العواصف الرملية تضع العراق على مشارف كارثة بيئية

صارت مشهدا معتادا.. وجدل حول دور الحروب والجفاف

الغبار يحجب الرؤية في ساحة كهرمانة في بغداد، بعد تعرض العاصمة العراقية لعاصفة رملية، أول من أمس (رويترز)
TT

في الصباح، تستيقظ من نومك فتجد أنفك مسدودا، والمنازل والأشجار قد اختفت خلف ضباب بني خانق، والرياح الساخنة تقذف بغبار دقيق من الأبواب والنوافذ لكي تغطي كل شيء في طريقها وتضفي جوا برتقاليا مخيفا على المكان. تلك هي العواصف الرملية التي صارت مشهدا روتينيا في العراق، إلا أنها أصبحت مؤخرا أكثر تكرارا.

ويقول رائد حسين، 31 عاما، بائع التحف الذي كان مضطرا لأن يدخل ابنه ذا الخمس سنوات إلى المستشفى بسرعة خلال هبوب إحدى العواصف لأن الولد لم يكن يستطيع التنفس: «لقد أصبحت العواصف الرملية تهب علينا كل يوم تقريبا. لقد كنا نعاني من انقطاع الكهرباء ومن المتفجرات، والآن أصبحنا نعاني من تلك العواصف الرملية المزعجة». وأضاف رائد معبرا عن وجهة نظر شائعة بين العراقيين: «إنه عقاب من الله. أعتقد أن الله غاضب من أعمال الشعب العراقي».

لكن الحقيقة على الأرجح مخيفة أكثر من ذلك؛ فالعراق على مشارف ما وصفه بعض المسؤولين بأنه كارثة بيئية ليس تواتر العواصف الرملية سوى أحد مظاهرها الجلية فقط.

وتسببت عقود من الحرب وسوء الإدارة بالإضافة إلى عامين من الجفاف في خراب النظام البيئي في العراق، مما أدى إلى جفاف الأنهار والمستنقعات وتحولت الأراضي الصالحة للزراعة إلى صحارى ودمرت الأشجار والنباتات، وبصفة عامة تحول العراق الذي كان في يوم من الأيام أكثر المناطق خصوبة في المنطقة إلى أرض قاحلة.

وسيجبر انخفاض الإنتاج الزراعي دولة العراق، التي كانت في الماضي إحدى الدول المصدرة للغذاء، على استيراد نحو 80% من الغذاء خلال هذا العام وعلى إنفاق المال الذي تحتاجه فعليا في مشروعات إعادة البناء.

وأصبح الوضع البيئي هشا للغاية حتى أن هبوب أخف الرياح يمكن أن يثير كمية كبيرة من الأتربة التي يمكن أن تستمر لأيام عديدة. ويقول ليوتنت كولونيل مارفين تريو رئيس وحدة الحالة الجوية بالجيش الأميركي: «يعد هبوب العواصف الرملية من الظواهر الطبيعية المعتادة في تلك المنطقة ولكن تراكم التراب على سطح الأراضي العراقية التي جفت ساعد على تفاقم المشكلة مما أدى إلى تكرار هبوب العواصف واستمرارها لمدة أطول».

وأضاف أن الصيف الحالي والصيف الماضي قد شهدا ضعف عدد العواصف الرملية مقارنة بالسنوات الأربع الماضية. كما أنه في حوالي 35% من الوقت، كانت الرمال تقلل الرؤية إلى مسافة أقل من ثلاثة أميال وهي المسافة التي تجعل الطيران في الأوقات الطبيعية غير آمن. وفي العديد من هذه الأيام، كان مستوى الرؤية يبلغ صفرا، مما يؤدي إلى تأخير رحلات الطيران، وتعطيل عمليات الجيش وإرسال الآلاف من الناس إلى المستشفيات نظرا لمعاناتهم من مشكلات تنفسية.

ويقول آدم سلفرمان المستشار الاجتماعي للاتصالات الإستراتيجية مع برنامج «النظام البشري الميداني» التابع للجيش الأميركي وهو البرنامج الذي يخلق عامل ربط بين علماء الاجتماع وعلماء الأنثربولوجيا بالفرق المقاتلة بعدما أكد أنه لا يتحدث باسم الجيش الأميركي: «المشكلة الأساسية هي الافتقار إلى المياه فهي لها تأثير كبير على المجتمع العراقي». ويعد ذلك تحولا دراميا بالنسبة لبلد اشتهر بأنه كان المكان الذي نشأت به الزراعة قبل آلاف السنين. وكان الاسم القديم للعراق هو «بلاد الرافدين» أي الأرض التي تقع بين النهرين. وبالرغم من أن ما يقارب نصف البلد كان يعتبر صحراء، فإن السهول الخصبة التي يسقيها نهرا دجلة والفرات المقدسان كانت توفر الطعام لمعظم الشرق الأوسط.

وتقدر الآن وزارة الزراعة بأن حوالي 90% من الأراضي العراقية إما صحراء أو تعاني من حالة تصحر شديدة، كما أن حجم الأراضي الصالحة للزراعة المتبقية قد تقلص بمعدل 5% للسنة، وفقا لفاضل فراجي المدير العام لقسم مكافحة التصحر بالوزارة. وأضاف: «لقد أصبح التعرض للتصحر يماثل إصابة الجسد البشري بالسرطان. فعندما تفقد الأرض غطاءها الأخضر، يصبح من الصعب استعادتها حيث يصبح عليك التعامل معها مترا بمتر».

