مقاتلو «بيجاك»: نمنع حتى قتل الحيوانات المفترسة في كردستان لكن إيران تتهمنا بالإرهاب

«الشرق الأوسط» تحاور عناصر التنظيم الكردي الإيراني المعارض في معقلهم بجبال قنديل

مقاتلان من «بيجاك» يقرآن كتابا أثناء فترة الاستراحة (تصوير: كامران نجم)
TT

منذ فترة طويلة يسعى مندوب «الشرق الأوسط» بجد، للوصول إلى الجزء الجنوبي الشرقي من سلسلة جبال قنديل الشاهقة بإقليم كردستان العراق، حيث المعاقل القيادية والمقرات الخلفية لحزب الحياة الحرة الكردستاني (بيجاك) المناهض لإيران، لكن استمرار القصف المدفعي الإيراني على القرى الكردية الكائنة في سفوح قنديل كان يحول دون ذلك؛ بسبب انشغال مقاتلي الحزب بأمورهم وعمليات الكر والفر ضد القوات الإيرانية في عمق المناطق الغربية من إيران، وبعد سلسلة محاولات عبر وسطاء ومقربين من الحزب تكللت جهوده بالنجاح في ترتيب لقاء مع عدد من قياديي الحزب ومقاتليه في احد مقراتهم الخلفية، الكائن في قمة رابية شاهقة تطل على واد سحيق، وتحتضن عدة قرى متباعدة وخالية من سكانها.

أما المشكلة في الأمر فتمثلت في كيفية الوصول إلى معاقل بيجاك، التي تخضع لحظر محكم من قبل سلطات إقليم كردستان منذ نحو ثلاث سنوات، أسوة بالجزء الشمالي من تلك السلاسل الجبلية الناطحة للسحاب، حيث معاقل حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا، كما أن الطريق المبلط الوحيد، الذي يؤدي إلى الجزء الجنوبي من قنديل بعد اجتياز قصبة «زاراوا»التابعة لبلدة قلعة دزة، ضمن محافظة السليمانية يخضع هو الآخر لسيطرة قوات حرس الحدود الكردية وقوات الأمن (الاسايش)، التي تنفذ تعليمات مشددة تمنع وصول الصحافيين تحديدا إلى تلك المناطق، مهما كانت المبررات، أضف إلى ذلك امتناع سائقي سيارات الأجرة، العاملين على الخطوط المؤدية إلى المناطق الحدودية مع إيران، عن نقل أي شخص إلى مناطق نفوذ «بيجاك»، ولو بأجور مغرية، طبقا لتعليمات السلطات المحلية، لكن الدليل القروي الذي استعنا به في رحلتنا السابقة إلى معاقل حزب العمال، افلح في إقناع سائق سيارة قديمة، ذات دفع رباعي موديل 1984، بنقلنا إلى قنديل عبر المسالك الجبلية الوعرة، ذات الحفر والمطبات الطبيعية المخيفة، وذلك بحكم علاقات الصداقة الوثيقة بينهما، شريطة تحمل مسؤولية ما قد نتعرض له من مخاطر في تلك الشعاب الجبلية، التي تراقبها القوات الحكومية بالنواظير وتطلق النار على السيارات التي تسلكها، ولله الحمد لم نواجه أيا من تلك المخاطر أثناء اجتيازنا المناطق، التي تديرها سلطات الإقليم، حتى وصلنا قرية «ماردو»، التي تعتبر أول قرية على الطريق المؤدية إلى معاقل «بيجاك»، وقد هجرها سكانها أسوة بنحو عشر قرى أخرى في المنطقة؛ جراء القصف الإيراني، الذي من الممكن أن يتجدد في أي لحظة، وعلى مسافة قريبة من تلك القرية المؤلفة من نحو عشرين بيتا، هنالك مقبرة تضم قبور 76 من مقاتلي حزب العمال، الذين سقطوا خلال غارات الطائرات التركية المتكررة على المنطقة، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، نقشت على أحجارها باللغة التركية أسماء المقاتلين وتواريخ انتمائهم إلى الحزب وأسباب مقتلهم، فيما رسمت على الطرف الثاني للأحجار وبلون احمر خارطة دولة كردستان الكبرى، التي كان ينادي بها حزب العمال تتوسطها دائرة بيضاء ونجمة حمراء ترمز إلى الأفكار الماركسية، التي يتبناها الحزب، وقد دفنت جثث المقاتلين الصرعى متجاورة في مجموعات، تتألف كل منها من 12 ضريحا، وهي واحدة من مقابر عديدة مماثلة على سفوح جبال قنديل ومحاطة بسياج حديدي مزخرف، وحديقة غناء تضم أصنافا من الزهور والورود الحمراء، تتوسطها نافورة رائعة وتجاورها قاعة مستطيلة تحوي صور المقاتلين، مقرونة بنبذات عن سير حياتهم، تتوسطها صورة كبيرة لزعيم الحزب عبد الله أوجلان، وأسفلها علم الحزب وشارته، وفي بوابة المقبرة يوجد نصب يرمز إلى تضحيات المقاتلين الراقدين هناك، على هيئة قوس أشبه بعمود الرياح القوية المنبعثة إلى السماء في إشارة إلى هجمات المقاتلين وصولاتهم، تعلوها أياد خارجة من صميم الرياح، وهي ترفع على اكفها صورة الشمس المتوهجة في إشارة إلى إصرار المقاتلين على التمسك بالحياة والحرية، التي تمثلها الشمس، مثلما شرح لنا ذلك ماهر جودي 25 عاما، احد مقاتلي حزب العمال ويدعى ماهر من أهالي مدينة «قازان قايا» بكردستان تركيا، الذي لم يكن يجيد سوى التركية، مؤكدا، ان الحزب خصص مجموعة من مقاتليه لخدمة تلك المقبرة والمحافظة على الحدائق المحيطة بها.

