البرادعي: ما لدى إيران ينتج سلاحاً نووياً واحداً.. ومهمتنا مستحيلة مع سورية

دعا العرب في حوار تنشره «الشرق الأوسط» إلى عدم الوقوف على السياج مع إيران وتكرار الخطأ القاتل الذي ارتكبوه مع العراق * أكره الاعتراف بذلك.. منظمتنا مخترَقة بالتأكيد من جانب الكثير من وكالات الاستخبارات

المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي (أ ف ب)
TT

في مقابلة مطولة تنشرها «الشرق الأوسط» تحدث الدكتور محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن كل القضايا الساخنة: إيران وسورية وكوريا الشمالية، ومخاطر انتشار الأسلحة النووية ومعركة خلافته على رأس الوكالة التي سيغادرها في الخريف المقبل بعد 12 عاما في منصبه.

في المقابلة يعترف البرادعي أنه لا يتمتع بالشعبية لدى الكثير من الدول، لكنه يحظى باحترام الآخرين ويؤكد على ضرورة الاستقلالية في المنصب الذي يشغله، ويتحدث عن اختراق الكثير من وكالات الاستخبارات لمنظمته، تحدث عن الفشل في السياسة المتبعة تجاه إيران، وعن الفارق بينها وبين كوريا الشمالية، وعن الاتجاه نحو الامتلاك الافتراضي لأسلحة نووية، ومضي الدول إلى نهاية الطريق لتستمر في إطار معاهدة منع الانتشار النووي لكن مع القدرة على إنتاج الأسلحة النووية خلال شهر، وهو ما سماه «السلاح النووي الافتراضي». قال حول القضية الفلسطينية إن سوء التدبير يشترك فيه العرب والإسرائيليون، وإن الحكومات فشلت في التقدم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا متعللة بالقضية الفلسطينية. وحلها سيجعلهم عراة. قال أن إيران تريد الاعتراف بها قوة عظمى في المنطقة، مؤكدا أن لديها قرون استشعار في كل مكان بينما العرب مفتَّتون، ودعا العرب إلى المشاركة في الحوار المطروح غربيا مع إيران قائلا: «لا تكرروا الخطأ القاتل الذي ارتكبتموه في العراق، بالتصرف كأن العراق موجود في أميركا اللاتينية». وإلى نص الحوار:

* تغادر في الخريف الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد أن قضيت 12 عاما مديرا عاما لها، ولم تُحسَم بعدُ مسألة من سيخلفك في المنصب، فبعد اجتماع لمجلس محافظي الوكالة يوم الثلاثاء، عادت الأمور إلى نقطة البداية مع فشل أي من المرشحين في الحصول على أغلبية واضحة.

ـ يساورني قلق بالغ إزاء هذا الأمر. ينبغي أن يكون الشخص الذي يتولى هذا المنصب عاملا لتوحيد الصفوف. ويجب أن يتمتع بثقة كل من دول الشمال والجنوب.

* وينبغي أن يكون مستقلا للغاية عن عاصمته الأصلية، أليس كذلك؟

ـ تعد الاستقلالية عنصرا جوهريا. عن نفسي، لا أتمتع بشعبية لدى الكثير من الدول، لكن أعتقد أني أحظى باحترام الآخرين. ولا يمكن لأحد اتهامنا بالتحيز أو بالعمل بناء على أجندة خفية. إن الاستقلالية والحيادية عنصران رئيسيان تماما بالنسبة إلينا. إننا نمر عبر 50 مسودة عندما نكتب تقريرا عن إيران كي نتأكد بأقصى ما في استطاعتنا كبشر أننا موضوعيون وحياديون ونستقي كل كلمة نقولها من الحقائق. ليس لدينا جيش، ولا حكومة، وتُعتبر مصداقيتنا جوهر قوتنا. إن الاستقلالية هي العنصر المحوري بالنسبة إلى المدير العام القادم، وإلا سيصبح الجميع خاسرين. ولأن القضايا كافة التي تتناولها الوكالة تتطلب التعاون الدولي المطلق، ينبغي أن يحظى من يتولى هذا المنصب بثقة الشمال والجنوب، وللأسف بين الجانبين حالة من انعدام الثقة في الوقت الراهن. كما نحتاج إلى شخص إداري، قادر على إدارة أفراد من مائة جنسية وثقافة مختلفة. إنها منظمة ـ أكره الاعتراف بذلك ـ مخترَقة بالتأكيد من جانب الكثير من وكالات الاستخبارات.

* حدث هذا الأمر لك شخصيا، حيث كان يجري التنصت على هواتفك من جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

ـ بما في ذلك أنا شخصيا. إنني لا أتولى إدارة شركة «كوكا كولا». عبر الإدارة، يتعين عليك إدارة ليس فقط الكفاءة والفعالية، وإنما كذلك الموضوعية. وتتعين الاستعانة بمدير لديه خلفية سياسية كي يتمكن من فهم كل هذا، وأن يتحلى بالاستقلالية والقدرة على توحيد الصفوف، ويملك في نهاية الأمر الشجاعة الكافية للتمسك بموقفه. إنني أتعرض لضغوط على نحو يوميّ، وعلى من يتقلد هذا المنصب أن يكون قادرا على قول: «لا، اغرب عني!»، لكن لا يمكن قول هذا إلا إذا كنت على ثقة من أن ما تفعله هو الصواب. أتمنى أن نعثر على الشخص المناسب قريبا. إن الأمر لا يتعلق بالوكالة فحسب، وإنما بتأثير ذلك على السلام والأمن والتنمية. ينبغي أن تقف الحكومات صفا واحدا وتتفق على مرشح واحد بالإجماع.

* ما التحدي الأكبر أمام المسؤول الذي سيخلفك؟ وكيف تغير دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية مقارنة بما كان عليه الحال منذ 12 عاما ماضية عندما توليت إدارتها؟

ـ أمامنا عدد من التحديات التي تبدلت أبعادها، لكن يبقى هناك دوما تحديان رئيسيان:

أولهما الأمن ونمط الأمن العالمي الذي ينبغي أن نحظى به. تعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية جزءا من كيفية إعادة صياغتنا لنظام أمني جديد بعد نهاية الحرب الباردة. بعد انتهاء الحرب الباردة، راودنا جميعا الأمل في ضرورة أن نحظى بعالم مختلف، يقوم على المساواة والأمن والإنسانية المشتركة. لكن شيئا لم يتحقق من ذلك. للأسف، فشلنا وأهدرنا عدة فرص. وما نراه الآن عالم ممزق ومنقسم على نفسه، يعج بالحروب الأهلية والحروب بين الدول، مثل العراق وأفغانستان مع تفاقم الراديكالية.

