البصرة: أطفال ونساء يبحثون في مكبات الطمر الصحي عن قوتهم اليومي

في الأحياء وعلى ضوء مشاعل احتراق غاز الشعيبة

TT

تقول كريمة هادي، 23 عاما «بدأت علاقتي بمكبات النفايات منذ الصغر، عندما كنت طفلة أرافق أمي وهي تبحث في المزابل، حتى أصبحت هي عالمي، أعيش وسط أكوامها ساعات طويلة أبحث فيها عن كل شيء يباع». لقد أصبح الباحثون في النفايات من المشاهد اليومية لمدينة البصرة، تشاهدهم في معظم الأماكن يجوبون الشوارع بأكياسهم الكبيرة الرثة. وانقسم الباحثون من أطفال ونساء في مكبات النفايات بين وجودها  مفردة بين الأحياء السكنية أو جملة في مناطق الطمر الصحي، على جانبي طريق القادسية المؤدي إلى منطقة الشعيبة، وهي على شكل تلال واضحة غير مطمورة، تبدو هيئات النسوة للناظر من بعيد، خاصة في الليل، أنهن عمال مناجم منهمكون باستخراج المعادن على ضوء مشاعل كبيرة، هي في حقيقتها مشاعل إحراق الغاز المصاحب للنفط عند استخراجه من حقول نفط الشعيبة، كما في الحقول الأخرى، يتخلص منه النفطيون حرقا، لعدم وجود تقنيات لتصنيعه. يشكل هذا المشهد ثنائية فريدة بين البحث على ما يسد الرمق من المزابل وبين حقول نفطية هائلة، تضيء مشاعل احتراق غازاتها أفاقا بعيدة. أوضحت كريمة لـ«الشرق الأوسط»، إن «مكبات نفايات الأغنياء مثلهم غنية بالبقايا، وفي الأحياء الفقيرة، إن وجدت مكبات فلا باحثون فيها، أجوبها في أحياء الجزائر والبراضعية والمناوي وأحيانا في المعقل والجنينة منذ الضياء الأول (كما يقول العسكر) كي أتناول من (رأس القدر)». وأشارت إلى أن «محتويات النفايات في الثمانينات تختلف في زمن الحصار، وهي الآن تتعافى بشكل سريع»، مؤكدة أن «الأهالي ارحم من دوائر البلدية لعدم التزامهم برمي النفايات في حاويات كبيرة كي يسهلوا عملنا». سعدية غلام، وهي امرأة منقبة تبدو من هيئتها وسرعة حركتها أنها في منتصف العقد الرابع، تفترش مساحة من الأرض الفارغة بأحد الشوارع الخلفية، التي تنسكب في شارع المطاعم وسط العشار، تصنف فيها ما جمعته خلال طوافها اليومي: علب مشروبات غازية، وقطع صغيرة من كابلوات كهرباء، وفافون، وقناني عطور وما شابه؛ كي تسوقها لبقالين كل حسب اختصاصه، ثم تتسوق بما تحصل عليه من مال لتعود إلى أطفالها الأيتام في بيتها في منطقة الحيانية الشعبية كما تقول. يعود إنشاء هذا الحي الشعبي، الذي يقطنه أكثر من ربع مليون نسمة إلى منتصف السبعينات حين وزع محمد الحياني محافظ المدينة وقتذاك قطع أراض سكنية صغيرة على أصحاب الصرائف شيدوا عليها مساكن متواضعة.

ويقول يوسف نصار (ملحن معروف) وهو واحد من سكنة الحي، إن «دخلت إلى الشوارع الفرعية في الحيانية، التي أطلق عليها فيما بعد حي الحسين بسيارتك فانك لا تحتاج إلى استعمال المنبّه، بقدر احتياجك إلى سعفة طويلة تهش فيها من أمامك خليطا من أطفال صغار وقطعان الماعز والأغنام والدجاج والبط والكلاب وحتى الحمير المستخمة في جر عربات الحمل».

وأكدت سعدية، أن «أجمل ما في النفايات تلك المواد التي ترمى سهوا، ولم تتنبه لها ربات البيوت عند تنظيف بيوتهن، ومن بينها ملاعق فضة، وساعات يدوية، وأقراط وخواتم ذهبية لأطفال، وأحيانا نقود مدفونة في محافظ، وعلب مواد غذائية غير مستخدمة». وكانت البصرة وحتى أوقات قريبة خالية من تلك المهن (الرثة)، حيث تلجا العائلات المتعففة إلى مكابس ومعامل تعليب التمور، تحصل من خلال عملها الجماعي داخل بيوتها من إخراج النوى من حبات التمر وتنضيدها في صناديق إلى ما يسد حاجاتها، لكن تلك المعامل أوصدت أبوابها بعد أن ذبحت الحروب الملايين من أشجار النخيل. وتوزعت بشكل متقارب دكاكين صغيرة خلف وبجوار علوة الأسماك في البصرة القديمة مهمتها شراء (بضاعة) نساء وأطفال النفايات، ويبدو من خلال خبرتهم في التعامل أنهم ارتقوا إلى منصب ارفع  بحكم العمر بعد أن كانوا من بين هذه الشريحة، وقال أبو علي (صاحب محل)، إن «كل واحد منهم مختص بتداول نوع من المواد يسوقها إلى معامل أو أصحاب محال بدرجة أكثر رفعة».