فرنسا ترى في سورية «بوابة العبور» للشرق الأوسط.. والبلدان «يعيشان شهر عسل»

العلاقات «الثلاثية» تحولت إلى «ثنائية».. ومصادر فرنسية تؤكد عدم التخلي عن الثوابت اللبنانية

TT

كان ذلك ليل السبت الماضي في مطعم رائج في دمشق القديمة. اللغة السائدة كانت الفرنسية والسبب أن السفارة الفرنسية في العاصمة السورية دعت العشرات من الصحافيين والمثقفين والباحثين والوجوه الاجتماعية إلى عشاء من نوع خاص. وحرص المنظمون على المزج بين الضيوف السوريين من جهة والمضيفين الفرنسيين من جهة أخرى، وبينهم مستشارو وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير والمقربون منه، وسفراء باريس في عواصم الشرق الأوسط من دول المشرق إلى دول الخليج، السابقون واللاحقون، بمن فيهم سفير فرنسا الجديد في دمشق أريك شوفاليه الناطق الحالي باسم الخارجية الفرنسية. وما أن استقر الجميع على مقاعدهم حتى دلف إلى المطعم وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير مصطحبا نظيره وليد المعلم، يدا بيد، جال الوزيران على الطاولات في جولة تعارف ومجاملات ولياقات. لكن كان من الواضح أن الرجلين أرادا لهذه الجولة أن تكون صديقة وحميمة. في اليوم التالي، تكرر منظر الوزيرين وكل يتأبط ذراع الآخر وهما خارجان من قصر الشعب الراتع على تلة تشرف على دمشق، بعد اجتماع بالرئيس السوري بشار الأسد ولاحقا في مقر وزارة الخارجية السورية. ويبدو أن الفندق الذي نزل فيه الوفد الفرنسي في دمشق القديمة تلقى «تعليمات» باستباق تمنيات ومطالب النزلاء: زهور في الغرف وهدايا وابتسامات بالجملة واستعداد لتلبية كل الطلبات والتعبير عن السعادة باستضافة زبائن مميزين. كل هذه الإشارات التي حرص الجانب السوري على تظهيرها بأنها «أبعد» من الواجبات البروتوكولية التقليدية، كان غرضها إبراز «الحالة» الجديدة للعلاقات الفرنسية ـ السورية بعد عام تماما على القمة التي جرت في قصر الإليزيه في الثالث عشر من يوليو (تموز) بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والرئيس بشار الأسد بمناسبة إطلاق الاتحاد من أجل المتوسط في باريس.

وما بين التاريخين، تغيرت أمور كثيرة في العلاقة بين باريس ودمشق. والدليل على ذلك أن أمين عام القصر الرئاسي كلود غيان، رجل الإليزيه القوي وجان دافيد ليفيت، المستشار الدبلوماسي الرئاسي زارا دمشق قبل عشرة أيام فقط على زيارة كوشنير للعاصمة السورية. ومن المنتظر أن يتوجه رئيس الحكومة فرنسوا فيون بدوره إلى دمشق برفقة وفد اقتصادي كبير لتجسيد الانطلاقة الجديدة للعلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية الفرنسية ـ السورية. ودفعت هذه التطورات أحد المسؤولين السوريين ليقول لـ«الشرق الأوسط» إن البلدين «يعيشان شهر عسل جديدا».