وبعد مسافة قصيرة من المقبرة انقطع السبيل أمام السيارة، التي تقلنا ولم تعد قادرة على تسلق الرابية الشاهقة، ما اضطرنا إلى السير مشيا مسافة 5 كم تقريبا، بين الوديان والروابي المكتظة بأشجار البلوط والصفصاف، والكرز والأحراش الكثيفة، التي تتخللها ينابيع المياه الرقراقة والصخور العملاقة، حتى بلغنا أول نقطة تفتيش مؤدية إلى مناطق نفوذ «بيجاك»، وبعد إجراءات التفتيش والرد على الاستفسارات المعتادة عن أسباب الزيارة، والجهة والأشخاص المقصودين، سمح لنا بمواصلة المسير نحو أول مقر قيادي لـ«بيجاك»، وقد ساهم وجود سائق السيارة برفقتنا في تسهيل عملية عبورنا، إذ اتضح لنا فيما بعد انه على صلة وثيقة بالحزب، وهو معتمدهم الأمين في نقل المؤن والمساعدات والبريد إليهم في أي وقت يقرره الحزب ومسؤولوه، ويحظى باحترامهم وثقتهم.

وطوال تلك المسافة كنت أتابع عبر المنظار الحركة في كل الاتجاهات؛ علني أرى دلائل لتدريب المقاتلين على أيدي مدربين أميركيين، كما أفادت بعض التقارير الصحافية، في ضوء تصريحات مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، ولكن عبثا لم ألحظ سوى حركة عدد من المقاتلين في اتجاهات مختلفة وبعض الرعاة المنشغلين برعي ما تبقى من مواشيهم التي نجت من القصف، وبعد الوصول إلى المكان المتفق عليه، واخذ قسط من الراحة في انتظار وصول القائدين الميدانيين آزاد هوراز عضو الهيئة القيادية، الذي يحمل شهادة من إحدى الجامعات الإيرانية في علم النفس، وهفال موسى، عضو المجلس القيادي، لإجراء الحوار الصحافي معهما، بخصوص أوضاع وسياسات الحزب، تبادلنا أطراف الحديث مع مجموعة من المقاتلين الموجودين في المقر، الذي كان يضم ثلاثة مبان متباعدة على شكل قاعات مستطيلة مختلفة المساحات مبنية من الحجر والطين ومغطى بجذوع الأشجار أحدها كانت مخصصة لنوم وراحة المقاتلين، ومزود بجاهز لاستقبال البث التلفازي الفضائي، والآخر مقسم إلى جناحين احدهما يستخدم كمطبخ والآخر كحمامات، فيما كان المبنى الثالث والصغير مخصصا للمولدات الكهربائية، وكان المبنى الثاني مرتعا لقطين كبيرين ونحو عشرة من جرائهما المنسجمين مع المقاتلين في ألفة مدهشة، وتتقافز بين أحضانهم، وكان أكثر المقاتلين اهتماما بالقطط المقاتل «زنار»، الذي علق على الأمر بقوله، «نحن نمنع الصيد في كل مناطق قنديل وقرى كردستان الشرقية، بل ونمنع حتى قتل الحيوانات المفترسة لديمومة الحياة الطبيعية في وطننا، بينما النظام في إيران يتهمنا بممارسة الإرهاب».

