مسنون عراقيون فقدوا الرعاية الأسرية.. ليجدوا أنفسهم في «دار الرحمة»

جاءوا من جميع أنحاء العراق وكل يحمل قصته

TT

هؤلاء هم المسنّون من الرجال والنساء الذين شهدوا الدولة التي كان يحكمها صدام حسين، والغزو الذي قادته الولايات المتحدة، والحرب الأهلية التي تغذيها الطائفية الدينية، وهم الآن مودعون بأحد المنازل التي تقع على نهر دجلة، يقضون الوقت على الأسرّة المفروشة بالملاءات وردية اللون في حجرات تكتسي جدرانها باللون الأبيض وتفوح منها رائحة تمتزج فيها رائحة العرق برائحة مياه المجاري الموجودة خارج نوافذهم.

يأتي نزلاء «دار الرحمة» من كافة أنحاء العراق، بما يشمل السنة والشيعة والمسيحيين، ويموله دجل الدين الشيعي آية الله حسين الصدر. وهو مبنى يتألف من طابقين افتتح في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 ويستضيف نحو 43 رجلا وامرأة من الذين ليس لديهم مكان آخر لكي يذهبوا إليه.

وبعد الظهيرة يجتمع النزلاء على طاولات بلاستيكية في حجرة الطعام لكي يتناولوا وجبة من لحم الضأن قبل أن ينتقلوا إلى الصالة لكي يتبادلوا الحديث معا، أو ليجلس كل منهما على حدة يسترجع ماضيه ويسترجع الأوقات التي كان لا يزال لديه أسرة وأحباء وكانت لديه صحة وسعة في الرزق.

لقد كانت العادات والتقاليد في العراق تقتضي أن يعيش المسنون مع أقاربهم، ولكن الظروف قد ساءت خلال السنوات الماضية، وتخلت بعض الأسر عن الآباء أو الإخوة والأخوات. وانتقل بعض المسنين إلى «دار الرحمة» بعدما أرسلهم أحد الأقارب، بينما أتى البعض الآخر بعدما أرسلهم المستشفى أو مخفر الشرطة نظرا لوقوفهم أمام أحد المساجد وهم مفلسون.

يقول المدير هادي حامد طايع إن هؤلاء النزلاء في الأغلب ضحية للعنف أو للظروف الاقتصادية القاسية التي أعقبت الغزو الذي قادته أميركا قبل ست سنوات. ويعتقد السيد طايع أن عائلاتهم لم تكن لترسلهم إلى «دار الرحمة» قبل الحرب، مضيفا: «هذه الظاهرة جديدة تماما. ووفقا لديننا، فإن التخلي عن الوالدين أمر غير مسموح به. وعلى العكس من ذلك، فإن الإسلام يأمر بأن نعتني بهما عناية خاصة».

وفي عام 2003، وهو العام الذي بدأت فيه الحرب، كان هناك منزلان تديرهما الدولة للمسنين في بغداد. وبالإضافة إلى «دار الرحمة» يوجد منزلان خاصان تم افتتاحهما بعد ذلك في بغداد، بالإضافة إلى افتتاح بعض البيوت الأخرى جنوبي العراق. يقول طايع: «إن الظروف الصعبة التي واجهتها البلد ـ القتال والقتل، والتهجير ـ كانت كلها عوامل تركت العجائز مشردين وبلا مأوى».

وفي ذروة العنف في عام 2007 كان يوجد في «دار الرحمة» نحو 73 نزيلا، ولكن بعدما تحسن الموقف جاء بعض الأولاد واستعادوا أقاربهم. ولدى الدار أسرّة قابلة للطيّ وبالتالي تسمح لها باستيعاب المزيد من المسنين الذي قد يطرقون بابها بشكل مفاجئ، وطوال الوقت يتوافد المزيد من المسنين، ضحايا العنف والفقر وعدم الاستقرار.

ويعد هؤلاء النزلاء شهودا على ما تعانيه البلد، فهناك امرأة، 84 عاما، فقدت أسرتها بأسرها وتم تفجير منزلها في البصرة العام الماضي، وهي ترقد الآن منكمشة على نفسها في أحد الأسرّة. وهناك رجل في الثمانينات من عمره فقد قدراته العقلية في سجون صدام حسين، ويتحدث بطريقة غير مفهومة في أثناء تدليكه لرؤوس الناس لإظهار قدراته الخارقة. ثم هناك هؤلاء الذين تكمن آلامهم في تذكر الأشياء التي خسروها وحنينهم إلى الأيام السعيدة التي عاشوها في الماضي.

نجية عبد الله حسين، 72 عاما، امرأة نحيلة لها نظرة خائفة وقليلة الحيلة، كانت قبل عشرة شهور تعيش مع أختها الصغرى وعائلتها في حي الحرية بغربي بغداد. وتقول نجية إن أختها في ذلك الحين صرخت في وجهها آمرة إياها بالرحيل: «لا أستطيع الاعتناء بك، اذهبي إلى إخوتك». وتقول نجية إنها خرجت وأخذت تمشي في الحارات، بين النخيل والمنازل المبنية من الطوب الملون باللون الأصفر، متجهة نحو الضفة الغربية للنهر. فلم يعد أحد يرغب فيها، وبالتالي فقد قررت أن تلقى بنفسها فيه.