لقد تخلصنا من هذا الكابوس الهائل المتمثل في المواجهة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، لكن حل محله الكثير من المواقف التي يهيمن عليها غياب الأمن، وانعدام الأمن الإقليمي، بمناطق تمتد بين الشرق الأوسط وشرق آسيا وجنوب شرق آسيا، بل وحتى داخل أميركا اللاتينية، تتنوع ما بين الحروب والإرهاب وما إلى ذلك.

وعلينا دراسة ما يمكننا فعله لتحسين هذا الوضع، خصوصا داخل المنطقة التي نشعر تجاهها بالقلق الأكبر، وإمكانية أن تسيطر بعض الجماعات المتطرفة على مواد نووية أو إشعاعية. بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شهدنا تناميا في تعقيد التكتيكات الإرهابية، والجماعات المتطرفة، ونعلم أنهم كانوا يسعون وراء مصادر إشعاعية ومواد نووية. وأجروا بعض الأبحاث والجهود في هذا الشأن، ونعلم أنهم إذا تمكنوا من الوصول إلى هذه الأسلحة لن يترددوا في استخدامها. في ما يخص الأسلحة النووية المملوكة لدول، تتوافر مفاهيم الردع وتعلم هذه الدول أن على المرء أن يكون مجنونا كي يقدم على استخدامها، ذلك أنه حال القيام بذلك سيكون الرد السحق الكامل. إلا أن هذا لا يشكل جزءا من آيديولوجية الجماعات المتطرفة القائمة على مجرد استخدام أي أسلحة متوافرة لتغيير العالم على النحو المتوافق مع آيديولوجيتهم المشوهة.

في ما يتعلق بقضية الإرهاب النووي التي فرضت نفسها عام 2001، ما زال هناك الكثير من العمل ينبغي القيام به، من جانبنا ومن قِبل باقي أعضاء المجتمع الدولي. وتعد تلك مهمة لم يتم إنجازها بعد. ولا يمكننا الجلوس دون حراك، ذلك أننا نخوض سباقا مع الزمن. في الواقع، أشعر بالدهشة إزاء عدم استحواذ الجماعات المتطرفة على مصدر إشعاعي حتى الآن، بغرض تصنيع ما يطلق عليه قنبلة قذرة. والمعروف أن الآلاف والآلاف من المصادر الإشعاعية تتوافر بكل مكان، وقد لا تقتل مئات أو آلاف الأفراد، لكنها تخلق رعبا هائلا، علاوة على تداعياتها الاقتصادية. وينتابنا قلق بالغ حيال تفجير أداة لنشر مادة نشطة إشعاعيا، أو مثلما نطلق عليها، قنبلة قذرة، وسط مركز حضري، مثل مانهاتن أو لندن.

* ألا يزال من اليسير الحصول على مثل هذه المواد؟

ـ نعلم أنه لا يزال هناك الكثير من المواد النووية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي لا تخضع لقدر مناسب من الحماية. وليس لدينا بعد ما نطلق عليه «المعيار الذهبي»، الذي يشير إلى تمتع المواد النووية كافة بقدر ملائم من الحماية.

وقد أثارت هذه النقطة اهتمامنا على نحو خاص بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث أفقنا بعد هذه الهجمات للأسف على احتمالية وقوع أعمال إرهابية نووية. قبل ذلك، كنا نشعر بالقلق حيال السلامة النووية، وضرورة تجنب وقوع حادث تشرنوبل جديد، وهي قضية مهمة دوما هنا في النمسا. وستبقى السلامة النووية قضية كبرى، لكننا على هذا الصعيد نجحنا بصورة أكبر في إقرار معايير السلامة. إلا أن المستوى العام لم يصبح نموذجيا بعد، فلم يزل لدينا مفاعلات قديمة عاملة، وكيانات تنظيمية ضعيفة داخل دول معينة، لكن ذلك لا ينفي أن المستوى العام للسلامة شهد تحسنا هائلا.

* وماذا عن منع الانتشار النووي على مستوى الدول؟ ماذا كانت التطورات الكبرى خلال فترة رئاستك للوكالة؟

ـ بطبيعة الحال، يعد هذا دورنا التقليدي القديم. لقد شهدنا بذل بعض الجهود على مر السنوات في محاولة لتطوير أسلحة نووية، ورأينا ذلك في ليبيا والعراق. والمخاوف حيال إقدام العراق على إحياء برنامجه لصنع الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل وكيف انتهى ذلك بتدمير العراق تماما. وما نزال نشعر بالقلق حيال إيران، أما كوريا الشمالية فقد انتقلت من سيئ إلى أسوأ. على هذا الصعيد، لا نزال في وضع غير جيد على الإطلاق.

وقد شهدنا كذلك ظاهرة جديدة، وهي إقدام دول لا تملك أسلحة نووية على الذهاب إلى آخر الطريق دون أن تمتلك سلاحا نوويا.

* لكن هل تعد تلك حقا ظاهرة جديدة؟ أليس أمامنا عدد من الدول تسير على هذا النهج؟

ـ إنها ليست بالجديدة، لكن إيران دفعتها إلى السطح ـ فكرة أن تبقى ملتزما بالقوانين وجزء من معاهدة حظر الانتشار النووي، لكن الجميع يدركون أنك يمكنك صنع أسلحة نووية ربما في غضون شهر واحد. وتلك ظاهرة جديدة يمكن أن تنتشر. لقد أثارت إيران الإدراك بهذا الأمر. بطبيعة الحال، لدينا عدد من الدول مثل اليابان والبرازيل والأرجنتين تتمتع بالتقنية اللازمة، لكنها لم تثر قلقا كبيرا. لكن بالنظر إلى هذا الموقف الذي خلقته إيران داخل الشرق الأوسط، وهي منطقة تعمها فوضى شاملة، بات القلق يساور الناس من أن ذلك قد يمثل مؤشرا لموجة جديدة من الانتشار النووي يقوم على فكرة أنه بدلا من بناء برنامج صريح لصنع الأسلحة النووية، يصبح لدى دولة ما برنامج أسلحة نووية افتراضي، حسب وصفي له.