يقول مصدر رسمي فرنسي إن اختيار دمشق لعقد اجتماع السفراء الفرنسيين في المنطقة بحضور الوزير كوشنير الذي لم يكن من «المعجبين» بسورية، «لم يكن مصادفة» وكان الغرض منه إظهار أن «فصلا جديدا من التعاون والتقارب والتشاور والتنسيق» قد فتح بين الجانبين. وبحسب المصادر الفرنسية، فإن هذا التطور لم يكن ممكنا لو لم تتغير السياسة السورية في لبنان «ولو لم تف دمشق بما نصت عليه خريطة تطبيع العلاقات مع لبنان ومع فرنسا» كما اتفق عليها ساركوزي والأسد الصيف الماضي. ورغم التقدم الواضح في العلاقات، يتأرجح الموقف الفرنسي اليوم من دمشق بين حدين: الأول يقول إن باريس «مستمرة في تطوير العلاقات مع سورية لكن عينها لا تزال مفتوحة». أما الحد الثاني فقوامه أن العلاقة الثلاثية مع دمشق (التي تشمل بيروت) عادت مجددا لتتحول إلى علاقة «ثنائية» بمعنى أن لها ديناميتها الخاصة ولم تعد مربوطة بما يحصل في لبنان أو بالأداء السوري في لبنان. وتضيف المصادر الفرنسية أن باريس مهتمة بما تقوم به سورية في موضوع السلام في الشرق الأوسط وفي العراق وبالجوانب المرتبطة بالملف الإيراني وبالعلاقة مع منظمات وحركات مثل حماس في غزة وحزب الله في لبنان.. وبكلام آخر، فإن التعاون مع سورية «واسع ومتعدد» وأخذ «يفيض» على الملف اللبناني الذي كان حتى مجيء ساركوزي «بيضة القبان» في تحديد العلاقة مع دمشق.

غير أن المصادر الفرنسية تسارع إلى القول إن التقارب مع دمشق «لا يعني التخلي عن ثوابت السياسة الفرنسية في لبنان» المتمثلة بالتأكيد على استقلاله وسيادته وحرية قراره السياسي. ولكنها ترى أن لفرنسا «مصالح أوسع». وسبق لأحد المستشارين النافذين أن قال يوما إن لبنان «لم يفتح أبدا بابا لفرنسا» في الشرق الأوسط، ما يعني أن «البوابة» السورية لا بد منها لتلعب باريس دورا مؤثرا فيها. وأبلغ مصدر فرنسي رفيع «الشرق الأوسط» أن الرئيس الأسد، في اجتماعه مع كوشنير، بدا «متجاوبا جدا» في ما خص الملف اللبناني ما فهمه الفرنسيون على أنه رغبة في تسهيل مهمة تشكيل الحكومة اللبنانية المنتظرة. وسبق له أن أشاد بالرئيس الحريري في لقائه مع المبعوثين الرئاسيين.

وتعتبر باريس أنها كانت «سباقة» في انفتاحها على دمشق على المستويين العربي والدولي، وتبدو متشجعة من الحوار السوري ـ السعودي. ويرى الوزير الفرنسي أن ثمة «فرصة تاريخية قد لا تتكرر» لتعمل إدارة الرئيس أوباما مع الاتحاد الأوروبي والأطراف الأخرى مثل روسيا والدول العربية للتوصل إلى تسوية سياسية في المنطقة. ويحذر كوشنير من أنه «إذا لم تستغل هذه الفرصة فقد تمر سنوات طويلة قبل توافر فرصة جديدة» للسلام. ومن هذه الزاوية، ترى باريس أن دور سورية «مهم» وبالتالي «يجب الحرص على عدم عزلها أو إشعارها بالعزل»، إذا كان المطلوب الحصول على تعاونها أو تشجيعها على سلوك درب المفاوضات مجددا مع إسرائيل. وتنظر باريس بإيجابية إلى الحوار السوري ـ السعودي، وترى أن تفاهمهما يمكن أن يفضي إلى نتيجتين اثنتين غير إراحة «المناخ العربي ـ العربي» وهما: توفير الإطار لتفاهم لبناني ـ لبناني وتسهيل مهمة مصر في سعيها لدفع حركتي فتح وحماس للعمل معا مجددا.

وما بين هذا وذاك، ورغم اختلاف الجانبين الفرنسي والسوري حول إيران، تستمر العلاقات بين العاصمتين في التحسن. وبحسب مصدر فرنسي رسمي، فإن الوقت اليوم «أكثر من أي وقت مضى» هو للاستمرار في التطبيع إذ سيكون غريبا أن تبتعد باريس عن دمشق في الوقت الذي تتقرب منها واشنطن.