أحفاد «ثورة الزنج» في البصرة يخوضون المعترك السياسي في الانتخابات البرلمانية

بعد أن غابت أصواتهم أكثر من 11 قرنا

رجال من ذوي البشرة السمراء يغنون ويرقصون في مناسبة بالبصرة («الشرق الأوسط»)
TT

اختفت أصوات العراقيين من أصول أفريقية منذ اندحار ثورة الزنج عام 270 هجرية في البصرة  وحتى بروز باراك أوباما أخيرا على المسرح السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، الذي كان دافعا لهم بتوحيد صفوفهم في حركة سياسية تستعد لطرح برنامجها في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ولم يتخل ذوو البشرة السوداء في محافظة البصرة عن طقوسهم وفنونهم وعاداتهم الأفريقية على الرغم من مرور عقود طويلة على هجرة أجدادهم من موطنهم الأصلي في القارة السمراء. ففي حفلة عرس شهدتها منطقة البصرة القديمة وسط المدينة، الخميس الماضي، كانت الراقصة التي وضعت طوقا على رأسها تؤدي حركاتها الرشيقة على إيقاعات الطبول والمزامير، فيما يتربصها، وسط حلقة المحتفلين، زنجي لم يرتد غير قطعة قماش في وسطه مغطاة بالقش حاملا رمحا طويلا، يحاول تمريره من وسط الطوق، كالمشهد المعروف في فيلم الرسالة، عند اختيار الزنجي «وحشي» لقتل حمزة عم الرسول، صلى الله عليه وسلم، في معركة أُحد، قال عريف الحفل «إن هذه الرقصة لم نستعيرها من الفيلم، إنما أخذها مخرج الفيلم من تراث أجدادنا». يقدّر المعنيون بهم تعدادهم في البصرة بما يقارب الـ350 ألف نسمة، معظمهم يشتغل بصيد الأسماك والفرق الفنية والأعمال الخاصة، لم يبرز منهم في الوظائف العامة إلا نزر قليل، راضون بكفاف العيش، وإن حصلت عائلة منهم مبلغا من المال تقوم بإنفاقه ببذخ حد التبذير إلى أن ينتهي كي تعود إلى استقرارها المعتاد، يحبون الطرب والسلطنة وامتازت مجالسهم بالطرافة وطيبة المعشر. ويرى الدكتور عبد الكريم عبود، أستاذ المسرح بكلية الفنون الجميلة بجامعة البصرة، وهو واحد منهم، عدم شعوره بوجود فوارق على أساس اللون في البصرة، بدليل أنه تولى عمادة الكلية مدة عامين من دون اعتراض من أحد، وبالتالي لا داعي لخوض الانتخابات القادمة في قائمة مفردة بهم وترك «السود» يعبرون عن آرائهم السياسية بحرية وشفافية، مؤكدا لـ«الشرق الأوسط» أن المؤرخين لم ينصفوا أبناء جلدته «حين ربطوا وجودهم بالبصرة بثورة الزنج (255 – 270 هجرية بقيادة علي بن محمد) وقالوا إنهم جلبوا من أفريقا لحفر الأنهار وإزالة الصبخ من الأراضي الزراعية، في حين تؤكد الكثير من الوثائق أن بعضهم دخل البصرة كمقاتلين أشداء في كتائب جيش الصحابي عتبة بن غزوان مؤسس المدينة، وتفاعلوا مع الحياة العامة وأبدعوا في فنونها وآدابها من أمثال الجاحظ وغيرة».

الدكتورة السمراء، ثورة يوسف، تخالف رأي زميلها في الكلية وتقول «صحيح ليس هناك فوارق في اللون بالقوانين العراقية، لكن تلك التفرقة واضحة في الأعراف الاجتماعية، ومن بينها عدم المصاهرة، وبعضهم ما زال يطلق كلمة (العبيد) عليهم، والأطفال في المدارس يعانون من سواد بشرتهم بين زملائهم الآخرين». وقد أعلن ذوو البشرة السمراء تأسيس «حركة العراقيين الحرة»، التي طالبت بالمساواة وإعادة حقوقهم وسن القوانين التي تمنحهم المزيد من الحريات والانعتاق من الظلم الاجتماعي الذي يتعرضون له. وقال عبد الحسين عبد الرزاق، أمين عام الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، إن الحركة «تحاول استقطابهم للحصول على حيز في العملية السياسية خلال الانتخابات البرلمانية القادمة، التي من المؤمل فيها أن يدلي ما يقارب من مليون أسود بأصواتهم للقائمة الانتخابية». وأضاف «مثلما لفت أوباما أنظار العالم إلى حصول السود بفوزه على كامل حرياتهم، نسعى ومن هذا المنظار إلى اهتمام السلطات العراقية بآلاف السود الفقراء الذين ما زالوا يعانون من التفرقة العنصرية». ومن بين أحفاد ثورة الزنج، علي عبود علي (عازف)، الذي قال «إن السوّد يشكلون شريحة اجتماعية واضحة المعالم في البصرة، وقد حافظوا على موروثهم الفولكلوري وبالمسميات الأفريقية ومنها معزوفات (بيب وانكروكا وجونباسا والليوة والنوبان)، وتختلف هذه المعزوفات عن بعضها حسب مشاركة الآلات الموسيقية فيها، وهي عبارة عن إيقاعات تصنع من مقاطع من سيقان الأشجار بعد تجويفها، حيث يتم تغليف بعضها من الطرفين والبعض الآخر من طرف واحد بجلود الحيوانات. ومن أشهر هذه الآلات (امصوندو وكيكانكا ووباتو والصرناي)». وأشار إلى أن «معظم المعزوفات يصاحبها أداء منشدين يرافقهم راقصون من كلا الجنسين، وبعضهم يرتدي أحزمة حاوية على أغلفة أطراف النعاج اليابسة التي تمنح المعزومة نغمة لحنية مضافة من خلال ارتطامها ببعضها أثناء حركة المرتدي لها». ويضيف علي أن من أبرز الموروث الشعبي لهم هو استمرار وجود  (المكايد) وهي الأماكن التي يخصصها أصحابها لأداء طقوس احتفالية تعزف فيها موسيقى الدفوف والطبول بعد تطويعهم لنصوص الأغاني مع ألحانهم الموروثة، خاصة في المناسبات الدينية وفي ذكرى الأموات، وهي أشبة ما تكون بجلسات الزار في مصر والذكر والمناقب النبوية في بغداد والمناطق الغربية، وكذلك في مناسبات الأفراح، ومن أشهر العوائل التي لديها مكايد وما زالت مستمرة في البصرة القديمة عائلة (انيكا)، نسبة إلى نوع من الغناء الأفريقي، ومكيد المشراق ومكيد أبو ناظم ومكيد سعيد منصور ومكيد اميك. وأضاف «ضم البارزون منهم إلى فرقة البصرة للفنون الشعبية عند أول تأسيسها عام 1975 بصفة عازفين على آلاتهم الأفريقية وراقصين، وما زالوا يعملون في الفرقة حتى الآن».