بغداد..منفصلة عن ذاتها وفقدت تسامحها.. والأميركيون حولوها إلى مدينة إسمنت

جدرانها تعبر عن طموحات يائسة.. وسكانها يتساءلون: ماذا بقي منها؟

TT

توجد إشارة إلى وجود مدينة أقدم في بغداد القديمة. ربما تعتبرها سخرية. ولكنها هناك عند تمثال الشاعر الجليل معروف الرصافي المصاب بطلقات الرصاص، والذي يطلق اسمه على الميدان. ومن حوله تدور المدينة التي تدور حولها القصص ولكنها في حالة بالية، بعد أن غادرها مؤخرا، ظاهريا، الجنود الأميركيون.

وما زال الماضي هنا. وتظهر قبة فيروزية اللون، مصنوعة من الطوب ومزينة بالأرابيسك من وراء غلاف من التراب. ويقف صف من الأعمدة تحت الشرفات والدرابزينات التي تعود إلى عصر الاحتلال البريطاني. وينطلق أذان الصلاة من مسجد عثماني. ولكن لا يستطيع سوى قليل من المارة رؤية القبة، حيث تغطي شبكة عنكبوت كبيرة على المنظر. ولا يمكنك التجول بين صف الأعمدة، حيث تغلق الحوائط الصلبة الطريق. ونادرا ما يسمع الأذان وسط ضجيج أبواق السيارات. ويقول حسين كريم، البواب الذي وقف ينظر وهو جالس على قطعة من الكرتون فوق قاعدة التمثال المصنوعة من الجرانيت: «لقد تحول كل شيء إلى قمامة ونوافذ مكسورة ومبان متهدمة». وأضاف صديقه حسين عبيد: «لقد أصبحت بغداد مدينة مدمرة».

وقد أنهت قوات القتال الأميركية انسحابها من بغداد ومدن عراقية أخرى في 30 يونيو (حزيران). ولكنهم تركوا خلفهم عاصمة تغيرت إلى الأبد بسبب وجودهم. وكان أغسطس يزهو بأنه وجد روما مدينة من الطوب، فجعلها مدينة من الرخام. وكانت بغداد مدينة من الطوب أيضا، وقامت زمرة من الجنرالات الأميركيين بتحويلها إلى مدينة من الأسمنت. وينتشر الأسمنت الذي بنوه في كل مكان، من المنطقة الخضراء مترامية الأطراف إلى الجدران العازلة والحوائط الصلبة التي تحيط بكل شارع تقريبا، لتعيد توجيه الجغرافيا المادية والروحية والاجتماعية التي ظلت على مدار ما يزيد على ألف عام تسير وفقا لمنحنيات نهر دجلة.

ولكن ربما تكون تلك الجدران أقل أهمية من القوى الأعمق التي عجلت بها ستة أعوام من الوجود الأميركي. فبغداد حاليا مدينة منفصلة عن ذاتها. نادرا ما تجد سكانا من السنة في الأحياء الشيعية. ولم يعد هناك شيعة في الأحياء السنية، التي أصبحت أقل عددا اليوم. وقد غادر جميع المسيحيين. ويلجأ الأقوياء إلى البقاء في حصون، بينما يدافع الفقراء عن أنفسهم.

ومن بيروت إلى القاهرة إلى بغداد، فقدت العواصم الكبرى في العالم العربي جميع مقاييس التسامح، جدران نفسية وغيرها تحدد طوائفها وأعراقها وطبقاتها. وتنعي كل منها اختفاء المدينة العاصمة التي بدت راسخة منذ جيل ماضٍ. وتتطلع كل منها إلى سكان يمنحونها المزيد من الشرف. وفي النهاية، ربما تكون بغداد هي ذروة هذا الاتجاه، حيث لا يدمرها الحاضر بقدر انفصالها عن تاريخها.

ولم يصنع الأميركيون أيا من ذلك، ولكنهم سهلوه جميعا، فمنحوا مساحة لأسوأ الدوافع في المنطقة.

ويقول كريم: «التدمير سهل، والبناء يستغرق وقتا أطول بكثير».