* ما السر وراء رغبة بعض الدول في ترك التساؤلات حول ما إذا كانت تبني أسلحة نووية أم لا دون حسم؟

ـ مُنينا بإخفاق كامل على صعيد نزع التسليح النووي. ويغفل الناس تماما أنه عام 1970، عندما قمنا بصياغة معاهدة حظر الانتشار النووي، دارت الفكرة الرئيسة حول وضع حد أقصى على عدد الدول المسلحة نوويا ـ وكانت خمسا في ذلك الوقت ـ وأن تلزم هذه الدول نفسها بنزع التسليح النووي مقابل تعهد باقي الدول بعدم إنتاج أسلحة نووية. وكانت الفكرة الرئيسة أن الأسلحة النووية تشكل تهديدا أكثر منها عامل ضمان. كان هذا الوضع قائما عام 1970. لكن بعد مرور 35 عاما، لا يزال لدينا 27 ألف رأس حربي، ولم تزل لدينا أسلحة تم نشرها خلال فترات التوتر في الحرب الباردة، ما يعني أن الولايات المتحدة أمامها نصف ساعة أو ساعة واحدة فقط للرد على هجوم نووي تم الإبلاغ عنه، وقد يكون نتاجا لخطأ ارتكبه حاسب آلي أو هجوم غير مصرح به من دولة معينة. من الممكن أن نستيقظ صباح أحد الأيام لنجد أن نصف العالم قد تلاشى! ما زلنا في موقف جنوني من المنظور الأمني. ولا شك أن هذا يخلف تأثيرا بالغا على الدول غير المسلحة نوويا. ويخلق هذا الوضع شعورا بالتشكك. كيف يمكن أن تخبرني أن «الأسلحة النووية خطيرة وليست في صالحك»، بينما تقول في الوقت ذاته إن «العالم خطير، ولا نزال نعمل على تحسين بل وتطوير أنظمة جديدة للأسلحة النووية»؟ هذا وضع لا يمكن الإبقاء عليه.

وعند النظر إلى الشرق الأوسط، نجد أن إسرائيل تملك برنامجا نوويا تؤكد أنها لن تتخلى عنه في أي وقت قريب إلا حال إقرار سلام شامل. وقد خلق ذلك شعورا بالعجز وغياب المساواة والإذلال داخل الشرق الأوسط. ويعد هذا واحدا من التحديات الكبرى التي أجابهها. لا أحد داخل العالم المسلم يتفهم، أو يقدر، أو يقبل استمرارنا في إجراء تحقيقات بشأن إيران وسورية والعراق، والتساؤل الوحيد الذي أواجهه: «ماذا عن إسرائيل؟» و«لماذا لا تذهب إلى إسرائيل؟».

‌* وتكون الإجابة أن: إسرائيل ليست عضوا بمعاهدة حظر الانتشار النووي.

ـ نعم، بالطبع، إذا كنت أتحدث عن الجانب القانوني، فإنها ليست عضوا في معاهدة حظر الانتشار النووي. لكن بالنسبة إلى الشخص العادي، لا يبدو هذا الأمر منطقيا. وإنما يرى وضعا تجري فيه ممارسة معايير مزدوجة. ورغم أن نظام منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط لا يزال قانونيا، فإنه فقد شرعيته في أعين الشعوب. وكما تعلم، هناك اختلاف بين أن يكون أمر ما قانونيا وأن يكون شرعيا. ويعد هذا تحديا كبيرا نجابهه وعلينا تناوله.

* نزع التسليح والشرق الأوسط وإيران: تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتركيز على هذه القضايا. هل ترى من أمل؟

ـ لحسن الحظ، شهدنا هذا التغيير في الفترة الأخيرة بمجيء باراك أوباما إلى السلطة. وقد منحني هذا للمرة الأولى بصيص من الأمل حول أن مهمتنا ليست بالدائرة المفرغة التي يتعذر الخروج منها. ومن المستحيل الإبقاء على نظام امتلاك بعض الدول أسلحة نووية دون غيرها. في الواقع، يتآكل هذا النظام بسبب الدول الجديدة التي تعمل على تنمية هذه القدرة الافتراضية.

صراحةً، لقد باتت هذه المهمة أشبه بمهمة مستحيلة. نحن، باعتبارنا الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لا نتمتع بسلطة قانونية كافية. بعد تجربة العراق في مطلع التسعينات، قمنا بصياغة بروتوكول إضافي يمنحنا مزيدا من السلطات القانونية. لكن لا يزال أمامنا مائة دولة لم تنضم إلى البروتوكول، لا إيران فقط. ويعد هذا نتاجا للشكوك السائدة: فلماذا يتعين عليهم تقييد أنفسهم بينما لا تفعل الدول المسلحة نوويا أي شيء؟ وندرك، من جانبنا، أن مجلس الأمن لا يساندنا معظم الوقت، حيث يقر قرارات لا يجري الالتزام بها في أغلب الوقت، علاوة على أننا نواجه الإرهاب الجديد.

من جانبي، مضيت قدما في الحديث عن هذا الأمر، على الصعيدين العلني والخاص، وتعرضت للاتهام بتمادي الحدود المرسومة لي، الأمر الذي أراه سخيفا، لأنني أجلس هنا وأكنّ الولاء لوظيفتي، ويتحتم عليّ تحذير المجتمع الدولي والحكومات والمجتمع المدني من الخطر القائم أمامهم، وتقديم النصح لهم حيال ما ينبغي فعله، مع علمي أن القرار في نهاية الأمر يعود إليهم.

إلا أن باراك أوباما اضطلع بهذه المهمة نيابة عني. وأتفق مع ما قاله عن الالتزام بنزع التسليح النووي وربطه بين نزع التسليح ومنع الانتشار النووي.

* هل يعني ذلك وجود أمل جديد في مستقبل معاهدة حظر الانتشار النووي؟

ـ بالتأكيد، لأنه قال إننا نفتقر إلى السلطة الأخلاقية، إذا ما تصرفنا على نحو ما وطلبنا من الآخرين التصرف على نحو مغاير. ومن بين التصريحات الأخرى التي أطلقها أوباما وشكلت أهمية جوهرية كبرى من وجهة نظري ربطه بين الفقر والعنف وغياب الأمن. وقد عاينت هذا الأمر طوال الوقت. إن انتشار الأسلحة النووية لا يحدث في النرويج أو جمهورية التشيك، وإنما يحدث داخل الأقاليم التي تعاني من الفقر والقمع الداخلي من جانب الحكومات، وحيث يدور صراع إقليمي منذ عقود مثل القضية الفلسطينية أو الصراع داخل شبه الجزيرة الكورية أو كشمير. إذا كنت فقيرا وتتعرض للقمع من قِبل حكومتك...

