، الذي يتحدر من أصول كردية، حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بالقول، إن «القبول لأبناء القومية الكردية كان متاحا أيضا، وقد كان من ضمن دفعتي في الكلية خمسة طلاب أكراد من السليمانية وكركوك وأربيل».

ويؤكد العميد عقيل، أن «الطيار العراقي كان مرغما على تنفيذ الأوامر والطلعات الجوية من دون نقاش أو تردد، حاله في ذلك حال كل ضباط الجيش ومراتبه، وكان يعلم فقط بطبيعة الذخائر التقليدية، التي يستخدمها في طائراته أثناء تنفيذ الغارات، أما الأسلحة غير التقليدية مثل القنابل الكيمياوية والبيولوجية مثلا، فإن طواقم فنية متخصصة، كانت تتولى تركيبها على طائرات خاصة، يقودها طيارون مختصون، جرى تأهيلهم في الخارج على كيفية استخدام تلك الأسلحة».

وعن أوضاع الطيارين الأمنية، يقول «كان الطيارون يخضعون لرقابة شبه لصيقة من قبل أفراد الأجهزة الأمنية، في العهد السابق، وكانت هواتفهم خاضعة للمراقبة الدائمة، أما ما يقال عن حجز أو ارتهان عائلاتهم في القواعد الجوية، لحين عودتهم من واجباتهم فهو أمر مبالغ فيه كثيرا، ولم يكن مسموحا للطيار السفر إلى الخارج إطلاقا أو استحصال جوازات سفر لأفراد عائلته، وكان الطيار يتعرض لعقوبة الإعدام فورا ومن دون محاكمات في حال رفضه تنفيذ الأوامر، أو أداء المهام الموكلة به». ويمضي الكابتن عقيل، الذي هو نجل اللواء «عبد علي»، آمر قوات الدفاع الجوي العراقية، قبل إحالته إلى التقاعد عام 1983، إلى القول «حقوق الطيارين كانت مهضومة جدا في العهد السابق، لا سيما إبان فترة الحصار الدولي، حيث صار بعضهم يعملون كسائقي سيارات الأجرة أو باعة في المتاجر أو على الأرصفة، بغية زيادة دخلهم، الذي لم يكن يسد الرمق ولا يتناسب مطلقا مع مكانتهم ودورهم في المجتمع، ما دفع بالغالبية المطلقة من الطيارين المدنيين، الذين كان مسموحا لهم السفر، إلى مغادرة العراق نحو المهجر؛ بحثا عن معيشة أفضل، فيما ظل الطيارون العسكريون، الذين يتراوح عددهم ما بين 700 – 800 طيار في كلا الصنفين، أي القوة الجوية وطيران الجيش يصارعون مصاعب الحياة، ويمنعون من السفر لحين سقوط النظام، ربما للحيلولة دون البوح بأسرار الحرب»، وأضاف، انه «بعد عام 2003، تعرض الطيارون وكبار قادة وضباط الجيش السابق إلى عملية اغتيالات مدروسة، نفذتها خلايا مخابراتية إيرانية، كنوع من عمليات الثأر من أولئك الضباط، مستغلة الفوضى التي رافقت عملية سقوط النظام السابق».

ويقول الكابتن عقيل، إن نحو 200 ضابط طيار عراقي قد تم اغتيالهم من قبل مجاميع مسلحة، تابعة للمخابرات الإيرانية، في بغداد والمدن الأخرى، من بينهم احد زملائه المقربين وجاره في نفس الحي، الذي شكل مع خمسة طيارين آخرين شركة مدنية للعمل، لكن مجموعة مسلحة خطفتهم وساقتهم إلى مصير ما برح مجهولا حتى الساعة، في صمت مطبق من الحكومة على حد تعبيره.

منوها إلى أن خمسة طيارين فقط انتقلوا إلى إقليم كردستان للسكن فيه فقط، لا العمل، وذلك بناء على نداء الرئيس طالباني، أما البقية فقد هاجروا إلى خارج البلاد، وان قلة قليلة جدا من الطيارين أعيدوا إلى الخدمة، لكنهم باتوا الآن محاصرين في المنطقة الخضراء، التي لا يجرؤون على مغادرتها، ولا يرون عائلاتهم المقيمية في الخارج إلا بين الحين والآخر. واستطرد قائلا، إن «محاولات إظهار الطيارين العراقيين على أنهم مجرمو حرب، هي مساع تستند إلى خطط سياسية مرسومة خارج العراق، لتشويه سمعة أولئك الطيارين، الذين خدموا وطنهم ودافعوا عنه بكل إخلاص وتفان، في حين أن المجرمين الحقيقيين هم من أصدروا الأوامر من أركان نظام البعث السابق، الذين تلطخت أياديهم بدماء العراقيين الأبرياء» .

ويعتقد العميد الركن عقيل، أن مساعي بعض النواب في البرلمان العراقي الحالي، لتعطيل أو إجهاض مشروع قانون تقاعد العسكريين السابقين، وعدم منحهم رواتب مجزية، توفر معيشة لائقة لهم ولعائلاتهم، من شأنها دفع هؤلاء نحو المسار غير الصحيح أو نحو أحضان الإرهاب وما شابه ذلك، ويقول، إن «مستقبل سلاح الجو العراقي الجديد، سيكون مظلما جدا، ما لم يتم تأهيل وإعادة الطيارين السابقين إلى وظائفهم، والاستفادة من قدراتهم وكفاءاتهم».

وهو ما يؤيده أيضا العقيد الركن الطيار«س .م . ع»، المقيم في السليمانية منذ 2005، الذي أكد بدوره على أن الطيارين العراقيين هم من أكفأ الطيارين في العالم، وان السلطة العراقية الحالية إذا كانت تريد أن تبني سلاح الطيران بناء صحيحا، فما عليها إلا أن تعيد الطيارين السابقين من ذوي الخبرة والكفاءة العالية إلى الخدمة، مؤكدا أن الاستعانة بالخبرات الأجنبية، لبناء قدرات سلاح الطيران أمر خاطئ.

ويقول العقد الركن «س . م»، الذي رفض الكشف عن اسمه بالكامل في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، خوفا على أهله المقيمين في بغداد، إن «الطائرات الروسية، التي استخدمها الطيران العراقي، هي من أفضل الطائرات في العالم، وتتفوق حتى على الطائرات الأميركية، ولو كان سلاح الجو العراقي بنفس الكفاءة التي اتسم بها إبان بداية الثمانينات، لأفلح كثيرا في رد العدوان الأميركي عن العراق».

مؤكدا أن قبول الطلبة الجدد في كلية القوة الجوية الحالية على أساس النسب، المخصصة لكل قومية في العراق أمر خاطئ جدا، ومن شأنه إشعال معركة طائفية في المستقبل، أبشع مما هي قائمة الآن، ويرى الكابتن «س . م»، أن الحل الأمثل لمعضلة الطيارين السابقين، وخلق سلاح جو فاعل في البلاد، يكمن في إزالة الحكومة الحالية، والإتيان بحكومة تضع مصالح الوطن والشعب فوق كل الاعتبارات الأخرى.