وكان صدام حسين قد جلب طرازا عسكريا فظا إلى بغداد السابقة. وفي العاصمة التي بها وسائل النفع، أضفت أنصبته التذكارية شعورا ملتويا بالخيلاء.

وربما يكون نصب أيادي النصر أبرزها في تلك الرؤية، بسبب فظاظته. وقد صنع عام 1985، وهو قوس من سيفين متقاطعين يحتفل بنصر عراقي في الوقت الذي كانت فيه إيران تنتصر في حرب الأعوام الثمانية. وصممت القبضتان اللتان تمسكان بالسيفين على صورة قبضة صدام، مع تكبيرها 40 مرة. ويشبه السيفان المتقاطعان المنحنيان سيوف سعد بن أبي وقاص، القائد العربي الذي هزم الفرس في القرن السابع. وتطلب صناعة كل من السيفين 24 طنا من المعدن، المعاد تشكيله من مسدسات الجنود العراقيين القتلى، مع آلاف من خوذات الجنود الإيرانيين التي أصيبت بطلقات نارية. وحسب إحدى الروايات، كانت الخطة الأصلية تدعو إلى استخدام جماجم الإيرانيين.

وجدران اليوم أكثر فائدة ولكنها ليست أقل تميزا. إنها ليست مثل الجدار العازل العدواني الذي بناه الإسرائيليون ليفصلوا أنفسهم عن الفلسطينيين. ولكنها تفتقد إلى الكتابات السياسية والفنون الملهمة التي جعلت سور برلين مميزا للغاية. وبدلا من ذلك تعبر عن الطموحات اليائسة في العراق الذي يخرج من الحرب في الوقت الذي يتساءل فيه الكثيرون ماذا تبقى فيه.

وتزهو الرسوم على جدار الأسمنت بعراق مثالي في عهد السومريين والبابليين أو مستقبل تبنى فيه ناطحات سحاب، ويستخدمها الباعة كإعلانات، عن عقارات وملابس أطفال وصرف عملات. وتبسط الحكومة عليها نظرتها القانونية الاستبدادية كحل للفوضى المتأصلة. ويرد في أحد الشعارات المكتوبة على هذه الجدران «احترم وكن محترما». وفي شعار آخر: «كن بطلا، احم العراق».

ويقول وسام كريم، الجندي الذي يبلغ من العمر 28 عاما ويسير إلى قاعدته في الأعظمية: «ستزال تلك الجدران عندما يستيقظ الشعب العراقي مرة أخرى». ونظر إلى السور الممتد على مسافة ميلين تقريبا، ويقسم سكان الأعظمية من السنة عن سكان الصليخ من الشيعة. وكان على أحد جوانبه مكتوب: «تحيا المقاومة». وقد شطب شخص ما الكلمة الأخيرة وكتب بدلا منها «العراق».

وبني خان مرجان عام 1359، وكتب على جدار الفندق الذي يمجد مؤسسه أمين الدين مرجان: «أعدل ملك الملوك في العالم». وعلى مدار 600 عام، كان المبنى قطعة فنية في العمارة الإسلامية. وفي الأشهر التالية للغزو، تم نهبه. وغمرته المياه. ويبدو الخان رائعا ولكنه باليا.

ويقول حسن إبراهيم (41 عاما) وهو حارس المكان أو واضع اليد عليه: «لقد تحمل مئات الأعوام. وإذا أردت أن تدمره، لن يستغرق الأمر أكثر من دقائق».

وعلى خلاف القاهرة أو إسطنبول بقي القليل للغاية من الآثار في بغداد. وقد تسببت في ذلك الحروب والفيضانات المتقلبة لنهر دجلة والبرق المتكرر. وبدلا من ذلك تبدو المدينة وكأنها تستجلب الفخر من ثقافة الذكريات.

