الكلمات الأخيرة لندا بعد الرصاصة: إنني أحترق

أصدقاء وأقارب ومدرسها للموسيقى: لم تكن ناشطة سياسية لكن نتائج الانتخابات أغضبتها

إيرانيون يرفعون أعلاما وصورا لبعض ضحايا المظاهرات الاحتجاجية بطهران من بينهم ندا.. وذلك في أثناء مظاهرة خارج مبنى الاتحاد الفيدرالي في لوس أنجليس (أ.ف.ب)
TT

جاءت المعلومة الأولى من الخارج، حيث اتصلت عمة غولشاد التي تقيم بالولايات المتحدة يوم السبت وشددت بصوت غلب عليه الذعر: «لا تخرجي إلى الشوارع، غولشاد. إنهم يقتلون الناس». ومضت العمة في وصف مقطع مصور جرى بثه على إحدى القنوات التلفزيونية الإيرانية في الخارج والمحظورة داخل إيران. ويظهر في المقطع صورة شابة إيرانية تنزف حتى الموت بينما يصرخ رفيقها: «نِدا! نِدا!». وشعرت غولشاد، التي طلبت عدم ذكر اسمها الحقيقي، بانقباض في صدرها. وشرعت في الاتصال بالهاتف الجوال وتليفون المنزل الخاص بصديقتها نِدا أغا سلطان ـ التي خرجت في مسيرة الاحتجاجات مع مجموعة من أصدقائها ـ لكن نِدا لم تجب. في منتصف الليل، وفي الوقت الذي استمرت ألسنة الدخان في التصاعد من المدينة، قادت غولشاد سيارتها باتجاه منزل ندا أغا سلطان بالجزء الشرقي من العاصمة طهران. وعندما نمت إلى مسامعها أصوات البكاء والنحيب والتسبيح باسم الله قادمة من المنزل، أدركت أن مخاوفها كانت صائبة. حينئذ، صرخت غولشاد، 25 عاما: «ندا! ندا! ماذا سأفعل؟» كانت ندا أغا سلطان، 26 عاما، قد أصيبت بطلق ناري أدى إلى مقتلها مساء السبت بالقرب من مسرح المصادمات التي وقعت بين ميليشيات موالية للحكومة ومتظاهرين يقولون إنه حدث تزوير على نطاق واسع في نتائج الانتخابات التي أتت بمحمود أحمدي نجاد رئيسا للبلاد لفترة ولاية ثانية. وكان من شأن المقطع المصور لندا أثناء نزفها في الشارع تحويلها إلى رمز دولي لحركة المظاهرات التي اشتعلت في أعقاب الانتخابات التي عقدت في 12 يونيو (حزيران). وانتشرت صور اللحظات الأخيرة لها على نطاق واسع على مواقع الشبكات الاجتماعية، وجرى بثها بمختلف أرجاء العالم عبر قنوات الكابل وتم تعليقها على لافتات كبيرة في شوارع طهران. بالنسبة لمن عرفوا وأحبوا ندا أغا سلطان، كانت أكبر بكثير من كونها رمز، ذلك أنها كانت الابنة والأخت والصديقة وعاشقة الموسيقى والسفر، وقبل ذلك كانت شابة جميلة في ريعان شبابها. قال مدرس الموسيقى الخاص بها وأحد أصدقائها المقربين، حامد باناهي، الذي كان بين جموع المعزين داخل منزل أسرتها يوم الأحد، في انتظار دوره لإلقاء كلمة عنها: «كانت شخصا مفعما بالمرح. كانت شعاع ضياء. أشعر بأسف بالغ. كانت لدي آمال عريضة بشأنها». من ناحية أخرى، حثت قوات الأمن أصدقاءها وأسرتها على عدم عقد مراسم تأبين لها بأي مسجد وطلبوا منهم عدم الحديث علانية عنها، حسبما قال أفراد على صلة بالأسرة. بل وطلبت السلطات من الأسرة إزالة رايات الحداد السوداء القائمة أمام المنزل، لإدراكها الرمز القوي الذي باتت تمثله ندا. إلا أن البعض أصر على الحديث علانية عنها، آملين في العمل على ضمان عدم نسيان العالم لها. ولدت ندا أغا سلطان في طهران لوالد يعمل في الحكومة وأم ربة منزل. تحظى الأسرة بدخل