انظر إلى الشرق الأوسط، على سبيل المثال، حيث تشعر الشعوب كافة دونما استثناء بالقمع، لا التمكين. ويساورها شعور باليأس وانعدام الحيلة والتعرض للظلم من جانب العالم الخارجي، وذلك لأنهم يستيقظون صباحا وما يرونه على شاشات التلفزيون هو قمع الفلسطينيين وقتل العراقيين والأفغان والصراع في الصومال. ومن السهل عليهم الاعتقاد بوجود مؤامرة ضد العالمين المسلم والعربي. وعندما تجمع ذلك مع الفقر والشعور بالإذلال والظلم، فإن تلك هي الصيغة المثلى لخلق الراديكالية التي نعانيها اليوم. من جانبي، حذرت دوما من أن القضية الكبرى أمامنا هي التحول التدريجي إلى الجانب الراديكالي داخل الشرق الأوسط في الوقت الراهن. والملاحَظ أن من يطلق عليهم معتدلون في انحسار لعجزهم عن تحقيق الوعود التي أعلنوها.

وينقلني هذا إلى ما كنا نحاول فعله هنا داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية والربط بين التنمية والأمن. إننا لسنا جهة رقابية فحسب، ولا نساند القوة النووية. ولم نخبر أي دولة قط أن عليها استخدام القوة النووية، فهذا قرار سيادي. لكن إذا ما أقدمت دولة ما على السير في هذا الاتجاه، ينبغي أن نوجَد لضمان سلامة المواد النووية وأمنها، وأنها لا تتعرض لسوء استغلال لأهداف غير سلمية. لكن نصف جهودنا ترتبط بمجالات العلاج بالإشعاع من مرض السرطان، وضمان نظافة البيئة والهواء من الملوثات. وهذا ما أطلق عليه دور الرعاية الأبوية. ويرتبط نصف عملنا بنشاط تنموي، بينما يرتبط النصف الآخر بعمل تنظيمي. ومن وجهة نظري، بدا واضحا دوما أنه من المتعذر الفصل بين الاثنين.

وقد قلت مرارا إن الفقر هو منشأ أسلحة الدمار الشامل. وأشعر بالسعادة حيال وجود هذه البيئة الجديدة التي تشرع خلالها الولايات المتحدة الآن في النظر ليس إلى الأعراض فقط، وإنما كذلك الأسباب الجذرية. لماذا تتحول الدول والأفراد إلى التوجهات الراديكالية؟ ولماذا يسعون وراء أسلحة الدمار الشامل؟ إن هذا الأمر ليس ناشئا عن فراغ، وإنما له أسباب جذرية، وتجاهل هذه الأسباب لا يساعد على تحسن الموقف. آمل أن تكلل جهود أوباما بالنجاح، ونصيحتي التي أقدمها لكل من ألقاه داخل وخارج الولايات المتحدة هي: ساعدوه على النجاح، وأظهروا للشعب الأميركي وللعالم أن سياسته ناجحة. وإلا حال عدم القيام بذلك، ستتخذ الأمور منحى مغايرا وسنشهد صعود أشخاص آخرين مثل تشيني (نائب الرئيس الأميركي السابق) يقولون إن علينا تعذيب الأفراد كي نحمي أنفسنا. إن العالم الذي نعجز عن حماية أنفسنا فيه دون التعذيب ليس العالم الذي أرغب في العيش فيه أو ترك أبنائي به.

يشكل أوباما ظاهرة في حد ذاته فريدة من نوعها، فهو ينتمي إلى بيئة اجتماعية شديدة التواضع، وبيئة عرقية عانت الكثير من التمييز، علاوة على كونه مسيحيا ذا خلفية مسلمة. لقد ترعرع أوباما في ثلاث قارات، ويتفهم المعاناة والظلم والشعور بالتمييز الذي يعانيه الفقراء، ومن يتعرضون لمعاملة مجحفة، داخل الولايات المتحدة وفي مختلف أرجاء العالم. والملاحظ أن أوباما يركز أنظاره على الصورة الكبرى، على مفاهيم تكاد تتعرض للنسيان: الإنصاف والمساواة والعدالة. وعليه، يحاول استعادة البوصلة الأخلاقية داخل هذا العالم، الذي فقد رؤيته وقدرته على اتخاذ التوجه الصحيح والقيادة المناسبة.

* أعلن أوباما أن الولايات المتحدة سوف تقدم المزيد من الإسهامات إلى ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فماذا يمكنه أن يفعل لتقوية دور الوكالة كمؤسسة مسؤولة عن وقف الانتشار النووي وضماناته؟ وهي في بعض الأحيان تحت التهديد ويوجد فقدان للثقة. فعلى سبيل المثال، تولت إسرائيل قضية الاشتباه في مفاعل نووي سوري بنفسها وقامت بقصفه؟

ـ كما قلت، يوجد الكثير من التشكك. ويعود ذلك إلى حد ما إلى ضعف القانون الدولي. فعندما قصفت إسرائيل المنشأة السورية، أيا كانت، يوجد عدد قليل للغاية ممن عارض أو أعرب عن قلقه من وجود انتهاك واضح للقانون الدولي، وكنت واحدا منهم، وسويسرا أيضا. ولكن لم تعارضه أي دولة في الاتحاد الأوروبي. وإذا كنت تريد المصداقية، إذا كنت تريد الحديث عن إيران وعن كوريا الشمالية وقواعد القانون الدولي ومنع الانتشار النووي، فلا يمكنك أن تنتقي وتختار. بل يجب أن تطبق المعايير ذاتها على جميع المواقف سواء كانت مع عدوك أو صديقك. ويمثل ذلك جزءا من تآكل نظام الحكم على المستوى العالمي، والذي كان دائما ما يجد دعما إلى حد ما على الأقل من قواعد معينة في القانون الدولي، الذي أصابه الضعف أيضا. وإذا رأيت أحدا يشير إلى القانون الدولي، فقد أصبح ذلك رفاهية، فجميع الأحاديث التي تدور حاليا تتعلق بالمصلحة المباشرة.

* ولكن أكد التقرير الذي كتبته عن سورية الأسبوع الماضي أن هناك مسائل مفتوحة على سورية أن توضحها. وبالنسبة إلى البعض، قد يؤيد ذلك قرار إسرائيل.