ويتساءل سعد عويز (58 عاما) وهو من رواد مقهى الزهاوي لديه لحية ملطخة بالسجائر ويرتدي نظارة على طراز لينين: «متى فقدنا تلك الروح الحضارية؟» وهو يشتاق إلى ماض كان حقيقيا. وينعي شارع رشيد، ومطاعمه وقاعات السينما الممتدة المغلقة. ويفتقد إلى تبادل الأحاديث مع المسؤولين والمشايخ والأدباء في مقهى البرلمان. ويرثي الحال في الوقت الحاضر قائلا: «لا يوجد الكثير من الأحاديث في الوقت الحالي».

وكان الحي الذي يبدأ بتمثال الرصافي أكثر أحياء بغداد حيوية مع مزيج من المساجد العثمانية والأسواق والشقق المبنية على الطراز البريطاني. وكانت هناك أناقة في شارع النهر، وثقافة في شارع رشيد، وهو أول شارع يضاء في العراق. وكان من الممكن العثور على أشهى الحلويات وأفضل أنواع القهوة وألذ أنواع المثلجات هناك. وكانت المظاهرات تبدأ في الميدان ثم تنطلق.

واليوم توجد تجارة من نوع آخر، حيث خرجت البضائع الزهيدة إلى الشوارع التي لم يعد بها تقاطعات، وجعلت الجدران الخرسانية المكان أشبه بالمتاهة. وتختنق أسماك نهر دجلة في أنبوب في سيارة. وتتسرب نقاط من هرم من المشروبات الغازية كما يتصبب العرق من بائعها. وتبدو ألوان ملابس الفتيات صارخة في الأصفر والبرتقالي والوردي في شارع لونه رمادي وبني.

وتطل الصور من المقاهي الموسمية، ومحلات الكتب الموسمية. وتتناقض صورة الملك غازي بوسامته مع براءة طفولة الملك فيصل الثاني. ويرتدي أمير عباءة مرتبطة بعصر قديم.

وفي الأيام التي التقطت فيها تلك الصور، كما يفخر عويز، كان لا يستطيع أن يأكل أكثر من قطعة من الخبز وشريحة من الجبن ثم يحتسي كوبا من عصير الرمان من كشك يسمى الحاج زباله. ويقول: «كنا وكأننا تناولنا خروفا كاملا. والآن إذا تناولنا خروفا كاملا، سنظل نشعر بالجوع.. فالحالة المزاجية ليست جيدة».

ويضيف: «إن بغداد مثل الشبح بالنسبة لي».

وربما يكون الحنين للماضي هو الشعور الواضح في العالم العربي، حيث يظهر في الحوارات في القاهرة وبيروت كما يظهر في بغداد. وهو يشير إلى حقيقة فقدان شيء ما، مثل بعض التسامح، والمزيد من التحرر، والمدينة ذات الثقافة الواثقة.

كان وسط مدينة بيروت، قبل أن تدمرها الحرب الأهلية، مكانا تذهب إليه الأسر لتلتقط الصور أمام التمثال الموجود في ميدان الشهداء. وحاليا، أصبح مكانا محفوظا للأثرياء، وقد كان مكانا تلتقي فيه الطبقات، حيث كانت دور السينما إلى جوار سوق السمك والمحلات والمصارف في المكان ذاته مع بائعي الخضراوات. وفي وسط مدينة القاهرة، كان هناك مقهى غروبي ودور السينما مثل ريفولي ومترو وأوبرا، وقد انتهى عصر وسط المدينة بحريق عام 1952 والثورة التي تلته.

ولم يكن كل شيء رائعا بالطبع. وكانت القاهرة مبهجة أكثر للأجانب المقيمين، الذين أحيانا لا يتحدثون العربية مطلقا، من المصريين. ويمكن أن يتجاهل الزائرون في بيروت مجموعة من المآسي في ضواحيها، التي يسكنها شيعة فقراء. ولكن قد يقول قليل من الناس إن الهوية، سواء كانت طائفية أو عرقية أو حتى طبقية، كانت أكثر تعريفا. ويتفق الجميع تقريبا على أن النزعة الوطنية كانت تحقق تسامحا أكبر.