وقد تناول حوارنا المتقطع تحت زخات الأمطار مع المقاتلين الذين كانوا في استراحة، بعد مسلسل القصف المدفعي اليومي، الذي سبق وصولنا بساعات قليلة، الأوضاع في إقليم كردستان العراق وابرز شؤون الساعة، علاوة على أوضاع «بيجاك» السياسية والعسكرية، وقال المقاتل «كاروان سنيي»، 30 عاما، انه قرر الانضمام إلى صفوف الحزب مع لفيف من زملائه بعد تخرجهم من كلية الآداب قسم علم النفس بجامعة «سنندج»، قبل عامين لجملة من الأسباب، أبرزها تأثرهم الشديد بأفكار وفلسفة عبد الله أوجلان، علاوة على شعورهم بان استمرار المظالم التي يتعرض لها الكرد في إيران من قتل وإعدامات وتشريد وهضم للحقوق القومية والثقافية صار يتطلب قوة ردع، ومواجهة مسلحة لرفع الحيف والمظالم عن الشعب الكردي هناك، وأضاف، «نحن هنا من وديان وقمم هذه الجبال والرواسي الشاهقة، ننطلق نحو بناء حياة حرة كريمة للفرد الكردي والمجتمع الكردستاني في الشطر الشرقي من وطننا المقسم».

وحول ما إذا كان يحلم كأي شاب آخر من جيله بالحب والزواج والأسرة والأطفال، قال سنيي، «مسيرتنا النضالية شاقة جدا وطويلة ومحفوفة بالكثير من المخاطر والأهوال؛ لذا يتوجب على من ينضم إلينا من الشباب أن يقضي أولا على رغباته الشخصية وشهواته النفسية؛ كي يصبح مقاتلا بمعنى الكلمة، لأننا مؤمنون بان الكفاح المسلح وإقامة الأسرة وتربية الأبناء جبلان لا يلتقيان أبدا»، منوها إلى، أن الحزب يحرص على عقد مؤتمراته الموسعة كل عامين وفي مواعيدها الثابتة؛ بغية تقييم الأوضاع وإجراء التغييرات الكفيلة بتحقيق التقدم المستمر على جميع الصعد. وقال، «إن الحزب عقد منذ انبثاقه عام 2004 وحتى الآن ثلاثة مؤتمرات موسعة، حيث يشارك فيها كوادر ومقاتلو الحزب من كل الفروع والخلايا التنظيمية والعسكرية، لاختيار مجلس قيادي يتألف من 21 عضوا، ويكون بمثابة اللجنة المركزية في بقية الأحزاب، ويتولى أعضاء المجلس انتخاب الهيئة القيادية للحزب، والمؤلفة من سبعة أعضاء إضافة إلى رئيس الحزب، وتكون بمثابة المكتب السياسي في الأحزاب الأخرى».

أما المقاتل (م . م)، 55 عاما، من أهالي مدينة أورمية بكردستان إيران، فقد أوضح الفوارق بين «بيجاك» وحزب العمال الكردستاني، مؤكدا أنهما حزبان منفصلان تماما من حيث القيادة والقواعد والقوات العسكرية، لكنهما يتبنيان نفس الأفكار والأيديولوجيات الفلسفية، التي وضعها عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني السجين في تركيا، كمنهج للحركة الكردية في كل أجزاء كردستان، وهي أفكار قائمة على الاشتراكية العلمية. ولم ينكر وجود تعاون تام بين الحزبين في مختلف المجالات وقال، «إن أهم ما يميز بيجاك عن الأحزاب الأخرى هو أن معظم أعضاء قيادته ومقاتليه وأنصاره من شريحة الشباب، وان الأعضاء من كبار السن أمثالي هم قلة قليلة جدا وبعدد أصابع اليد».

