إيراني يروي محنته في سجن «إيفين» طيلة أسبوع بعد الاضطرابات

اعتُقل ضمن المئات.. وأحد المحققين سأله: لمن صوّت؟

TT

لوح الشاب بمسدس باتجاه الناشر، وأعلن بينما كان يصوب سلاحه في وجوه السجناء، الذين كانوا يؤكدون براءتهم ويرفعون أصواتهم بالشكوى من المعاملة التي يتعرضون لها: «أنا قاضيكم». واستطرد قائلا: «إذا صرختم مجددا فبإمكاني إطلاق النار عليكم. إذا كانت لديكم الشجاعة الكافية للخروج إلى الشوارع للتظاهر فينبغي أن تتحلوا بالشجاعة هنا أيضا». وعليه، لم يملك الناشر سوى التساؤل داخله: «أي نوع من القضاة يحمل مسدسا بيديه؟».

دعا المرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، جانبي الخلاف حول نتيجة الانتخابات الرئاسية التي عقدت في 12 يونيو (حزيران) لتهدئة أنصارهم من الشباب، إلا أنه في الوقت الذي تسلح أنصار المرشح المهزوم مير حسين موسوي بالحجارة ورسائل البريد الإلكتروني، وجد أنصار الرئيس الحالي المتشدد، محمود أحمدي نجاد، الأدوات الخشنة التي تملكها الدولة في متناول أيديهم.

طلب الناشر متوسط العمر، الذي تعرض للسجن في إطار حملة إجراءات صارمة تعرض لها المنشقون ومثيرو الشغب المزعومون، عدم الإفصاح عن هويته خوفا من التعرض للعقاب. ورغم تأييده موسوي نفى الناشر الإيراني المشاركة في أية تظاهرات. ويتوافق ما أدلى به في حديث أجرته معه الصحيفة يوم الأحد عن الأسبوع الذي قضاه قيد الحجز مع شهادات محتجزين آخرين، أطلق سراح الكثيرين منهم. إلا أن آخرين، بينهم المحلل السياسي بيجان خاجبور، الذي ألقي القبض عليه لدى عودته من زيارة لبريطانيا، والإصلاحي سعيد حجاريان، الذي يضطر إلى الانتقال بكرسي متحرك منذ تعرضه لحادث محاولة اغتيال عام 2000، ما زالوا في السجن.

وأعرب توم بورتيوس، مسؤول منظمة «هيومان رايتس ووتش» في لندن، عن اعتقاده بأنه «لم تتوافر قط فترة طيبة بالنسبة إلى حقوق الإنسان في إيران، لكن حجم الإجراءات التي جرى اتخاذها استجابة للتظاهرات المنددة بنتائج الانتخابات تفوق أي شيء عايناه في السنوات الأخيرة. يساورنا قلق بالغ حيال إمكانية تعرض من ألقي القبض عليهم لسوء المعاملة». يذكر أن المنظمة عملت على جمع أسماء أكثر من 300 شخص من المقبوض عليهم.

كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف مساء يوم 20 يونيو (حزيران)، وهو اليوم الذي عصفت أعمال الشغب بطهران، عندما قرع أفراد الشرطة بقوة على أبواب دار النشر الواقعة في الجهة المقابلة لجامعة طهران. كان الناشر، الذي وافق على الإشارة إليه بالحرف الأول من اسمه فقط «م»، وزملاؤه يعكفون على عملهم المعتاد.

من الخارج ارتفع صوت أحد أفراد الشرطة: «افتح الباب! شرطة أمنية!». بالفعل فتح الناشر الباب لثلاثة من ضباط الأمن، كانوا يرتدون خوذات ويمسكون هراوات، وسرعان ما شرع ضباط الأمن في ضرب سيقان الناشر وزملائه بالهراوات. وأعلن أحدهم: «كنتم تصورون المشاهد الدائرة في الشوارع... من شرفتكم».

وعليه، عرض الناشر على ضباط الأمن تفحص هاتفه النقال وهواتف معاونيه، وتوسل إليهم قائلا: «انظروا إليها. إننا لم نقترف أي خطأ». ومع ذلك أصر الضباط على احتجازهم، وأخبرهم أحد الضباط بأن: «قائدنا لديه شريط مصور لكل من التقطوا صورا وصور جميع المتظاهرين. إذا لم تظهر وجوهكم بها فسيطلق سراحكم على الفور».

إلا أنه بدلا من ذلك تعرضوا للحبس داخل زنزانة تحت الأرض قرب ميدان «انقلاب» في طهران، ثم تم نقلهم إلى مركز شرطة آخر بجنوب العاصمة. وهناك تكدس الناشر وما يقرب من 200 آخرين داخل ساحة، وأجبروا على الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة دون طعام أو مكان للراحة، حسبما قال الناشر، وقضوا قرابة 36 ساعة على هذه الحال. وكانت تلك الفترة التي أتى فيها الشاب الذي يلوح بالمسدس.

بعد تهديده السجناء سلم إليهم أوراقا تتضمن صيغة موحدة تتمثل في سؤال واحد فقط، هو: «هل تقبل الاتهام الموجه إليك بالتورط في أعمال شغب ضد الأمن القومي وقانون ونظام البلاد؟». وأشار الناشر إلى أن الجميع اعترفوا بعد تردد بالاتهامات الموجهة إليهم، وبعد جمع التوقيعات اختفى الشاب المسلح بالمسدس. من ناحية أخرى ادعى سجناء آخرون تعرضهم للضرب على يد أفراد ميليشا الباسيج خلال تلك الساعات الأولى، الذين أخبروهم أن دموع خامنئي خلال خطبة ألقاها أحد أيام الجمعة، التي فسرها الكثيرون باعتبارها ضوءا أخضر، ألهمتهم شن حملة صارمة ضد المتظاهرين.