ـ إذا كانت هناك مخاوف بالفعل من انتشار السلاح النووي، فقد كانت إسرائيل والأميركيون في ذلك الوقت يمتلكون المعلومات لمدة عام واحتفظوا بها لمدة ستة أشهر بعد القصف. وقد حصلنا عليها بعد القصف بستة أشهر فقط. وإذا كانوا مهتمين كان يجب عليهم أن يأتوا إلينا. وكنا سنصدر قولا قاطعا فيما إذا كان ذلك مفاعلا أو غير ذلك بالذهاب إلى هناك. وفي الوقت الحالي، نحن مكلفون بمهمة مستحيلة: محاولة التأكد من صحة ما كان موجودا. وهذه الطريقة لا تصلح. إذا كانت لديك مؤسسة، استعِن بها. ولكنهم لم يستعينوا بها. إنهم يجلسون خارج النظام ككل، ولكنهم يحاولون تحقيق الاستفادة القصوى منه. وهم لا يفهمون أنهم بامتلاك برنامج نووي فإنه لا يشكل تهديدا. حسنا، إذا ذهبت إلى أي مكان في العالم العربي أو الإسلامي فستجد أنهم ينظرون إلى الأمر نظرة مختلفة، فهم يرون أنه يشكل تهديدا لهم.

* هل أنت متفائل بشأن جهود أوباما لتحقيق السلام في الشرق الأوسط؟

ـ طوال حياتي، كانت القضية الفلسطينية دائما تتحول من سيئ إلى أسوأ. وعندما أقيمت دولة إسرائيل عام 1948 وأعلن قرار التقسيم، لم تكن الخطة في ذلك الوقت تشبه ما نراه على أرض الواقع في شيء. لقد كان من المفترض أن تكون هناك دولة فلسطينية على 44 في المائة من الأرض، وحاليا أصبحت المساحة الفلسطينية 20 في المائة. وكان من المفترض أن تكون القدس كيانا مستقلا بذاته، وكان هناك حق للفلسطينيين في العودة، بل وفي عام 1967 كان هناك شرط بعدم الاستحواذ على الأرض بالقوة. وما نراه حاليا هو تحلل لجميع العناصر.

* ولكن إذا عدنا بالتاريخ، هل كان من العرب إسهام قوي في هذه الفوضى؟

ـ بالطبع، كان هناك سوء تدبير من الجانبين، لا شك في ذلك. فأساء العرب وأساء الإسرائيليون تدبير الأمر. والمهم فعلا الآن هو أن ننسى كل ذلك، ولنبدأ ونسعَ إلى حل يشعر الجميع أنه عادل ومنصف. وفي هذا السياق علينا أن نخلّص الشرق الأوسط بأسره من أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية. ولكن ذلك يتطلب وجود قيادة. ولا يمكنك أن تفعل ذلك على طريقة إدارة بوش في الأشهر الثلاثة الأخيرة قبل مغادرتها. وأنا سعيد لأن أوباما بدأ منذ اليوم الأول في التركيز على تلك القضية، وفي اختيار شخص مميز للغاية هو جورج ميتشيل ليكون مبعوثه هناك. لقد أوضح أوباما أنه سيركز عليها. فهي تمثل راية خطر في المنطقة: وما دامت القضية الفلسطينية لم تُحَلّ، فستستمر راية الخطر عالية تقول: نحن مضطهَدون ومُهانون ونلقى معاملة غير عادلة.

وبالطبع كما تعرف، استغلت الحكومات ذلك، والحُكّام. وهم يبررون طغيانهم، وفشلهم في التقدم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، متعللين بالقضية الفلسطينية. وسيجعلهم حل القضية الفلسطينية عراة. وحينها سيكون عليهم أن يواجهوا شعوبهم وأن يتقدموا أو يغادروا. ومنذ عامين، بدأ الملك عبد الله عاهل السعودية خطابه أمام القمة العربية في الرياض بقوله: «نحن جميعا، الأنظمة العربية، فقدنا مصداقيتنا». وقابلته بعدها وهنّأته على صراحته. هذا هو الوضع: انقسام تام بين الشعوب والحكومات. لذا نحتاج إلى البداية على مستويات مختلفة. القضية الفلسطينية إحداها، وتمثل الديمقراطية مستوى آخر. ولكن الديمقراطية ليست مثل القهوة سريعة التحضير. إنك لن تحققها بين عشية وضحاها. في أوروبا استغرق تحقيق الديمقراطية 200 عام، وكذلك في الولايات المتحدة، فهي تستغرق وقتا، وبالطبع لا يمكن فرضها، بل يجب أن تأتي من الداخل. ولكن علينا أن نبدأ، والطريق الوحيد للتقدم نحو الديمقراطية يمر عبر التنمية ووجود طبقة وسطى والتعليم والرخاء. فالشعب المتعلم الذي ينعم بالصحة والثراء هو الذي سيطالب بحقوقه المدنية. وبدلا من مجرد الحديث عن الديمقراطية، لا بد من الاستثمار في التنمية والتعليم والصحة، ولا بد من معرفة أنها قد تستغرق جيلا أو اثنين. ولكن هذا هو السبيل إليها.

* وفي ما يتعلق بإيران، هل ترى أي فرصة للتفاوض والوصول إلى حل؟

ـ كانت السياسة تجاه إيران سياسة فاشلة على مدار الأعوام الستة الماضية. وكان الافتراض الأساسي في البداية الذي وضعه الغرب عموما، وخصوصا المهتمين بالأمر وعلى رأسهم الولايات المتحدة، بأنه لا يجب على إيران حتى المعرفة، كان افتراضا فاشلا. وعلى الرغم من أنه منذ عدة أعوام كان الأوروبيون في مفاوضات مع إيران، كانت الولايات المتحدة معارضة لذلك، وتحاول في الحقيقة عرقلة الأمر. وفي الأعوام القليلة الأخيرة فقط، قررت الولايات المتحدة الدخول في المفاوضات. ولكنها قررت أن تدخلها بشروط مسبقة، بأن طلبت من إيران في بداية المفاوضات أن تفعل ما يجب أن يكون عادة، في ظل الظروف العادية، نتيجة المفاوضات، وهو وقف تخصيب اليورانيوم أو بعض الترتيبات.

