العمالة الأجنبية في العراق: السكان المحليون يفضلونها.. والعمال يشكون من أنهم كـ«العبيد»

مكاتب التشغيل تعدهم بالعمل بكردستان لكنها ترسلهم للمناطق الساخنة.. وأبو ريشة أول من استقدمهم في الأنبار

ميتو أنانتي يعمل في مخبز ببغداد (واشنطن بوست)
TT

رحل ميتو أنانتي عن وطنه الأصلي بنغلاديش في يناير (كانون الثاني) لخوض مغامرة. ومن أجل القيام بذلك، أقدم أنانتي، 29 عاماً، وهو أب لطفلين، على بيع منزله واقترض الأموال التي ادخرها اثنين من أقاربه على مدار حياتهما، وذلك من أجل جمع الـ5.000 دولار التي يطلبها سماسرة العمال. ومثلما الحال مع عدد متنام من العمال الأجانب الذين يمرون بظروف مادية عسيرة، نظر أنانتي إلى فرصة الحصول على عمل مؤقت في العراق باعتبارها بوابة فراره من براثن الفقر. لكن سرعان ما أدرك أنه تعرض للخداع، فبدلا من الحصول على وظيفة براتب 400 دولار شهرياً في الإقليم الكردي الواقع إلى الشمال من العراق ويتمتع باستقلال ذاتي، حسب ما تلقاه من وعود، انتهى به الحال بالحصول على عمل مقابل نصف هذا الراتب في أحد مخابز بغداد. واشتكى أنانتي، الذي ترك زوجته وأبناءه في الوطن، في صباح أحد الأيام القريبة، بينما عكف زملاؤه على حمل صواني الدقيق، قائلا: «المبلغ لا يكفي حتى لبطاقات الهاتف والسجائر». الملاحظ أن أعداداً من المهاجرين تدفقت على سوق العمل العراقية المنكمشة خلال الشهور الأخيرة، وجاء استقدامهم إلى البلاد على يد سماسرة عمالة غير جديرين بالثقة. وسرعان ما يصيب الكثيرين، أمثال أنانتي، شعور بخيبة الأمل إزاء إخفاقهم في ضمان عمل لائق أو، في بعض الأحيان، أي عمل على الإطلاق. في الوقت ذاته، يثير وجودهم في البلاد سخطا بين السكان المحليين، وسلسلة من الوعود الحكومية بوقف تدفق العاملين الأجانب إلى البلاد. من ناحيتهم، صرح مسؤولون عراقيون في بغداد وإقليم كردستان أنهم يبذلون جهودا أكبر في محاولة لزيادة صعوبة استغلال أصحاب العمل لتدفق العمالة الأجنبية الرخيصة الذي يبدو بلا نهاية ويتهمه الكثيرون بالتسبب في تفاقم أزمة البطالة داخل العراق ودفع الأجور نحو الانخفاض. على سبيل المثال، أعلن المتحدث الرسمي باسم وزارة العمل، عبد الله اللامي، في بيان أدلى به أخيرا، أن: «العراق سينفذ مشروعات عملاقة هذا العام وفي السنوات القادمة. لكننا لن نصدر تصاريح للشركات التي تستقدم عمالة أجنبية حتى تنتهي أزمة البطالة في العراق». في تلك الأثناء، تطالب حكومة إقليم كردستان بأن تقوم الجهات التي تستعين بعمال أجانب بتسجيلهم وتقديم 50.000 دولار كمبلغ إضافي للحيلولة دون تخلي أصحاب العمل عنهم أو الفشل في ترحيلهم عند إنجاز العمل المطلوب.

