قوانين الانتخاب اللبنانية: أسلحة السلطة في الحروب «الديمقراطية»

في بلاد «الأقليات المتشاركة» جرى تغيير القانون الانتخابي 12 مرة منذ عام 1920

TT

على مرّ العهود والمجالس النيابية ظل التوصل إلى قانون الانتخاب مطلبا أزليا للبنانيين، مطلبا يتحوّل وعدا لدى الحكومات والمجالس المتعاقبة، تُنظَّم حوله ندوات ومؤتمرات وطاولات مستديرة، تُعرض مقترحات، تناقش وتنتقد، ويبقى المطلب حلما وورقة تتوارثها السلطات.

فعند كل موعد لاختيار «ممثلي السيادة الشعبية» يُشهَر القانون في وجه المواطنين الذين تباعد بينهم لوثة الطائفية في بلاد «الأقليات المتشاركة»، كما سماها المفكّر الراحل ميشال شيحا. ذلك أنه يمثّل سلاحا «ديمقراطيا» ذا فعالية كبيرة ونتائج مضمونة، ولذلك درجت السلطات المتعاقبة على استخدامه بانتظام. فما الأفضل من أدوات الديمقراطية لمجابهة الاستحقاق «الديمقراطي»؟

الواقع أنه منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في عام 1920، لم يحظَ اللبنانيون بقانون انتخابي يضمن «صحّة التمثيل». ففي كلّ موعد يوضع قانون جديد يحافظ على النظام الأكثري، فيما يقتصر التعديل على تقسيم الدوائر، ليأتي مقاسها متناسبا مع أحجام المرشّحين. فتارة هي الأقضية، وتارة المحافظات، وطورا يُضم قضاءان أو محافظتان، فتكون الحصيلة غياب المعيار الواحد في تقسيم الدوائر، نتيجة صغر بعضها وكبر بعضها الآخر من دون مبرّر منطقي، مما يضيّع معيار العدالة. ومنذ الاستقلال في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، مرّ ستة وستون عاما وأجريت اثنتا عشرة دورة انتخابية، ألصقت بمعظمها تهمتا «الغش» و«التزوير».

وفي السابع من يونيو (حزيران) يُقبل اللبنانيون على الدورة الثالثة عشرة من الانتخابات في عهد جمهورية الاستقلال، وسط شرخ سياسي يقسم البلاد أفقيا وعموديا، وبقانون انتخاب اتفق عليه الفريقان في تسوية الدوحة، كان قد وضع لانتخابات عام 1960 على أساس اعتماد القضاء الإداري دائرة انتخابية، إنما مع إضافة بعض التعديلات، كضمّ قضاءَي بعلبك والهرمل وجعلهما دائرة واحدة، وجمع قضاءَي حاصبيا ومرجعيون.

وإذا كان قانون الانتخاب وليد الديمقراطية وجنينها، لا، بل مركبها الذي يضمن أهم مرتكزاتها، وهو مبدأ «التناوب على السلطة» وبمساواة بين المرشّحين، فلا بدّ من مراجعة قوانين الانتخاب التي اعتمدت في لبنان وضمنت وصول الطواقم السياسية إلى السلطة. ولا بدّ من الإشارة أيضا إلى أن تبديل هذه القوانين اقتصر على شقّ تقسيم الدوائر، من دون إضافة أي مكوّنات إصلاحية تُذكر، باستثناء حق اقتراع المرأة الذي أضافه رئيس الجمهورية كميل شمعون، وخفض سن الاقتراع من 21 سنة إلى 18 سنة، الذي أقرّه البرلمان أخيرا (ليطبَّق عام 2013)، فضلا عن إجراء الانتخابات في يوم واحد في كل لبنان، و«محاولة» وضع سقف للإعلام والإعلان الانتخابيين. وبحسب دراسة أصدرها مركز «الدولية للمعلومات» في بيروت عام 2005، فـ«منذ عام 1920 غُيّر قانون الانتخاب 12 مرة من أجل غايات الزعماء السياسية عوض معالجة أمور أساسية، مثل اقتراع الناخب في مكان إقامته وليس في مكان ولادته، واعتماد التمثيل النسبي عوضا عن التمثيل الطائفي، ومنع شراء الأصوات، والحد من الحملات الإعلانية للمرشحين بما فيها الإعلانات، وتوظيف آلاف المندوبين».