ومن الصعب أن تعرف من أين تبدأ في حل الشبكة المعقدة من العوامل التي تآمرت معا لكي تدفع بالعراق إلى ذلك المستوى. ولكن المسؤولين يؤكدون أن الخطأ البشري هو السبب الرئيسي وراء تلك الكارثة. ولا يوجد دليل علمي حتى الآن يؤيد فكرة أن حركة الدبابات في الصحراء قد ساعدت في إثارة الأتربة، كما يعتقد العديد من الخبراء العراقيين. ولكن العوامل الأخرى ليست محلا للمناقشة.

وفي إطار تعزيز إنتاج الطعام، شجعت الحكومة الفلاحين على حرث الأراضي القاحلة، ولكنهم يتركونها عندما تفشل عملية الاستصلاح خالية من الغطاء الأخضر الطبيعي ويغادرون. كما لعب نقص الكهرباء المزمن دورا كبيرا، حيث أصبح الناس يقطعون الأشجار للتدفئة، تاركين المزيد من الأرض عارية من الغطاء الأخضر. كما أدى نقص مصادر الطاقة إلى أن يصبح ضخ المياه إلى قنوات الري التي تروي الأراضي البعيدة عن مجرى النهر أمرا صعبا. وبالإضافة إلى نقص مصادر الطاقة بصفة عامة، فإنه في بعض الأيام كان يتم إغلاق محطات الطاقة لعدة أيام نظرا لعدم توافر المياه. ثم جاء الجفاف الذي عم البلد وقضى على المقدار المتاح من المياه؛ حيث انخفض معدل تساقط الأمطار العام الماضي بنسبة 80% عن المستويات الطبيعية؛ وبلغ معدل تساقط الأمطار خلال العام الحالي نصف المعدل المعتاد.

كذلك قلصت كل من تركيا وسورية، اللتين تتحكمان في مساقط نهر الفرات، من معدلات تدفق النهر إلى النصف لكي يتمكن الأتراك والسوريون من التعامل مع مشكلاتهم الناجمة عن الجفاف، وذلك وفقا لأوان عبد الله رئيس المركز القومي لإدارة الموارد المائية.

وتم تحويل المياه من نهر دجلة ليستمر نهر الفرات في التدفق، مما أسفر عن مواجهة المجتمعات التي تعيش على ضفتي النهر للعديد من المشكلات. كذلك، كانت إيران تبني سدودا على روافد النهر الذي يصل إلى العراق مما جفف مجرى النهر في شرق البلاد. وتمتد تلك التأثيرات أبعد من الهبوب المزعج للعواصف الرملية، حيث لم تعد مياه الشرب متوافرة في العديد من المناطق الجنوبية حيث تتسرب مياه البحر إلى الأنهار الجافة.

كما أن الأهوار الشهيرة في جنوبي العراق والتي قام الرئيس السابق صدام حسين بتجفيفها وأعيد ضخ المياه إليها بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003 تتعرض حاليا للجفاف. ثم إن سكان الأهوار المحليين الذين كانوا يعتمدون على تلك الأهوار في معيشتهم، اضطروا إلى الرحيل مرة أخرى.

وفي المدن، يتنافس المهاجرون الريفيون مع فقراء تلك المدن على الوظائف والموارد القليلة المتاحة ويلجأ بعضهم في حالة من حالات اليأس إلى الجريمة أو التمرد. ثم تأتي العواصف الترابية التي تنقل كارثة الريف مباشرة إلى حجرات المعيشة للمقيمين في المدن. ويشبه الغبار المتساقط من تلك العواصف في كثافته مسحوق «التلك»، ويستطيع ذلك الغبار أن يجد طريقه إلى الخزانات والأركان بالإضافة إلى مجرى الأنف والرئتين.

ويقول إبراهيم جواد شريف المسؤول عن مراقبة التربة بوزارة البيئة: «إنه يتسبب في مشكلات صحية. كما أنه يضر بالأعمال ويدمر الآلات، بالإضافة إلى تأثيراته النفسية. إنها كارثة تؤثر على كافة مناحي الحياة في العراق».

ويتطلب إصلاح المشكلة ضخ قدر هائل من التمويل وهو ما يفوق قدرة الحكومة العراقية وحدها، وذلك وفقا لوزيرة البيئة نرمين عثمان. وتضيف: تحتاج الدولة إلى المساعدة الدولية لتستطيع ضخ الحياة في الزراعة والأشجار والنباتات، بالإضافة إلى المساعدة في التفاوض على اتفاقيات المشاركة في المياه مع كل من تركيا وسورية وهو ما أهملت القيام به الحكومات السابقة.

ويقول مسؤول غربي مطلع على جهود تنشيط الزراعة في العراق رفض الإفصاح عن هويته إن مسألة إمكانية حل تلك المشكلة هي مسألة أخرى، مضيفا: «للحكومة أولويات أخرى. المسألة تتعلق بما إذا كانوا سوف يهتمون. كما أن القضية تحتاج إلى مساعدة ضخمة على مدار فترة طويلة المدى. نحن نتحدث عن أجيال».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»