إيستيميروفا.. ناشطة شجاعة في أرض العصابات

جمعت طوال سنوات ملفات تحوي فظائع ارتكبت في الشيشان ولم تدعم طرفا ضد آخر

TT

لقد رحلت ناتاليا إيستيميروفا. اختطفها قاتلوها في سيارة من أمام منزلها في الشيشان وانطلقوا بها صباح يوم الأربعاء. كانت تصرخ بأنها اختطفت، وهذه هي الكلمات الأخيرة التي سمعت منها، توثق بداية الجرائم التي ارتكبت ضدها، كما كانت توثق الجرائم التي ارتكبت ضد أعداد لا تحصى من الناس. لقد عمل قاتلوها سريعا، وكأن أوامر قد صدرت إليهم. فاقتادوها إلى مكان ناء وأطلقوا عليها النيران وتركوها بالقرب من الطريق. قتلوها بالطريقة ذاتها التي طالما خشي أصدقاؤها منها. كانت حقيبتها بالقرب منها. لم يكن القتلة يريدونها، بل كانت هذه الجريمة لسبب آخر.

كانت إيستيميروفا عضوا جوهريا في دائرة صغيرة من المحققين الأساسيين في حقوق الإنسان في منطقة القوقاز بأسرها، وهي امرأة ذات شجاعة فائقة ودقة وهدوء. كانت باحثة في منظمة «ميموريال» لحقوق الإنسان في غروزني، عاصمة الشيشان. وهنا سأتخلى قليلا عن صفتي كمحرر، وأعلن صراحة: لقد كانت مصدرا موثوقا بالنسبة لي وصديقة طوال السنوات الماضية، في الوقت الذي كان فيه عدد الأجانب الذين يحاولون فهم الشيشان يقل كثيرا. كانت عطوفة ودقيقة وشجاعة وصبورة، وذات دوافع كبيرة في وقت واحد. وكانت تمتلك جرأة وخفة، وكانت مستشارة وصيادة. كانت شخصا يعرف ما الذي يعرفه ويفهم ما الذي لا يمكنه إثباته.

كانت بطلة قوية للأسر التي عملت على تخفيف ألمها والتي أجبرت العالم على معرفة قصصها. كانت عدوا مربكا، للرجال الذين فضحت جرائمهم، قضية بقضية، برباطة جأش، فكانت لهم أداة انتقام لا يمكنهم فهمها أو إثناؤها عما تفعله. كانت تجوب الجمهورية المدمرة مرتدية تنورة وقميصا وحذاء ذا كعب عال، وتضع أحمر شفاه وتحمل حقيبتها، وتعلو وجهها ابتسامة بسيطة ترسمها في وجوه المسلحين المقنعين والضحايا على حد سواء. كانت تبدو وقورة، مثل كبيرة أمناء مكتبة، مستعدة لأن تضيف إلى أرشيفها، على الورق وفي العقول، ما يكشف حقيقة حروب الشيشان. كيف تجرأت على ذلك؟

هذا هو الشيشان، عالم من العنف المشؤوم الذي يجعل من الصعب وصفه في صحيفة. تسود العصابات تلك الأرض. وقد علمتهم التجربة أن الخوف يجعل الخصوم يخضعون لهم. فمن كانت هي لتطاردهم؟ ولماذا لم يمكن إقناعها بالتوقف؟ أصبحت الإجابة مكتوبة الآن، على الرغم من أن كل من يعرفها يعرف الإجابة منذ مدة طويلة: لن يوقفها سوى الموت. وكل ما كان في استطاعة أصدقائها أن يفعلوه، هو أن يثقوا في قدرتها على تفادي الموت، على الأقل كما كانت تفعل على مدار أعوام.

ويتعلق سؤال بمقتلها، وهو أحدث واقعة قتل في مجموعة من العمليات التي تستهدف هؤلاء الراغبين في تسجيل الأحداث المروعة في الشيشان. هل انتهى عداد القتلى من البشر الآن؟ من دونها، هل تصبح الشيشان، مثل أوزبكستان وتركمانستان، مكانا لا يخاطر فيه أحد بطرح أسئلة صعبة علنا؟

إن الشيشان بقعة صغيرة على خريطة روسيا الكبيرة، ويعيش فيها عدة مئات آلاف فقط. ولكن طوال العقدين الماضيين، كانت هناك عناصر تقود الحرب الحديثة: القومية والبترول وعدم التسامح الديني والعرقية والقبلية وثأر الدم والمقاتلون العشوائيون والوحدات التقليدية سيئة التنظيم واللصوصية الصريحة والفقر وفساد المسؤولين والمرتزقة الإسلاميون المتنقلون وحكومة يتأصل فيها تقديس الشخصية.

لم يكن من الممكن أن يكون عالمها أسوأ من ذلك. في البداية، كان يتماشى مع نزعة انفصالية مختلطة ضد التكتيكات الروسية الصارمة. ثم استضاف المتمردين والإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان بتوجيهات من الدولة على نطاق غير عادي. وفي وقت لاحق، تحول إلى نزعة ستالينية مصغرة تحت حكم رمضان قديروف، المتمرد السابق الذي تحول إلى رئيس مهاب. وأصبح مكتب إيستيميروفا منظارا لرؤية المشاهد المروعة.