ويسأل مارك مازور مؤلف «سالونيكا: مدينة الأشباح»: كيف تروي تلك القصة بدون أن يبدو أن لديك حنينا لعالم لا تريد أن تعيده بصور مختلفة؟ تلك هي الأزمة». وبالنسبة لمازور، الحنين ليس شيئا يتفرد به العرب، ولكنها قصة عالمية تبدو وكأنها تمسك بالفشل كما تتمسك بالفقدان. ويقول: «يعرف الجميع مدى الصعوبة التي تجدها الدول القومية في إقامة أنظمة مستقرة ومتسامحة. ويعكس الحنين شعورا بتلك الأزمة في الوقت الحالي».

ولا يوجد استقرار في بغداد بعد الحرب، ولا يوجد تسامح أيضا. ولكن لا تلقي ميسون الدملوجي باللوم على القوات الأميركية التي غادرت العاصمة إلى حد كبير. وتقول، الدملوجي التي تعمل مهندسة معمارية ومشرعة من أسرة بارزة: «كنت أقول دائما إن أي جيش هو أي جيش، بغض النظر عن كونه. إنهم رجال شبان يحملون أسلحة. فلا تتوقع من جيش أن يعتني بمدينة. ولا تتوقع من جيش أن يكون حساسا لاحتياجات الناس».

وكانت بغداد بائسة بالفعل قبل أن يأتي الأميركيون. فقد خاضت حربا لمدة ثمانية أعوام مع إيران، عندما دخل أسرى الحرب في شاحنات جنود عبر المدينة. وفرضت عليها بعدها عقوبات بسبب حرب أخرى، غزو العراق للكويت عام 1991، في الوقت الذي قضت فيه على الطبقة الوسطى الحيوية في بغداد.

وتقول الدملوجي: «توجد أجيال كاملة نشأت ولا تعرف أي شيء إلا لغة الحرب والمواجهة والتحدي. ويمكنك أن ترى ذلك في عيون الناس».

لقد ذهب تسامح سكان بغداد. وحل محلهم مهاجرون من القرى، ذوو القوانين الصارمة والرجال الصارمين. وفي الماضي، كان شيخ القبيلة ليتخلى عن غطاء رأسه عندما يزور العاصمة.

وتقول ميسون الدملوجي «كانوا يشعرون بالخجل الشديد. وعندما كانوا يأتون إلى هنا، كانوا يتصرفون مثل أهل بغداد. والآن يعيش الناس في بغداد وكأنهم زعماء قبائل قادمون من القرى».

وتملك الدملوجي حلا ممثلا في مشروع لترميم المساحة الحضرية حول تمثال الرصافي. وسيصبح المالكون حاملي أسهم في الشركة التي ستعمل على تجديد وإحياء منطقة في المدينة تمتد لمسافة ميلين بطول نهر دجلة من الباب الشرقي إلى الباب المعظم. وسيمنع سير السيارات. وستشارك دور السينما والمحلات مساحات مع الحدائق. وتتشابه رؤيتها مع تلك التي ساعدت على إعادة بناء بيروت، ولكن على النقيض من العاصمة اللبنانية، تقول: «سنحاول أن نحافظ على النسيج الاجتماعي وليس تحويلها إلى ستاربكس».

وبسطت صورة طولها 20 قدما للمدينة مأخوذة بواسطة القمر الصناعي. لا توجد جدران أو خرسانة أو حوائط. وتتعهد وهي تلوح بيدها فوق الصورة: «كل هذا سيتم ترميمه».

وتوجد أغنية شهيرة لكاظم الساهر، أشهر مطرب عراقي، عن العاصمة. يقول فيها: «وهل خلق الله مثلك في الدنيا أجمعها؟» ثم يعلو صوته وهو يردد: «بغداد! بغداد! بغداد!» ألم تكن جميلة بالفعل؟ تسكت الدملوجي.

وتجيب: «لا. لا أعتقد أن بغداد كانت مدينة جميلة. ولكنها كانت مليئة بالحيوية وكانت حضرية».

وظلت الصورة تحت قدميها. وأمسكت بسيجارة في الوقت الذي جرى فيه كلبها أبريكوت إلى مقعدها. وقالت: «سيستغرق الأمر وقتا. إن البناء أصعب كثيرا من الهدم».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»