ويوجد لدى الوكالة الكثير من المسائل مع إيران يجب توضيحها. وبالطبع نحتاج إلى البروتوكول الإضافي لأننا نحتاج إلى الذهاب إلى المزيد من الأماكن والحصول على المزيد من المعلومات. ويجب أن تكون إيران أيضا صريحة ومتعاونة في حل تلك القضايا البارزة، على سبيل المثال، مسألة الدراسات السابقة عن التسلح. ولكن بصراحة، في عام 2005، لم نر برنامج تسليح مستمرا، ولم نر أي إشارة إلى وجوده. وفي ذلك الوقت تعرضت لهجوم واتهمت بفقدان المصداقية. ثم تغيرت الرواية الأميركية، فقد توقفوا عن الحديث عن أسلحة نووية، وأصبحوا يتحدثون عن محاولة إيران للحصول على القدرة على امتلاكها، ويقصد بها التخصيب. ثم جاء تقييم الاستخبارات الأميركية بأنهم أجروا بعض «الدراسات»، لا الحصول على معدات بل مجرد دراسات، وأنهم وقفوها عام 2003. واستمرت اللغة في التغير بالطبع ليقولوا إن الإيرانيين يحاولون الحصول على المقدرة التي قد يستخدمونها في المستقبل. ومنذ فترة خرجت بعض التصريحات من هيلاري كلينتون تقول فيها: «لا ندري من نصدق لأن لدينا تقارير مختلفة». ومنذ يومين قرأت تصريحا آخر لها، أحترمه، حيث تقول فيه: «نحتاج إلى الجلوس مع الإيرانيين لمعرفة ما هم بصدده، وما يهدفون إليه».

لذا لا يوجد من لديه فكرة واضحة غير أن إيران تسعى إلى التكنولوجيا. وحاليا عاد الأميركيون إلى حيث كنا. نعم، إنهم يطورون تكنولوجيا التخصيب. ولا ندري إن كان هناك برنامج تسليح، ونريد أن نستوضح الأمور. ووفقا لما نراه اليوم، فهم لا يمثلون تهديدا وشيكا في الغد، ولن نستيقظ غدا لنجدهم يمتلكون سلاحا نوويا. وحتى في أسوأ الحالات ـ إذا طردونا وتركوا معاهدة منع الانتشار النووي ـ نعرف أن ما يملكونه لا يزيد على أن يسمح لهم بصناعة سلاح نووي واحد، ولا يوجد أحد يملك ترسانة مكونة من سلاح نووي واحد.

* ولكنهم يمتلكون ما يمتلكون الآن، بالإضافة إلى التكنولوجيا؟

ـ لذلك أقول إن السياسة فشلت، لأن السياسة كانت تقول إنه لا يجب عليهم أن يمتلكوا المعرفة، وهو ما أسميه مزيجا من الغطرسة والجهل. وسأظل أكرر ذلك. لا يمكنك أن نطلب من دولة أن لا تمتلك المعرفة. وفي الوقت الحالي يمتلكون المعرفة وجزءا من القدرة الصناعية أيضا، ويوجد لديهم من 5 إلى 6 آلاف جهاز طرد مركزي قيد التشغيل.

وكان واضحا لي طوال تلك الفترة أن الطريق الوحيد هو الجلوس معا وعرض جميع شكاواهم على مدار الأعوام الخمسين الماضية على طاولة المفاوضات. ويسعدني أن أوباما ذكر ذلك تحديدا في خطابه في القاهرة، قائلا إنها تعود إلى عام 1953 عندما أطاحت الولايات المتحدة بمصدق ومرورا بأزمة الرهائن وحتى اليوم. وكان من الواضح أن عليك الجلوس معهم، فلا يمكنك فرض شروط مسبقة، وعليك التعامل معهم باحترام. وأنت تعرف أن علم النفس يمثل 50 في المائة من أي حل ويمثل الموضوع ذاته 50 في المائة. وعندما شاهدت أوباما يقول: «إننا مستعدون للجلوس مع الإيرانيين في حوار مباشر دون شروط مسبقة ووفقا للاحترام المتبادل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، وكان أول من ذكر إيران باسمها الرسمي، أدركت أن هناك بيئة جديدة، وهذا منحني كثيرا من الأمل. إنها سياسة المنطق السليم، وكانت على الهامش لمدة ستة أعوام. لذلك لديّ آمال كثيرة. ولكن تحتاج إيران أن تتعامل بالمثل. وقد قلت للإيرانيين: «الآن حان دوركم لإظهار بادرة على حسن النية. فلتتعاونوا بصورة أفضل معنا، وتطبقوا البروتوكول الإضافي؛ يمكنكم أن تفعلوا الكثير لبناء الثقة»، وأعتقد أن إيران ستتحرك. وكان أحد الاقتراحات التي تقدمت بها منذ فترة: «دعونا نخفف وطأة الأمور بوقف مقابل وقفٍ»، أي وقف التوسع في برنامج التخصيب ووقف العقوبات. لنضع شروطا تفضي إلى المفاوضات. وسأكرر ذلك في مجلس المحافظين، لأننا حينها لن نتفاوض تحت ضغط، ولن نتفاوض وإيران تبني قدرتها النووية، ولن نتفاوض وإيران تشعر بأنها تحت وطأة عقوبات إضافية.

وفي رأيي لن تستغرق المفاوضات أقل من عامين أو ثلاثة. ولن يتحدثوا فقط عن البرنامج النووي. فالبرنامج النووي أحد أعراض فقدان الأمن في الشرق الأوسط، وأحد أعراض المنافسة على القوة. ذلك هو جوهر الأمر، صراع القوة والآيديولوجية بين إيران والولايات المتحدة. وهما متعارضتان تماما آيديولوجيًّا، وعليهما أن يجلسا معا وأن يقررا ما الخطوط الحمراء، ومن يمكنه فعل ماذا، وما هو مقبول وما هو غير مقبول. ويجب أن تقدم إيران بدورها تعهدات بأن برنامجها سلمي. وتحتاج إيران أيضا إلى صيغة لحفظ ماء الوجه، فلا يمكنهم أن يخرجوا الآن ليقولوا للناس إنهم تخلوا تماما عن برنامجهم النووي. وهم يحتاجون أيضا إلى تعهدات أمنية وإلى تعهدات بحصولهم على تكنولوجيا نووية.

