العراقيون يعودون من زيارة ذويهم المعتقلين بمزيد من التوتر والقلق.. والتساؤلات

أُم بعد زيارة ابنها في معتقل كروبر: لقد كانت الزيارة كالحلم.. بدأت وانتهت بسرعة

سجين في معتقل كروبر يتحدث عبر الهاتف من وراء زجاج إلى أفراد أسرته (رويترز)
TT

بعد ظهيرة أحد الأيام كان نحو اثني عشر عراقيا يجلسون بهدوء على المقاعد الخشبية في حجرة ضعيفة الإضاءة، وعيونهم مثبتة على جهاز تلفزيون يعرض فيلما أميركيا. وبالرغم من وجود ترجمة باللغة العربية فإنه لم يكن هناك، على ما يبدو، سوى قلة تتابع حبكة الفيلم.

هؤلاء كانوا أقارب 15 سجينا عراقيا قطعوا الرحلة لكي يقضوا ما يقارب الساعة مع أقاربهم في معسكر كروبر، وهو سجن في قاعدة أميركية على مقربة من بغداد. وبالنسبة إلى المحتجزين وعائلاتهم كان الغرض من تلك الدقائق التي يتنازعها الأمل والإحباط، القلق والراحة، هي وضع نهاية لمخاوفهم، إلا أن مخاوفهم كانت في العادة تزداد، ويبدأون في طرح المزيد من الأسئلة: كيف تعيش تلك الأم العجوز في تلك القرية النائية؟ كيف تستطيع الزوجة التي تحيا بمفردها إعالة عائلة المحتجز؟

والأهم من ذلك أنهم يفكرون في أية إشارات تتعلق بالإفراج عنهم في بلد سجن فيه المئات وربما أكثر لسنوات طويلة، دون أن توجّه إليهم اتهامات، وهو ما يراه العراقيون على أنه إجهاض فاضح للعدالة.

وفي الساعة 12:40 مساء أعلنت موظفة عراقية بدء الزيارة، وتلت على مسامعهم القواعد بصوت سلطوي وحادّ وهي تقف في وسط حجرة الانتظار الفسيحة التي تنقسم إلى جهتين: الجهة الأولى تجلس على جانبها العائلات في صف واحد على المقاعد الصلبة، وفي الجهة الأخرى يتجمع الأطفال في منطقة للعب بجوار مكاتب الجنود الأميركيين حيث يتم جمع بعض البيانات. يقول المترجم للزائرين: «يمكنكم تقبيلهم أو احتضانهم، لكن يُمنع إعطاؤهم أي شيء، أو تبادل أي شيء معهم».

وهناك أكثر من عشرة آلاف محتجز في ذلك السجن الذي يقع بداخل معسكر النصر، وهو واحد من كبرى المنشآت العسكرية في العراق. ويقر المسؤولون بأن بعضهم قد يكون بريئا، بينما يوجد كذلك محتجزون خطرون من الذين اعتقلوا بتهم تتعلق بجرائم القتل والاختطاف أو مساعدة المقاتلين الأجانب أو «القيام بعمليات إرهابية»، وفقا للبريغادير جنرال ديفيد كوانتوك المسؤول عن مركز الاحتجاز.

وسيتم نقل معظم المحتجزين إلى السجون العراقية أو يتم إطلاق سراحهم بنهاية العام الجاري وفقا للاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، التي تم تفعيلها في يناير (كانون الثاني).

أما بالنسبة إلى بقية السجناء الذين يُعتبرون شديدي الخطورة فستتم محاكمتهم أمام قضاة عراقيين في ديسمبر (كانون الأول)، وسيبقى نحو 2200 في المنشأة العسكرية التي تديرها الولايات المتحدة.

في الواحدة مساء، اصطف الزوار في صف واحد في الفناء الخارجي مستطيل الشكل والمسيج بقضبان حديدية سوداء، يظللهم سقف من النايلون الأبيض، وقد أمروا بالوقوف خلف خط أزرق على أحد جوانب المدخل، يليهم السجناء الذين يرتدون بدلات صفراء أو دشاديش تقليدية بيضاء، وكل سجين منهم يحمل رقما يماثل الرقم الذي تم إعطاؤه لقريبه الذي أتى لزيارته.