متوسط، شأنها في ذلك شأن باقي أسر الطبقة الوسطى الناشئة الذين بنوا حياتهم داخل الأحياء المتنامية بسرعة على الأطراف الشرقية والغربية للمدينة. مثلما الحال مع كثيرين من أبناء ضاحيتها، كانت ندا أغا سلطان موالية للجذور الإسلامية لبلادها وقيمها التقليدية، لكنها شعرت بالفضول كذلك تجاه العالم الخارجي، الذي كان من السهل التعرف عليه عبر قنوات القمر الصناعي التلفزيونية وشبكة الإنترنت والرحلات من وقت لآخر إلى الخارج. جاءت ندا في الترتيب الثاني من بين ثلاثة أبناء، ودرست الفلسفة الإسلامية بفرع جامعة آزاد في طهران حتى قررت العمل بمجال السياحة. وبالفعل، تلقت دروسا خاصة للعمل مرشدة سياحية، بينها دورات في اللغة التركية، على أمل توليها في يوم من الأيام قيادة مجموعات من الإيرانيين في رحلات إلى الخارج، حسبما قال أصدقاؤها. أبدت ندا ميلا شديدا للسفر، وتمكنت هي وأصدقاؤها من ادخار مال كاف للقيام بجولات في دبي وتركيا وتايلاند. ومنذ شهرين، في رحلة لها إلى تركيا، استلقت على شواطئ مدينة أنطاليا المطلة على البحر المتوسط. علاوة على ذلك، عشقت ندا الموسيقى، خاصة الموسيقى الشعبية الفارسية، وكانت تتلقى دروسا في عزف البيانو، حسب قول باناهي وأصدقاء آخرين. وأضافوا أنها كانت مطربة بارعة. وأكدوا أنها لم تكن ناشطة سياسية قط، وأنها بدأت في المشاركة في المظاهرات الحاشدة فقط بسبب غضبها العارم من نتائج الانتخابات. وأوضحت غولشاد أن والديها وآخرين نصحوا ندا بعدم الخروج في مسيرة يوم السبت لما ينطوي عليه ذلك من خطورة. جدير بالذكر أن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي حذر يوم الجمعة خلال خطبته الأسبوعية من أن المتظاهرين يتحملون مسؤولية أي أعمال عنف تقع. حتى غولشاد حرصت على الابتعاد عن المظاهرات. وفي الثالثة والنصف مساء، تحدثت الصديقتان. قالت غولشاد وصوتها يعلو بالبكاء: (قلت لها «ندا، لا تذهبي»). وأضافت: (أجابتني: «لا تقلقي. إنها رصاصة واحدة وينتهي الأمر»). وأشار أصدقاؤها إلى أنها وباناهي واثنين آخرين علقوا في المرور في شارع كاريغار، شرق ميدان آزادي (الحرية) بطهران، في طريقهم للمشاركة في المظاهرة، وذلك في وقت ما بعد السادسة والنصف. وبعد أن نزلوا من السيارة للحصول على بعض الهواء النقي ومحاولة مد أبصارهم إلى ما بعد حشد السيارات، سمع باناهي صوت فرقعة. وفي طرفة عين، أدرك أن ندا انهارت على الأرض. وقال باناهي: «علقنا في زحمة المرور وخرجنا لنتفرج، ومن دون أن تلقي حجرا أو أي شيء آخر أطلقوا عليها النار». تدفقت الدماء من الجانب الأيمن من صدرها، ثم بدأت في التدفق من فمها وأنفها بينما امتلأت رئتيها. وذكر باناهي كلماتها الأخيرة: «إنني أحترق، إنني أحترق!» على إثر ذلك، تجمع حولها الأشخاص القريبون. وقال باناهي إن أحد الأطباء حاول إسعافها، ونصح بأن يضع راحة يديها مكان الجرح ويضغط عليه. وجاء سائق من الاتجاه المعاكس وحث الحشد على وضعها في سيارته. أعقب ذلك بحث محموم عن مستشفى. واتخذوا منعطف خطأ أفضى بهم إلى نهاية مسدودة، ونقلوا جسدها المنهك إلى سيارة أخرى. على امتداد الطريق، صرخ المتظاهرون وآخرون في السائقين لإفساح الطريق