الأميركيون يلمّعون صور الديمقراطية والمصالحة عبر الإعلام والعراقيون يعتبرونها مضيعة للأموال

جنود عراقيون يحوّلون صحفاً إلى مصدر للوقود.. وصحافيون يعتبرونها مشابهة لدعاية صدام

عراقي يعاين عشرات الصحف التي يبيعها كشك في بغداد (رويترز)
TT

تصور صحيفة «بغداد الآن»، التي تنشر باللغة العربية، العراق على أنه يشهد تحسنا ملحوظا.

وتقول الصحيفة إن الجنود العراقيين رجال الشرطة موظفون مدنيون فخورون بعملهم ويتمتعون بالكفاءة، ويبعدون أسلحتهم عن الشوارع، ويسعون بشراسة وراء المجرمين، إضافة إلى عمل العراقيين من جميع الأطياف المختلفة في صف واحد.

وتتغنى المقالات الافتتاحية في الصحيفة بالديمقراطية، كما تعرض صفحات الموضة بها أحدث صيحات الأزياء في بيروت والكويت، ولا تأتي سوى على ذكر القليل من الأنباء عن الجنود الأميركيين الموجودين في البلاد الذين تقدر أعدادهم بأكثر من 130.000. عدم وجود رئيس تحرير مشهور للصحيفة أو أسماء كتاب المقالات أو الأعمدة أو إعلانات بها ليس خطأ، بل هو جزء من حملة أميركية نفسية للتأثير في العراقيين.

ويقول زياد العجيلي، مدير مرصد الحريات الصحافية في العراق، وهو مؤسسة غير ربحية، وهو يقرأ أحد مقالات الصحيفة، «الملايين التي تنفق على هذه المطبوعة أموال تضيع سدى، فلا أحد يقرؤها».

جدير بالذكر أن المسؤولين العسكريين الأميركيين والمتعاقدين الأمنيين أنفقوا مئات الملايين من الدولارات على الإعلانات والكتيبات وحملات التلفزيون والراديو في العراق خلال السنوات الست الماضية لتلميع الصورة الأميركية، وتهميش المتطرفين وتعزيز الديمقراطية وتدعيم المصالحة الوطنية.

وكانت بعض تلك الحملات تستهدف تشجيع العراقيين على الإعراض عن الجماعات المتمردة والتعاون مع الجيش الأميركي والقوات العراقية، فيما ركزت الأخرى على تعزيز القيم الديمقراطية والمصالحة الطائفية والاعتزاز القومي. وفي دولة، كالعراق، تعطل فيه الكثير من أجهزة الدولة وساءت فيه سمعة الأجهزة الأمنية، توصل العراقيون إلى رأي حاسم بشأن ذلك الطوفان الإعلامي، وهو أنهم يعلمون أو يتوقعون أن تكون الولايات المتحدة الأميركية هي من يقف وراء تلك الحملات الإعلامية.

وقد رفض المسؤولون الأميركيون إجراء مقابلة معهم بشأن تطور وفاعلية المبادرات النفسية في وقت الحرب. وتحدث ريتشارد هولبروك المبعوث الخاص للرئيس أوباما في أفغانستان وباكستان أمام أعضاء الكونغرس مؤخرا بأن الإدارة تعمل على خطة اتصالات استراتيجية للمنطقة تقوم على استغلال الدروس المستفادة من العراق.

وقال هولبروك أمام لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية الشهر الماضي، «كانت هناك منطقة تم التقصير فيها بشكل واضح من ناحية التمويل، وسوف تتضمن خطة الاتصالات الاستراتيجية ـ الإعلام الإلكتروني والاتصالات والراديو ـ خيارات حول أفضل السبل لمواجهة الدعايات التي تعد سلاحا رئيسا في حملة التمرد».

ولا تعتبر «بغداد الآن» مطبوعة عسكرية أميركية على الرغم من اعتراف الجيش بأن الصحيفة تعد من قبل وحدة العمليات النفسية، وتوزع مجانا من قبل الجنود. وتترك كومات من الصحيفة على مدخل المنطقة الخضراء لمن يرغب في الحصول عليها.

وقد أظهرت عناوين الصحيفة في الطبعة الأخيرة منها احتراما كبيرا لقائد شرطة تمت ترقيته مؤخرا في بغداد. وقالت، إن تطبيق الاتفاقية الأمنية الجديدة بين العراق والولايات المتحدة تسير على أفضل ما يرام، وأبرزت جهود وزارة الداخلية في استئصال الفساد. وأظهر أحد إعلانات الصفحة الأولى عراقيين يمشون في مسيرة احتجاجية في أحد شوارع بغداد، وتحت الصورة كتب «القوات الأمنية تحمي حقك في التظاهر بصورة آمنة».

وفي إحدى الطبعات الأخرى نشر رسم كاريكاتيري يظهر متمرداً عابساً مشوهاً يخرج من العراق فيما يدخله لاجئ عائد.

وقال العجيلي، وهو يضحك ضحكة خافتة، «إن ذلك كله خطأ، والأفراد المسؤولون عن تلك الصحيفة ليسوا صحافيين متمرسين». وأضاف مشيرا إلى المطبوعات التي تحوي الروايات التي كان صدام حسين يرغب في تقديمها للعراقيين، «إنهم يديرون الصحيفة بذات الطريقة التي كان يدير بها النظام السابق الصحف». وأشار أحد الضباط الأميركيين في بغداد، الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه حتى يتمكن من انتقاد تلك المطبوعة بحرية، إلى أن الجنود العراقيين في نقطة التفتيش التي يعمل بها يسخرون من المطبوعة، لكنهم أكثر اهتماما بالمقالة الافتتاحية في «ستارز اند ستريبس»، وهي صحيفة وزارة الدفاع المستقلة والمجلات التي تصل إلى الجنود عير البريد.