إلا أنه نظراً لافتقار التنظيمات إلى الصرامة وعدم قدرة الحكومة على توفير المال اللازم لترحيل العمال غير القانونيين، ما زال أصحاب الأعمال بمختلف أرجاء البلاد مستمرين في الاستعانة بالعمالة الأجنبية غير المكلفة. في هذا الصدد، أشار حسين عبدول، صاحب مطعم في بغداد والذي استعان أخيرا بثلاثة بنغلاديشيين، إلى أنهم: «يعملون بجد أكبر من العمال العراقيين. إذا طلبت من عامل عراقي القيام بشيء ما، يجيبك بنعم، ثم لا يفعله. أما هؤلاء فيفعلون ما تطلبه تماماً». جدير بالذكر أن العراق شكل على مدار عقود عدة جهة جاذبة للعمال الأجانب. أثناء الحرب بين العراق وإيران في الثمانينات، جرت الاستعانة بآلاف السودانيين والفلبينيين للعمل في حقول النفط والقطاعات الأخرى. في التسعينات، لم يفد الكثير من العمال الأجانب إلى البلاد، عندما تداعت الأوضاع الاقتصادية جراء العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة. لكن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003 أعاد البلاد إلى خارطة سماسرة العمالة مع استعانة المؤسسة العسكرية الأميركية وشركائها بالآلاف من مواطني دول ثالثة للاضطلاع بالوظائف الدنيا داخل القواعد العسكرية ومشروعات إعادة الإعمار. مع تحسن الأوضاع الأمنية العام الماضي في المحافظات الجنوبية والغربية التي سادها التوتر سابقا، بدأ بعض العاملين الأجانب الذين تم استقدامهم على يد مقاولين عسكريين في الدخول إلى الاقتصاد الرئيسي. من جهتهم، شرع أصحاب الأعمال العراقيون في الاحتذاء بحذو الأميركيين والتحول إلى سماسرة للعمالة لاستقدام عمالة رخيصة. من بين أوائل العراقيين الذين ساروا في هذا الاتجاه أحمد أبو ريشة، مؤسس «مجالس الصحوة»، وهي جماعات سنية مسلحة تتولى المؤسسة العسكرية الأميركية دعمها وتمويلها بهدف محاربة المتمردين. الآن، تحول أبو ريشة إلى ثقل سياسي كبير في إقليم الأنبار الغربي، وقد استعان بعشرات العمال الأجانب العام الماضي للعمل في ضيعته الفخمة. من جهته، قال محمد الريشاوي، أحد معاوني أبو ريشة، إن العاملين جرى استقدامهم من جانب وكالة مقرها دبي، وكانوا أشبه بمنحة إلهية. وبرر ذلك بأنهم: «يعملون بجد شديد»، وقارن بينهم وبين العراقيين «الذين يرفضون الاضطلاع بأعمال معينة مثل تنظيف دورات المياه والكنس». وقال جاسم الدليمي، زعيم قبلي آخر في الأنبار والذي استقدم بنغلاديشيين، إن العاملين الأجانب تمكنوا من التكيف بسرعة مع حياة الصحراء، مضيفاً أنه جعلهم يرتدون الملابس التقليدية لسكان الإقليم. وأكد الدليمي أنه ليس هناك ما يستدعي شعوره بالقلق حيال انضمام العمال الأجانب لحركة التمرد أو عملهم كجواسيس. وشرح أن من بين الميزات الإضافية وراء الاستعانة بعمال أجانب أن زعماء «مجالس الصحوة» باتوا مستهدفين من جانب المتمردين، وبالتالي أصبح جميع العاملين لديهم عرضة للخطر. وقال إنه حال تعرض أي عامل أجنبي للقتل: «لا أهتم بقدر اهتمامي حال سقوط عراقي ممن يعملون لدي قتيلا»، وذلك لأن أقارب الموظفين العراقيين القتلى يتوقعون تلقي تعويضات مالية ضخمة. من ناحية أخرى، قال أحد العاملين لدى أبو ريشة، طلب الإشارة إليه باسمه الأول فقط، تاواس، إن العمل شاق والظروف عصيبة. وأضاف تاواس، 28 عاماً: «إنهم يعاملوننا كالعبيد»، متحدثاً عن رؤسائه، الذين يشار إليهم عادة بلفظ «شيوخ». وأكد أنه: «ليس هناك ما يمكن لأي شخص فعله لمنع شيخ ما بنقل أحدنا إلى شيخ آخر، كما لو كنا مجرد خيل». في المقابل، قال رفيق إيه. تشانين، الذي يترأس مكتب المنظمة الدولية للهجرة في العراق، إن سماسرة العمالة غالباً ما يحصلون على أموال ضخمة مقدماً من العمال، الذين يجري بيعهم لاحقاً إلى سماسرة محليين. وأضاف أنه في الحالات المتطرفة يتم تضليل العمال بشأن الجهة التي سيعملون لحسابها، ونوعية الأعمال التي سيقومون بها وحجم رواتبهم. واستطرد بأنه لا يوجد ملاذ أمام العمال عندما يتضح لهم أنهم تعرضوا للخداع. وقال: «هذه صناعة عنيفة للغاية أشبه بالمافيا. ويقف أمامها الأفراد عزل دونما دفاع». وطبقاً لما قاله أصحاب العمل وتشانين فإنه في أغلبية الحالات، يحتفظ الرؤساء بجوازات سفر العمال. وفي بعض الأحيان، يتخلى السماسرة وأصحاب العمال عن العمال الأجانب في المطارات أو مواقع البناء والتشييد إذا لم تعد هناك حاجة إليهم. من ناحيتهم، يعتبر بعض العراقيين من جلب العمال الأجانب إلى بلاد تقدر معدلات البطالة بها بـ30% أمرا لا يمكن تبريره. وقد أثار هذا الأمر غضب السنة على نحو خاص، الذين يشعر الكثيرون منهم بالاضطهاد من جانب الحكومة التي يتزعمها الشيعة، وهي أكبر جهة توظيف في البلاد. على سبيل المثال، قال أوس النعيمي، رئيس المجلس الاستشاري بحي الجامعة، وهي منطقة يغلب على سكانها السنة تقع غرب بغداد، إنه اشتكى إلى المسؤولين المعنيين بفرض القانون إزاء تنامي أعداد العمال الأجانب، لكن دون جدوى. وقال إن «الحكومة ضعيفة في تولي هذه الأمور». وأضاف النعيمي أن العمال الأجانب يتسببون في دفع الرواتب نحو الانخفاض بمعدلات بلغت 50% في بعض القطاعات. في بغداد، ينام أنانتي وخمسة من زملائه البنغلاديشيين في غرفة نوم مؤقتة على سطح المخبز الذي يعملون به كان يجري استخدامها من قبل كغرفة تخزين. صباح أحد الأيام القريبة، رقد اثنان منهم على أرضية الغرفة، حيث عانى أحدهما من ألم في الأسنان، بينما أصيب الآخر بداء الإنفلونزا. وقال أنانتي: «بغداد ليست جيدة. لقد كذبوا علينا». أما رئيسهم، محمد عبد الأمير، فأوضح أنه لا يتحمل اللوم عن توقعاتهم التي لم تتحقق. وقال إنه دفع لسمسار العمالة 1.300 دولار مقابل كل منهم ويطعمهم ثلاثة مرات يومياً. وأضاف مبتسماً: «لقد بدأوا يتعلمون العمل».

* خدمة: «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»