ولثوانٍ بدت أبدية، ظل السجناء وأقاربهم يحدق بعضهم في بعض حتى أعلن المترجم أنهم يستطيعون الاحتضان. وفي دقيقة واحدة كان الأطفال قد هرعوا إلى آبائهم، تليهم الأمهات. وقد ابتسم الآباء الذين كانوا مصرّين على الحفاظ على سلوكياتهم، وبكوا وضحكوا.

قفزت سالي فيصل، أربعة أعوام، نحو أبيها فراس الذي كان فاتحا ذراعيه، ثم تلتها أمها التي تحمل ابنها عراق، 3 أعوام، وحمواها. قال فراس: «كيف حالكم؟ كيف حال كل شيء؟ لقد افتقدتكم كثيرا»، فتجيب أمه سعاد: «الحمد لله، جميعنا بخير، كيف حالك أنت؟».

وخلال الدقائق العشر التالية، وتحت رقابة الجنود الأميركيين والموظفين المدنيين العراقيين المتخفين من وزارة العدل، تبادل الأقارب القبلات والأحضان والضحكات ومسحوا دمعة أو اثنتين من وجه إحدى الأمهات أو الزوجات، وكانوا يواجهون صعوبة في تغطية أحداث الشهور في دقائق. كما أن لقاءهم كان يقاطعه التقاط الصور أمام العلم العراقي المزين بالأوسمة الأميركية، وهي الفرصة التي منحها لهم الجيش الأميركي.

ثم أعلن المترجم في الساعة 1:10 بعد الظهر: «لقد بقيت لكم دقيقة واحدة»، فلفّت سالي ذراعيها حول رقبة أبيها وقبلته ثلاث مرات، بينما كان الأب يمسك بيد ابنه النائم على كتف أمه ويقبلها.

تم اصطحابهم إلى حجرة بها نحو 18 كابينة هاتف، حيث يفصل بين الأقارب والمحتجزين لوح من الزجاج، وقد دلفوا إليها بصمت، وتم إخبارهم بالتعليمات التي تفيد بأن «الكبار لا يستطيعون مغادرة الكابينة بينما يستطيع الصغار». وقد انتظر فيصل، 30 عاما، الذي كان ضابطا في الجيش العراقي وتم اعتقاله في غارة ليلية على منزله قبل ثلاثة أشهر، في الكابينة رقم 13. وتؤكد أم فيصل أنها لا تعرف حتى الآن ماهية التهم الموجهة إليه. وقد رفضت أم فيصل مثلها مثل الكثير من الزائرين الآخرين في ذلك اليوم أن توكل محاميا؛ حيث يشيع ذلك المفهوم الخاطئ بين الأهالي بأن توكيل المحامي سيجعل أقرباءهم يبدون متهمين.

قالت سالي لأبيها على الهاتف: «أبي، لقد تعلمت الرقص»، فانفجر أبوها في الضحك. فردت عليه: «أحبك كثيرا». قبلت الهاتف وأعطت السماعة لأمها، ثم جرت نحو الطاولة الصغيرة المقابلة للكابينة رقم 8، حيث كان جندي أميركي يرسم مع ثلاثة أطفال آخرين.

وقد اقترب فيصل وزوجته من الزجاج واضعين يديهما في وضع التلامس، بينما كان ابنهما يضرب بكلتا يديه على الزجاج. لم تتبق سوى دقائق قليلة، وبدأت نتف الحوار المتبقية ـ العاجلة نظرا لاقتراب انتهاء الوقت ـ في التنقل من كابينة إلى أخرى. لقد كانت تلك النتف همسات لحياة تم اعتراضها.

قالت ابنة أحدهم: «أمي، أسرعي فالوقت أوشك على الانتهاء». وقالت إحدى الأمهات لكي تطمئن زوجها: «نعم، لقد زرعت الحديقة». وتباهت إحدى الزوجات بإحدى صديقاتها وقالت: «لقد اشترت لابنها كومبيوترا بنحو 500 دولار».

وفي الساعة 2:15 أعلن الجنود انتهاء الزيارة، وتجمعت العائلات مرة أخرى في صف واحد وتم اصطحابهم حتى حافلة تقف خارج مركز الزيارة.

تقول أم فيصل: «لقد كانت الزيارة كالحلم، لقد كانت كالحلم، لقد بدأت وانتهت بسرعة شديدة. ولم يبقَ منها سوى نتف».

* خدمة: «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»