وعلى نحو غير متوافق، كانت حكومة موازية مكونة من امرأة واحدة، تقدم الخدمات التي لا ترغب الحكومة الفعلية في تقديمها. كانت تجد المسجونين، وتبحث عن المقابر المخبأة، وتقدم الحجج ضد الجناة، حتى وإن اكتشفت، كما كانت تجد في الغالب، أنهم يرتدون زيا حكوميا. كانت غروزني أرض خراب، ماديا وأخلاقيا ونفسيا. وكانت إيستيميروفا من عالم آخر تقريبا. كانت تعيش في شيشان مختلفة، في منطقة يجب أن تسود فيها الكرامة. وقفت روسيا صامتة إزاء الحروب. ولم يكن التلفزيون الذي تسيطر عليه الحكومة يبث اكتشافات إيستيميروفا. تجنبها معظم الصحافيين الروس. ولم تكن الحقائق التي تحملها مرحبا بها. ففي روسيا في ظل عهد فلاديمير بوتين، لم تكن موجودة. ولكن لم يردعها ذلك. وأخذت ما توصلت إليه مباشرة إلى جهات الادعاء، بعد أن قامت بالعمل الذي كان من المفترض أن يقوموا به، وطلبت إجراء تحقيقات.

وفي بعض الأحيان كانت تجد حلفاء لها في الحكومة إلى حد ما، لأنها تمتلك نزاهة نابعة عن الاستقلال. وعلى النقيض من عدد كبير من الأصوات التي علت ضد سياسات روسيا في الشيشان، لم تكن إيستيميروفا محبة للمتمردين. كانت ترى أنهم فاسدون ووحشيون أيضا. ولم تختر أيا من الطرفين. ولكن كان عملها مركزا على شيء آخر: الحقائق. كانت الحقائق هي التي تقودها. وقد تدربت كمؤرخة، وبمجرد أن انطلق التاريخ من حولها أرادت أن توثق المعاناة والجرائم وأن تمنح روسيا فرصة لحلها، وبذلك التقدم نحو العالم الحديث. ولكن الكرملين لم يكن مهتما. ولم تكن ملفاتها ممتلئة بالتلميحات أو الأحكام الشاملة. بل كانت تحتوي على الحقائق، التي تمت مراجعة كل منها بدقة. يقول صديق شيشاني، وهو مقاتل سابق كان يعرف بعضا من الأفكار والرجال الذين جلبوا الشيشان إلى هذه الحالة المهينة، كيف كانت تخطط لتنفيذ ما تريد. لقد كانت مقاتلة منفردة. ويقول: «لم تكن تخاف». هل كانت ترى ما في انتظارها؟ يقول أصدقاؤها: نعم. لقد كان تحذيرها أمرا أساسيا. ولكن عندما كان يطلب منها مغادرة روسيا لأجلها هي، كانت تقطع الحوار بتنهدات. لقد تشكلت لمهمة لا تنفصل عن حياتها، حتى لو تنبأت بموتها. وكانت ترد على المخاوف.

وكانت تقول لبعض منا في الخريف الماضي: «أنتم من يجب أن يتوخى الحذر. اتصلوا بي الليلة لأعرف أنكم في أمان».

كانت طوال الوقت تواجه السلطات في هدوء، بينما كان من حولها يسقطون أو يقتلون. وعلى مدار الأعوام، وفي الفترة الأخيرة أيضا، تم استدعاء إيستيميروفا وزملائها لاجتماعات رسمية للاستماع إلى شكاوى حادة من عملهم. كانت الرسالة واضحة وفظة: توقفوا. وكان من الصعب على شخص من الخارج أن يتفهم مدى بشاعة تلك الاجتماعات. استدعيت أمام قديروف، رئيس الحكومة التي تدير مراكز التعذيب. وكما أظهرت سجلاتها، كان المعتقلون يتعرضون للضرب والدهس بالأقدام والصدمات الكهربائية والإعدام الوهمي والاغتصاب والحرق بالغاز، وفي النهاية بعضهم يعدمون. يقول الناجون إن قديروف شارك في ارتكاب تلك الجرائم ببهجة. لم يشاهد كثير من الضحايا منذ ذلك الحين. وظهرت بقايا مشوهة لآخرين ـ أطراف مكسورة ووجوه محطمة وجلود محروقة ورؤوس وأجساد ممزقة بطلقات الرصاص التي استهدفتها من مكان قريب، وهي المخلفات البشرية المميزة للحروب الشيشانية وأسلوب حكومتها. وحتما كانت تلك الحالات موثقة لدى إيستيميروفا. ولم توجه اتهامات لأحد تقريبا. ولكن الآن، لقد رحلت إيستيميروفا، المحققة الرئيسية التي رفضت التوقف عندما قيل لها إن الوقت قد حان للالتزام الصمت. لقد نزعت من الحياة، ومن روسيا، بالطريقة ذاتها.

* خدمة «نيويورك تايمز»