وفي هذا الإطار قال المحامي والأستاذ الجامعي وعضو «اللجنة الوطنية لقانون الانتخاب» غالب محمصاني، لـ«الشرق الأوسط»، إن «كل القوانين الانتخابية التي وضعت لم تبحث في إمكان وضع إصلاحات، سواء في 1947 أو 1951 أو 1957. سابقا كان يتمتّع رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة، فالرئيس كميل شمعون قسّم الدوائر الانتخابية بما يناسب حلفاءه، وهكذا قسم بيروت والجبل بشكل يسقط المعارضة، لا سيما الزعيم الدرزي كمال جنبلاط. وبعد حرب 1958 أتى الرئيس فؤاد شهاب بقانون في عام 1960، يعتبر الأفضل مقارنة بسائر القوانين لأنه على الأقلّ اعتمد معيارا واحدا في تقسيم الدوائر، وهو القضاء الذي يمثّل وحدة جغرافية وإدارية. وبهذا القانون ضمن عودة الخلاف السياسي من الشارع إلى أروقة مجلس النواب حفاظا على الاستقرار الأمني، وهذا القانون ظل معتمدا في أربع دورات متتالية، أي 1964 و1968 و1972، ذلك أن القوى السياسية في ذلك الوقت كانت تحترم القانون، خصوصا أنه كان يضمن تمثيلا مقبولا للأطراف كافة. لكن طالما كان هناك تفاوت كبير في عدد النواب المخصصين لكلّ قضاء.

هذا الأمر يقود إلى الحديث عن معيار العدالة الذي لم تضمنه كل القوانين التي اعتمدت قبل الطائف وبعده، وهذا المعيار يتوافر عندما يكون الحاصل أقرب إلى واحد حين نقسم عدد نواب القضاء الأكثر تمثيلا في البرلمان على عدد النواب في القضاء الأقل تمثيلا. ويبدو قانونا 1937 و1953 الأقرب إلى العدالة، ذلك أن الفرق بين أكبر قضاء وأصغر قضاء لناحية عدد النواب هو اثنان فقط. ويرتفع الرقم إلى 2.4 في انتخابات 1943 و1947، و2.5 في 1934، و2.8 في 2005، و3.5 في 1951، و3.8 في 2000، و6 في 1957، و8 في 1960، و1972 و9.22 في 1992 و1996. وجدير بالذكر أنه قبل اتفاق الطائف لم يكن عدد النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بل كانت النسبة 6 إلى 5 لمصلحة المسيحيين.

ومما سبق يظهر أن «تقسيمات» ما بعد الطائف التي فصّلتها أجهزة «الوصاية السورية»، وتحديدا في دورتي 1992 و1996، هي الأكثر إجحافا. ويقول محمصاني عن هذين القانونين، إضافة إلى قانون الألفين المعروف بـ«قانون غازي كنعان»، إنها «قوانين اعتباطية ومخالفة للطائف وسيئة جدا، ذلك أنها اعتمدت دوائر كبيرة في ظل نظام أكثري، مما يعني إهدار الكثير من الأصوات. ومعها بدأ عهد المحادل والبوسطات. أما بيروت فكانت إما موحدة وإمّا مقسّمة كما في قانون الألفين، وفي كل دورة من الدورات الثلاث التي أجريت فيها الانتخابات كانت عبارة (استثنائية ولمرّة واحدة) تستخدم لتبرير التقسيمات المجحفة، وكان المقصّ يستخدم في تقسيم الدوائر».