وأشار سجين آخر إلى أن أحد من احتجزوه قال: «لقد تسببت في بكاء زعيمي المحبوب، والآن تستحق الضرب على ذلك». بعد ساعات، تم تكديس السجناء في حافلتين بصورة بالغة كادت تمنعهم من الحركة تماما، وتحركت الحافلتان باتجاه سجن «إيفين»، لكن الناشر قال إنه شعر بالارتياح لدى وصوله هناك، حيث علم أن هذا هو المكان حيث ستبحث أسرته عنه. لكن سرعان ما شعر بالهلع لعلمه أن أكثر من 500 سجين سيتم حشرهم داخل زنزانة مساحتها نحو 500 قدم مربع.

ولكونه أكبر سنا من معظم السجناء وقع الاختيار على الناشر ليكون قائد الزنزانة، حيث تولى مسؤولية وضع جدول نوبات النوم لفترة أربع ساعات بين السجناء، الذين اضطروا إلى الوقوف باقي الوقت، علاوة على تشاركهم في مرحاض واحد وإجرائهم المكالمات الهاتفية سريعا من هاتف واحد.

بالنسبة للطعام، تناول السجناء الفاصوليا أو الحساء. ومن أجل قتل الوقت دخل السجناء في نقاشات حول القضايا السياسية ومستقبل البلاد. وعلى نحو متكرر تم اقتياد السجناء فرادى للتحقيق معهم، وكانوا يعودون بعد ساعات مصابين بكدمات أو يتبولون دما، حسبما قال الناشر. وكان يتم اقتياد البعض في الثامنة صباحا ثم يعادون إلى الزنزانة بعد 14 ساعة وهم يترنحون وعليهم علامات الإنهاك.

وأشار الناشر إلى أن الحراس أخبروه أن قرابة 4500 شخص ألقي القبض عليهم في 20 يونيو (حزيران)، مع وجود محتجزين آخرين غير معروف عددهم في الكثير من الأماكن الأخرى. في أحد أيام الاحتجاز التقى الناشر أسرة كان كل أفرادها محبوسين، حيث أخبره رجل كان برفقة ولديه أن زوجته وابنته في قسم النساء داخل السجن.

في النهاية، اقتيد الناشر للتحقيق معه. وخلال استجوابه تم وضع غمامة على عينيه ولم ينَل فرصة رؤية مستجوبيه، لكنه تمكن من خلال الصوت من التعرف على أنهم رجال شباب.

سأله أحدهم من يكون، فأجاب الناشر أنه مهندس تعدين عمل على مدار السنوات الخمسة عشر الماضية بمجال نشر الكتب، وقال إنه أخبر المحققين قائلا: «أشعر بالأسف لأنه من خلال نشر الكتب عجزت عن تغيير مصير المجتمع ـ وأنني أشهد هذا اليوم المشؤوم».

وسأله آخر لمن أدلى بصوته في الانتخابات، وأجاب الناشر: «للأسف، عجزت عن التصويت لانشغالي، ولم تكن معي شهادة ميلادي. لكن لو كانت بحوزتي كنت سأصوت لصالح موسوي». وسأله المحقق: «هل تقر إحراق المصارف وتحطيم النوافذ وتدمير الممتلكات العامة؟»، وأجاب الناشر: «لا، مطلقا. لكن أتفهم الإحباط الذي يشعر به الشباب والأسلوب الذي قد يعبرون من خلاله عن غضبهم».

ويبدو أن المحققين انتابتهم الحيرة حيال إجابات الناشر الدقيقة وأسلوبه الهادئ، وقرروا عدم إساءة معاملته. وأخبره أحد المحققين: «لقد ألقي القبض عليك عن طريق الخطأ. نأسف لذلك». وفي 27 يونيو (حزيران) أطلق سراح الناشر، بعد أسبوع من احتجازه.

من جانبهم، أشار بعض السجناء إلى أنه طلب منهم التوقيع على بيانات يتعهدون فيها بعدم المشاركة مجددا في أي تظاهرات. وعلى سبيل المثال، قال أحد من تعرضوا للاحتجاز ويحمل الجنسيتين الإيرانية والكندية: «لم أتمكن حتى من قراءته على نحو كامل، لقد وقّعت عليه لرغبتي الشديدة في أن يطلق سراحي وأعود إلى كندا».

من جانبها، عرضت أسر غالبية المحتجزين دفع كفالة، وقد فرض أحد القضاة كفالة تكافئ قيمتها 300000 دولار مقابل إطلاق رجل عثر في هاتفه المحمول على مقطع مصور لأعمال الشغب والتظاهرات.

ورغم اعتراف المحققين بإلقاء القبض عليه عن طريق الخطأ، اضطرت أسرة الناشر إلى التخلي عن الترخيص الخاص بدور النشر، الذي يعد بمثابة دعامة مستقبلها الاقتصادي. ومع ذلك لا يزال الناشر يشعر بأنه نجا بسهولة. فيذكر أن الكثيرين ما زالوا محتجزين بسجن «إيفين»، ويجري إلقاء القبض على المزيد يوميا.

من جهته أعرب الناشر عن اعتقاده بأن حملة الاعتقالات التي وقعت مؤخرا كشفت زيف القناع الديمقراطي لإيران. وأضاف الناشر: «انتاب غالبية المسجونين شعور بالصدمة حيال تكبدهم ثمنا فادحا جراء تصويتهم لأحد المرشحين المؤهلين الأربعة. أعتقد أنه سيكون من العسير للغاية في أي انتخابات قادمة اجتذاب الناس للإدلاء بأصواتهم لصالح أي مرشح».

*خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»