ومن العدل أن أقول إن العرض الثاني الذي قدمه الأميركيون والأوروبيون كريم جدا، فهو جيد، ولكن بسبب فقدان الثقة وعدم وجود منتدى لمناقشته، لم يتحرك الاقتراح. ولكني أعتقد أن هناك احتمالا جيدا في أنه إذا طبّق الجانبان منهج المنطق السليم، فسنحصل على خطة إيرانية يكون لها تأثير كبير، كما قلت، على الشرق الأوسط بأسره، فسيكون لها تأثير إيجابي على أفغانستان وباكستان وسورية ولبنان وعلى القضية الفلسطينية وبالطبع على العراق. ويجب أن يكون هناك نقاش حول حقوق الإنسان، ودعم الجماعات المتطرفة والكثير من القضايا الأخرى. وتريد إيران في النهاية أن يتم الاعتراف بها كقوة عظمى في الشرق الأوسط، وهي قوة عظمى في الشرق الأوسط في الوقت الحالي.

* بمساعدة الرئيس بوش وكل هؤلاء الذين أرادوا حرب العراق؟

ـ بعد أن ذهب صدام حسين وبعد الإطاحة بطالبان، على الأقل مؤقتا، توجد قرون استشعار لإيران في كل مكان، بينما على جانب آخر يقف العالم العربي مفتتا تماما. إن معارك بعضهم مع بعض أكثر من معاركهم مع الإسرائيليين، ويوجد انعدام للثقة والسلطة، ولا توجد تنمية اقتصادية سليمة في الكثير من مناطق العالم العربي. ويجب أيضا أن يعرفوا أن عليهم أن يكونوا مشاركين في ذلك الحوار. ومثل ما يحدث في الموقف الكوري، الدول المجاورة هي التي تتأثر، اليابان وكوريا الجنوبية. وأظل أقول للعرب: «لا يمكنكم أن تقفوا على السياج، بل عليكم المشاركة، لأن أية تسوية ستؤثر عليكم. لا يجب أن تكرروا الخطأ القاتل الذي ارتكبتموه في العراق، بالتصرف كأن العراق موجود في أميركا اللاتينية». وحتى إذا كانت الحرب خطأ تاما، لو كانوا أظهروا وجها عربيا في القضية، أو وجها مسلما في محاولة للوصول إلى تسوية سياسية، لكان الموقف اختلف، ولما كنا فقدنا مليون عراقي. ويجب أن يكون المحور العربي الإسرائيلي جزءا من تلك الخطة. يجب أن يدعمها تلقائيا تسوية للقضية الإسرائيلية الفلسطينية. وبعد مائة عام من إراقة الدماء وفِقدان الثقة في الشرق الأوسط، نحتاج إلى نظام أمني كبير للتأكد من أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح.

* أعتقد أن نتائج الانتخابات في إيران لا تحدث اختلافات كبيرة على الموقف الكلي الذي تصفه، لكن الرئيس محمود أحمدي نجاد فاقم المشكلة دون شك بتهديداته لإسرائيل؟

ـ أطلق نجاد العديد من التصريحات الاستفزازية التي أُسيءَ تفسير بعضها، وأعتقد أنه لم يتحدث عن محو إسرائيل من الخريطة، بل تحدث عن دولة واحدة للجميع، تلك التي تحدث عنها ياسر عرفات من قبل والتي كتب عنها هانا آردنت. بيد أنه كان تصريحا صدر في توقيت خطأ، إضافة إلى قضية الهولوكوست. وما الفارق إذا كان عدد من قتلوا ستة أو خمسة أو نصف مليون؟ لقد كانت فاجعة وشيئا مريعا. على أي حال ليس الرئيس الإيراني من يقرر ذلك.

هناك صورة مغلوطة عن إيران، لكنها مجتمع نابض بالحياة وأحد أكثر المجتمعات تقدما في مجال العلوم والتكنولوجيا وهناك الكثير من المفكرين. إضافة إلى أن 75% من الإيرانيين هم من الشباب الذين يرغبون في إقامة علاقات طبيعية مع الغرب والولايات المتحدة. على عكس العالم العربي الذي يعتري غالبيته حالة من الغضب تجاه الولايات المتحدة في حين أن قيادتها صديقة للولايات المتحدة، بينما العكس في إيران. يتحدث القادة عن موقف عدائي في حين يتخذ الشباب موقفا صديقا وهو ما يشكل أحد الأسباب التي تجعلني متفائلا تجاه إيران. وكل قائد في إيران يرغب في أن يكون القائد الذي عقد هذه الاتفاقية الكبرى، ليكون بطلا قوميا. وهناك أمل كبير إذا ما قمنا بالأمر بالطريقة الصحيحة.

تلعب الوكالة دورا صغيرا لكنه هام جدا الآن وفي المستقبل، إذا ما ساعدتنا إيران بالكشف عن برنامجها النووي وتمكنت من تقديم الضمانات بأن برنامجها لأغراض السلمية. لكننا يجب أن نتلقى دعما عبر الحوار السياسي الذي لم يمثل قضية حتى الآن.

* تعرضت لانتقادات لكونك سياسيا بدرجة كبيرة. أليست الوكالة منظمة تقنية بالدرجة الأولى؟

ـ لا يمكن فصل التقنية عن السياسة. هناك الكثير من التصريحات هنا بأن الوكالة منظمة تقنية. حسنا، إذا كان الأمر كذلك وجب عليك أن تأتي وتجلس هنا ليوم واحد لتدرك أن 90% من عملي سياسي تماما. نحن نعمل على قضايا تقنية، لكن كل قضية تقنية نعمل عليها لها الكثير من التداعيات السياسية ونحن نتعامل مع 150 دولة، اثنتان منها تنظران إلى الأمور من نفس المنظور، وهناك الكثير من الرؤى المتصارعة. لذا علينا أن نفهم أننا نتعامل مع تكنولوجيا، لكن التكنولوجيا لديها الكثير لتقوم به في قضايا السلام والأمن، ونتيجة لذلك فإن الوكالة تلعب دورا سياسيا.

كان علينا أن نتوجه إلى مجلس الأمن عام 2003 ونصرخ بأننا لم نر أي برنامج نووي عراقي. لسوء الحظ لم يستمع إلينا أحد، وقد رأينا النتيجة الآن، فكل صباح أستيقظ وأفكر في العراقيين الذين قُتلوا أو الذين شُوّهوا والملايين الأربعة الذين هُجّروا من العراق، فواحد من بين أربعة عراقيين دُمرت حياته نتيجة لما قاله أوباما بصورة لطيفة، حرب اختيار. لقد كانت حربا لا يجب أن تقع.