وقال الضابط، «إنهم يقولون إنها طفولية، فصحيفة بغداد الآن تعتبر مصدر وقود جيد في نقاط التفتيش العراقية». خلال الأعوام الأولى من الحرب كانت الحملات النفسية الأميركية تختص بأهداف عسكرية محددة مثل طلب العراقيين التعاون مع الجنود عندما يقومون بتفتيش منازلهم. بيد أن الأعوام الأخيرة شهدت تغيرا، حيث أصبحت الحملات أكثر تطورا وتبنت أفكارا أشمل تتفق مع الأهداف الأميركية في تحقيق عراق مستقر وديمقراطي.

وبعد تسرب صور فضيحة الانتهاكات التي مورست بحق المعتقلين في أبو غريب ومصارعة الإرهاب الناشئ عام 2004 استأجر الجيش الأميركي شركات علاقات عامة ـ تأسس بعضها للمنافسة من أجل الفوز بتلك العقود لتحسين صورتها. وقد تعرضت إحدى تلك الشركات، أرلينغتون لينكولن غروب، لانتقادات لاذعة في عام 2005 لدفعها أموالا لصحف عراقية لنشر قصص ألفها وكتبها مسؤولون عسكريون أميركيون، وقدمت شركة الاتصالات حملات قال عنها مسؤولون عسكريون، إنها مصممة لتبدو كمبادرات عراقية أصيلة.

ويقول مسؤول البنتاغون، إن تلك الحملات تسمح لهم بمقاومة المجموعات المتمردة التي جعلت من الإعلام موقعة حربية رئيسة.

وقد دأبت المجموعات السنية والشيعية بانتظام على إنتاج شرائط فيديو تندد بالقوات الأميركية ووجودها في العراق. والدعاية التي تنتجها المجموعة التي تسمي نفسها تجمع عراق الغد قد أصبحت موجودة بشكل دائم. وتقول تلك المجموعة على موقعها على الإنترنت، إنها «منظمة غير حكومية ومستقلة ومؤلفة من عدد من الكتاب ورجال الأعمال والناشطين الذين يتشاركون اعتقادا راسخا وعاما بالحرية، والتقدم لكل العراقيين. إنهم ببساطة، «العين الساهرة على مصالح العراق». ولا يضع الموقع أي أسماء أو عناوين يمكن الاتصال بها سوى عنوان بريدي شامل. ولم تلق الرسالة البريدية التي بعثت به إلى الموقع أطلب فيها إجراء مقابلة مع القائمين على الموقع أي استجابة ورفض الجيش التعليق على علاقته بتلك المنظمة.

ويقول وميض ناظمي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، «يعتقد غالبية العراقيين أنها دعاية أميركية». وقال، إن رسالة الأمل والمصالحة السياسية حسنة النية، لكنها تنفصل عن واقع العراق.

وأضاف، «إنهم لم يتطرقوا إلى الفظائع التي ارتكبتها الشرطة المحلية أو الأفراد الذين قضوا أعواما في السجن من دون أن توجه لهم أي اتهامات رسمية».

ويشير أسعد أبو خليل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة، الذي يكتب في مدونة الغاضبون العرب، إن تلك الحملات مثار سخرية في العالم العربي. وقال، «لقد استخدموا لغة ركيكة تشبه ما كان يكتبه أخصائيو الدعاية في عهد صدام حسين، كما أن اللغة العربية المستخدمة في هذه المقالات لغة يعوزها التناسق، وواضح أنها منقولة من نصوص إنجليزية تبدو وكأن أغلبها مشتق في أحد مكاتب المؤسسات البحثية الموجودة في كيه ستريت. وما يثير الدهشة إلى حد بعيد تلك الإعلانات التي تظهر العراقيين أكثر غربية وعلمانية».

وأظهرت إحدى الحملات التلفزيونية التي أنتجت عام 2004 بعنوان «نحن باقون» رتلا من المركبات الأميركية والمروحيات تنطلق في الأفق ومجموعة صغيرة من الأطفال العراقيين يراقبونها حتى تختفي، ثم يدخلون في لحظة من الصمت والترقب يبتسمون بعدها ويعودون لمزاولة لعبة كرة القدم. وأظهر أحد الإعلانات التي عرضت هذا العام عراقيين من مناطق مختلفة يكتبون قائمة بكل الأمور التي توحدهم، وكان محتوى النشرات صورة مقسومة لوجهي رجل وامرأة وتحتها كتبت عبارة، «برغم اختلافاتنا فإن العراق يجمعنا».

وعندما سئل عشرات العراقيين عن رأيهم عن الإعلانات قالوا، إنها عقيمة. وقال عبد الكريم أحمد، المحامي في محافظة صلاح الدين، «جميع العراقيين يعلمون أن هذه المنظمات تعمل بدعم الحكومة الأميركية بهدف تطبيع الاحتلال، وأقول لمنظمة عراق الغد لو أن تلك التمويلات قدمت للفقراء والأرامل لكان العراق رائداً في مجال الرفاهية الاجتماعية، فملايين الدولارات تذهب إلى جيوب المنتفعين من الحرب، الذين يعتقدون أن النصر في العراق يمكن أن يأتي عبر وسائل الإعلام».

وتقول نور صباح، مهندسة من الفلوجة، إن أصدقاءها وزميلاتها يسخرن من تلك الإعلانات. وتضيف، «تلك الإعلانات مملة وتثير الضيق، والجميع هنا يعلمون أنها أميركية الصنع وليست عراقية في شيء».

*خدمة واشنطن بوست خاص بـ«الشرق الأوسط»