وفي طريق العودة استوقفنا مشهد مقاتل، لم يبلغ العشرين من العمر، كان يتوسط زملائه عند بوابة ربية عسكرية على قمة تلة مرتفعة على قارعة الطريق الجبلي، وهو مدجج بالسلاح ومخازن الاطلاقات وعدة قنابل يدوية، وعلى وجهه علامات الصبا والابتسامة العريضة على شفتيه، لكنه رفض الإفصاح عن اسمه وادعى انه من أهالي مدينة مهاباد بكردستان إيران، لكن لهجته الكرمانجية المطعمة بالمصطلحات والكلمات التركية أوحت بغير ذلك، وقال انه يبلغ من العمر 17 عاما فقط، وقد انضم إلى صفوف الحزب قبل أربع سنوات، وشارك في العديد من العمليات المسلحة ضد الجيش الإيراني، وتابع يقول، «انضممت إلى الحزب بعد موافقة والدي وإنهاء الدراسة المتوسطة، وغايتي من حمل السلاح هي خوض النضال من اجل تحرير الشعب الكردي ووطنه من الاحتلال وسأواصل الكفاح مهما طال الدرب، وحتى الرمق الأخير من حياتي»، مؤكدا، أن الحزب يوفر لمقاتليه كل المستلزمات اليومية الضرورية، لكنه لا يدفع لهم أي رواتب.

والملاحظة الأهم من بين سلسلة الملاحظات، التي خرجنا بها من زيارتنا لمعاقل «بيجاك»، هي أن غالبية المقاتلين الشباب الذين التقيناهم كانوا من حملة الشهادات الجامعية في مختلف التخصصات الإنسانية والعلمية، والكتب السياسية أو الثقافية أو المراجع اللغوية، خصوصا الفارسية والتركية وقلما العربية، لا تفارقهم أينما حلوا أو رحلوا.

وفي سفوح تلك الروابي والمروج الخضراء، التي تخترقها جداول المياه المنسابة من أعلى قمم الجبال، التي ما برحت معتمرة بثلوج الشتاء الكردستاني القارس، كان خضر بيروت رضا 55 عاما يسرح بما تبقى من قطيع أغنامه برفقة احد أبنائه واحد أقاربه، وقال، انه فقد العشرات من رؤوس مواشيه البالغة 600 رأس جراء عمليات القصف الإيراني المتكرر على قريته «باخي اواي» التي نزحت عنها عائلته وسكان القرية العام الماضي باتجاه بلدة قلعة دزة، وأضاف «ما برح القصف الإيراني مستمرا على قرانا، ففي الأمس (الأربعاء الماضي) وفجر اليوم الخميس عاودت المدفعية الإيرانية قصف المنطقة وألحقت أضرارا جسيمة بحقولنا الزراعية وبساتين الفاكهة وقطعان الماشية». وأوضح، أن قذيفة سقطت الأسبوع الماضي على منزل أسرة في قرية مجاورة فقتلت رضيعا عمره 18 شهرا» وقال خضر، إن أصحاب المواشي والحقول عادوا إلى القرى بمفردهم بغية المحافظة على ممتلكاتهم، وتوفير المراعي لمواشيهم ، أما عائلاتهم فلا تزال في مخيمات قرب بلدة قلعة دزة في أوضاع بائسة ومزرية، وقال انه يزور أسرته في الشهر ثلاثة أيام فقط ويتناوب مع ابنه وابن عمه رعاية مواشيه.

باختصار إذا كان الجزء الشمالي الشرقي من جبال قنديل يحتضن مملكة حزب العمال، فان جزءها الجنوبي الشرقي صار يحتضن مملكة جل سكانها من الشباب الجامعيين، الذين يحملون الكتاب بيد والبندقية بالأخرى، ويتوقع من يلتقيهم بان المستقبل سيحمل لهم وربما للمنطقة أيضا الكثير من المفاجآت .