ماذا عن تفاصيل «تقسيمات ما بعد الطائف» التي فصّلتها الأجهزة السورية؟ معروف أن دورة 1992 شهدت مقاطعة واسعة من المسيحيين تلبية لدعوات بكركي وأبرز الأحزاب والتيارات المسيحية، فلم تتعدّ نسبة مشاركتهم 13 في المائة. ويوضح محمصاني أن «الأجهزة السورية عدّلت قانون الستين في دورة 1992 بعدما ارتفع عدد النواب إلى 128 نائبا، فاعتمدت المحافظة دائرة انتخابية ولمرّة واحدة، كما جعلت الشمال محافظة، فيما جُمعت محافظتا الجنوب والنبطية في دائرة واحدة. أما في جبل لبنان فكانت الدوائر أقضية، فيما صار قضاءا بعلبك والهرمل دائرة واحدة، وقضاءا راشيا والبقاع الغربي دائرة واحدة».

أما في دورة 1996 فاستُحدث تعديل جديد مختوم بعبارة «لمرّة واحدة ولأسباب ظرفية تتّصل بالمصلحة العامة العليا»، يعرض جوانبه محمصاني: «ثلاث دوائر لكلّ من محافظات بيروت والبقاع ولبنان الشمالي، أما بالنسبة إلى الجنوب فدُمِجت محافظتا الجنوب والنبطية، فيما اعتمد القضاء في جبل لبنان. وهذا يبيّن مدى اللامساواة في احتساب أصوات المواطنين».

في دورة الألفين تخلّت الأجهزة السورية عن القوانين السابقة، واستحدثت لهذه الدورة قانونا جديدا عُرف باسم «قانون الألفين» أو «قانون غازي كنعان»، على اسم وزير الداخلية السوري الراحل الذي كان رئيسا لفرع الأمن والاستطلاع في لبنان. وقد اعتمد القانون نفسه في دورة الـ2005 رغم خروج السوريين، وفي ظل ما عرف بـ«التحالف الرباعي» الذي جمع «حركة أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي».

في دورة الألفين قيل الكثير. قيل إن القانون وضع لتحجيم كتلة الرئيس الراحل رفيق الحريري عبر تقسيم بيروت ثلاث دوائر، لكنّ النتائج لم تأتِ على قدر الطموحات. وقيل أيضا إن طريقة تقسيم هذه الدوائر تشتّت الصوت المسيحي وتذيبه لأنها توزّعه بشكل يعود فيه القرار إلى الناخبين المسلمين في تحديد الفائزين من المرشحين، لذلك تعود خلفيات مطالبة بعض الأطراف بالعودة إلى قانون الستين إلى كونه يعيد توزيع الدوائر بشكل يضمن لكلّ طائفة اختيار ممثليها. فهذا القانون لم يعتمد معيارا واضحا في تقسيم الدوائر، لأنه جعل محافظة جبل لبنان 4 دوائر: دائرة قضاءَي جبيل وكسروان، دائرة قضاء الشوف، دائرة قضاءَي بعبدا وعالية، ودائرة قضاء المتن. أما محافظة الشمال فجعلها دائرتين، الأولى تضم 3 أقضية هي عكار والضنية وبشري، والثانية 5 أقضية هي طرابلس والمنية وزغرتا والبترون والكورة. وجعل الجنوب دائرتين، الأولى شملت صيدا والزهراني وصور وبنت جبيل، والثانية مرجعيون وحاصبيا والنبطية وجزين. أما البقاع فجُعل 3 دوائر: دائرة بعلبك والهرمل، دائرة زحلة، دائرة البقاع الغربي وراشيا.

في الختام، لفت محمصاني إلى أن اعتماد «الستين» يعدّ أمرا سيئا اليوم، وإن كان أفضل من قوانين ما بعد الطائف، لأنه إذا كان يلبّي الحاجات في تلك الآونة فإنه بات اليوم يختزل كل طائفة بقوى معيّنة بفعل سيطرة الأحزاب الكبرى. وصار بذلك يمنع تمثيل الأقليات ضمن كل طائفة من الطوائف الكبرى. وصارت قيادات الأحزاب تختار من تريد من المرشحين.

جدير بالذكر أن الانتخابات المقبلة ستجرى في يوم واحد، وهو سلوك انتخابي سليم لكنّه يطرح تحديات أمنية جادّة. فكيف سيمرّ هذا الاستحقاق؟ وأي سلطة اشتراعية ستتمخّض عن قانون أعيد نبشه من الأدراج في زمن الاصطفافات الطائفية الحادة؟