لذا عندما نجلس هنا فكل كلمة نقولها نعلم مدلولاتها السياسية وأن لها تأثيرا كبيرا على السلام والأمن. وإذا ما نظرت إلى الأمن النووي فسترى أن واجبي يقتضي أن أحميك وأحمي عائلتي، وإذا ما رأيت أي مفاعل نووي لا يعمل على أعلى مستوى من الأمان يجب علي أن أدق ناقوس الخطر وتلك مسألة سياسية للغاية. يجب عليّ أن أحشد الرأي العام والأمن بطبيعة الحال، كما يجب عليّ أن أظل يقظا قدر الإمكان تجاه المجموعات المتطرفة خشية أن تضع أيديها على المواد النووية.

هناك كثير من الدول تطمح إلى امتلاك برامج قوى نووية، وقد جاءنا ما يقرب من 50 دولة تبدي اهتماما بامتلاك الطاقة النووية، والكثير منها لا توجد لديها بنية تحتية، ولذا يجب على أن أقلل من توقعاتهم قائلا: يمكنك الحصول عليها لكن ذلك سيستغرق وقتا على الأقل ولن أتمكن من منحكم الضوء الأخضر قبل بناء قدراتكم لأن ذلك الأمر لا يتعلق بالكهرباء بالنسبة إليك بل يمكن أن يكون لها تأثير كبير على جيرانك.

لذا نقدم تعاونا تقنيا: إن قلبي يدمى في بعض الأحيان حين أذهب إلى تلك الدول. كنت في غانا ورأيت أننا سلّمنا جهاز العلاج الإشعاعي الثاني لدولة عدد سكانها 20 مليون نسمة إضافة إلى 4 دول مجاورة يأتي أفرادها إلى غانا لاستخدام تلك الآلات. وفي النمسا هناك جهاز واحد لكل 250.000 شخص. وعندما ترى هذه المواقف... وعندما زرت القاهرة، مسقط رأسي، في الآونة الأخيرة، وشاهدت العشوائيات هناك وكيف يعيش الناس... هناك مثل عربي يقول: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». يجب علينا أن نتأكد أن العالم يعيش في سلام وبكرامة، وإن لم نتمكن من القيام بذلك فقد فشلنا.

* تأمل في أن يحدث تطور على المدى البعيد في ما يتعلق بإيران، فماذا عن كوريا الشمالية؟

ـ تمضي كوريا الشمالية من سيئ إلى أسوأ، وقد كان تصرفا سيئا أن تم وقف الحوار. كانت تعمل خلال فترة كلينتون عبر الإطار المتفق عليه، وبعد ذلك وقفت إدارة بوش الحوار بصورة كلية واتهمتهم بانتهاك الإطار المتفق عليه. وكان لدى كوريا الشمالية نقطة تميز وحيدة هي المقتدرات النووية، وتحولت من إنتاج البلوتونيوم إلى تطوير الأسلحة النووية. وعليه، فإننا نتعامل في الوقت الحالي مع وضع متدهور كثيرا عما كان في الماضي، نتعامل مع كوريا الشمالية منذ عدة أعوام ودائما ما كنت أقول إن كوريا الشمالية نموذج للطريقة التي يجب أن لا نستخدمها في التعامل مع قضايا الحد من انتشار (الأسلحة النووية). ولكن، في الكثير من الصور نجد أن كوريا الشمالية ليست مختلفة عن إيران. تحتاج إلى الحوار، ويجب ضمان الأمن، وتحتاج إلى مساعدات اقتصادية وإنسانية. الوضع مريع، كنت هناك قبل عام. وبالطبع يجب أن يعودوا إلى اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية. وكما أقول في جميع المواقف: الحوار والاحترام المتبادل وتفهُّم ما هو ممكن وبناء الثقة هي عناصر مشتركة نحتاجها في أي نزاع سياسي، وفي هذه القضية تحديدا. وقد كانت هذه الاتجاهات غائبة على الأقل خلال العقد الماضي.

* أليس اختلافا كبيرا عن إيران أن النظام الحاكم في كوريا الشمالية يبدو هشّا جدا، وهو ما يمكن أن يجعله أكثر خطورة بدرجة كبيرة؟

ـ جزء من المشكلة بالطبع أن هناك توريثا في الوقت الحالي، وهناك نزاع داخلي بخصوص ذلك. والوضع في إيران مختلف، فإيران لديها تأثير كبير في منطقتها. وبالنسبة إلى كوريا فإنها مسألة بقاء النظام. وعلينا أن نقبل أنه يمكن أن لا نرضى عن النظام، ولكن علينا أن نعطيه الفرصة للتقدم الطبيعي مثلما تقدم الكثير من دولنا. وإذا كان لديك هدف كبير بصورة غيرة واقعية ينتهي بك المطاف إلى وضع متدهور جدا. ولكني أعتقد أن ذلك يمكن أن يحدث في كوريا الشمالية ولكن إذا تعاملنا معها بهذه الطريقة.

* د. البرادعي، سوف تتقاعد خلال أشهر قليلة، هل لديك خطط بخصوص مستقبلك الشخصي؟

ـ لا أعرف ما سوف أقوم به تحديدا، وأنا مستمتع بفكرة أنني لا أعلم ذلك. وما أعلمه هو أنه من المحتمل أن أكون في فيينا لمعظم الوقت، حيث أحب هذا المكان، على الأقل من أجل الفن المعاصر والموسيقي... لدينا منزل في جنوب غرب فرنسا ومنزل في القاهرة، وسوف نتنقل بين هذه الأماكن الثلاثة. ولدي بالطبع الكثير من العروض للتدريس، وأود أن أكتب كتابا عن كيف يمكن أن ننفذ الأشياء بطريقة أفضل. وما أعرفه هو أنني سوف أستمر في الإدلاء بتصريحات علنية، بصوت مرتفع وواضح وأكثر حرية بخصوص بعض القضايا التي ناقشناها اليوم، لأنني أعتقد أنني مدين بذلك لنفسي وللجيل القادم كي نترك العالم أفضل مما تركه لنا آباؤنا. أتيت إلى فيينا في عام 1984، أي منذ 25 عاما. وفيينا وطن لي. وقد تناقشت مع زوجتي كثيرا عن المكان الذي يجب أن نستقر فيه، وفي النهاية قلنا إن فينا هي وطننا في الكثير من النواحي، ففيها أفضل مقهى بالنسبة إليّ، وفيها أفضل أركسترا بالنسبة إليّ وأفضل متحف. في وقتنا، أفضل شيء هو أن نبقي على بعض أصولنا.

* خدمة «نيويورك تايمز»