داخل المرور المتشابك. وعلق باناهي على الأمر بقوله: «هذا الأمر جريمة لا صلة لها بتأييد الحكومة. إنها جريمة ضد الإنسانية». على الجانب الآخر، نفت السلطات الإيرانية بشدة استخدام الشرطة القوة المميتة في قمع المظاهرات. من جهته، بدأ مكتب النائب العام تحقيقا في مقتل «عدة أشخاص» يوم السبت، وألقي القبض على «إرهابي مسلح»، حسبما ورد بموقع «برس تي في» الإيراني على شبكة الإنترنت. يذكر أن 13 شخصا على الأقل لقوا مصرعهم في إطار أعمال الشغب التي وقعت يوم السبت. من ناحيته، قال رئيس شرطة طهران عزيز الله رجب زاده، طبقا لما أوردته «برس تي في»، إن: «رجال الشرطة غير مصرح لهم باستخدام الأسلحة ضد الأفراد. إنهم مدربون على استخدام أداوت مكافحة الشغب فقط لإبقاء الناس بعيدا عن الأذى». وألمحت الحكومة إلى أن موالين لحركة «مجاهدي خلق» المنفية والمحظورة ربما يتحملون مسؤولية أعمال القتل. إلا أن أفراد أسرة ندا وأصدقاؤها يشتبهون في أن القوات شبه العسكرية الموالية للحكومة، الباسيج أو «أنصار حزب الله»، ربما يكونون متورطين في القتل. وقال باناهي إن شهود عيان في مسرح الحادث أشاروا إلى أن من أطلق الرصاص لم يكن يرتدي زي ضباط الشرطة، وإنما كان بين مجموعة من مسؤولي الأمن أو رجال الميليشيات ترتدي ملابس عادية وتجوب المنطقة. على الجانب الآخر، يوم الأحد، تدفق الأصدقاء والأقارب على منزل ندا وهم ينتحبون. وتصاعد من الشقة صوت مستمر للنحيب والعويل. من جهتها، أكدت غولشاد أن صديقتها: «ماتت وهي مفعمة بالحب». وتكدس الأقارب والأصدقاء داخل شاحنات صغيرة باتجاه مقبرة بيهيشت في طهران، حيث دفنت ندا. وانتاب أحباءها غضب عارم من أوامر السلطات بعدم تأبينها أو الإطراء عليها بصوت مرتفع والحداد على فقدانها. لكن في الوقت ذاته انتابهم قدر بالغ من الخوف والذهول جعلهم عاجزين عن معارضة هذه الأوامر علانية، فيما عدا باناهي، الذي قال إنه لم يعد لديه ما يخسره. وأضاف: «إنهم يعلمون من أنا، وأين أقطن. ويمكنهم المجيء إلي وحملي إلى أي مكان يرغبونه. لقد مضى وقتي. علينا أن نفكر بأمر الشباب». وعن ندا، أكد أنها كانت ذكية ومحبوبة، وكان لديها ميل للمزاح وتدبير مكائد لطيفة ضد أصدقائها تبعثهم على الضحك. وكانت تكن حماسا كبيرا تجاه الحياة ولم تضمر شرا لأي شخص. وخلال الاضطرابات التي أعقبت الانتخابات، اكتشف أصدقاؤها فيها جرأة غير متوقعة، واستعدادا لخوض المخاطر دفاعا عما تؤمن به. واستطرد باناهي موضحا أنها: «عجزت عن الوقوف ساكنة حيال كل هذا الظلم. كل ما أرادته الفرز الملائم لأصوات الشعب». وأضاف: «في سعيها وراء أهدافها، لم تستخدم الحجارة أو الهراوات. وإنما رغبت من خلال وجودها قول: «أنا هنا. أنا أيضا أدليت بصوتي. ولم يتم حساب صوتي» لقد كان ذلك اعتراضا سلميا للغاية، من دون أدنى شائبة عنف». وأكد أن الشخص أو الأشخاص المسؤولين عن مقتلها لن يغفر لهم ما فعلوا. وشدد على أنه: «عندما يقتلون طفلا بريئا، فإن هذا ليس عدلا. وليس من الدين في شيء. وليس هذا بالأمر المقبول بأي صورة. وأنا على ثقة من أن من قتلها لن يغفر له الله».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»