قالت إنها كانت تحيي المدينة تحية الوداع كلما تقدمت نحو النهر، تحيي المدينة التي عرفتها، الشوارع التي كانت تركب فيها العربات التي يجرها الحصان بصحبة والدها في الإجازة الأسبوعية وتتجه إلى ضريح الإمام كاظم بقبته الذهبية، والزوار الشيعة الذين يرتدون السواد وهم يدخلون إلى ساحة الضريح المقدسة. وفي بغداد التقت نجية بزوجها، الذي كان يعمل رقيبا بالجيش خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم، أول رئيس وزراء للعراق بعد سقوط الملكية في 1958.

وكانت نجية هي الزوجة الثانية لزوجها، وهي الزوجة التي قضى معها الزوج معظم أوقاته لأنها كانت أصغر وأجمل من الأخرى، وقد عاشا معا لمدة 20 عاما قبل أن يموت زوجها متأثرا بأزمة قلبية. وقد عادت إلى حي الحرية كأرملة لكي تعيش مع أمها وتساعدها في رعاية إخوتها الخمسة، وهو نفس المكان الذي شهد تعرضها للهجر بعد ذلك بسنوات.

وصلت نجية أخيرا إلى نهر دجلة وهي على استعداد لإلقاء نفسها في مياهه، ولكن أحد رجال الشرطة لمحها وجذب جسدها النحيل بعيدا عن ضفة النهر. وبعدما قضت بعض الوقت في المستشفى، وبعدما لم يسأل عنها أي أحد من أفراد أسرتها أرسلوا بها إلى «دار الرحمة».

وتشير نجية إلى طايع ـ مدير الدار ـ وهو رجل أصلع ذو شعر رمادي، وتقول إنه مثل الوالد بالنسبة لها: «لقد كنت مرتبكة وبلا حيلة ولم يكن لدى مكان أذهب إليه». ولكن الكثير من الحقائق تبدو مشوشة بالنسبة لها، فهي لا تستطيع تذكر اسم صدام حسين، كما أنها لا تعرف إذا ما كان هناك رئيس للعراق أو رئيس وزراء.

ولكن ما يقبع بوضوح في ذاكرتها هو هجران عائلتها لها، وعطف أمها عليها، والأيام التي أعقبت ثورة 1958 عندما كان زوجها يحبها، ومكافئة حكومة قاسم لهم بقطعة أرض في الأرض التي عرفت بعد ذلك باسم بغداد الجديدة، والتي كانت في ذلك الوقت منطقة ريفية ولكنها سرعان ما تحولت إلى متاهة من المنازل المتجاورة. وتقول نجية: «بعد قاسم تدهورت الأمور، وأتى الغرباء وأفسدوا كل شيء». وكان صوتها يبدو مجروحا وهي تشير إلى قادة حزب البعث، ثم تعتذر لأن الصداع قد ألم بها.

ويهز حسن غازي، 77 عاما، رأسه وهو جالس في الصالة؛ فهو لم يتوقع أن ينتهي به الحال هناك. يرتدي غازي نظارة شمس بنية اللون ويمشط شعره بعناية إلى الوراء، وعندما رفع النظارة الشمسية كشف عن عيون زرقاء اللون، ثم فتح فمه الذي يخلو من الأسنان الأربعة الأمامية وسأل كيف يمكنه استبدال تلك الأسنان.

تقاعد غازي الذي كان يعمل كسائق لشاحنة بإحدى المصالح الحكومية في عام 2000، وبعد ذلك بعام توفيت زوجته وبدأ في فقدان البصر. فيقول: «لقد اعتقدت أنني سوف أعيش بحرية. كنت أعتقد أنني سوف أرتدي ملابسي وأذهب إلى المقهى وأشرب الشاي وأدخن النرجيلة. ولكنني أكره الرجوع إلى المنزل الخاوي؛ فقد كانت زوجتي تجعلني ـ يتذكر بأسى ـ تجعلني أنسى متاعبي وهمومي. لقد كانت تلقي علي بالنكات وتسخر مني أحيانا». وقلما يترك غازي منزله بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث تتنامى إلى مسامعه قصص الجثث التي يعثر عليها في الشوارع، والمسلحين الذي يختبئون في الحارات. يبتسم بدفء وهو يفكر في الأوقات التي كانت الحياة فيها أبسط عندما كان صبيا وكان والده يرتدي قبعة من الريش خلال فترة خدمته في الجيش أيام الملكية. كان غازي يحاول استدعاء ذكرياته مرة كل أسبوع، فكان يستقل عربة أجرة ويتجول على ضفة النهر وداخل متاهة المنازل الكالحة ذات اللون الأصفر في بغداد القديمة، ووجهته النهائية هي مقهى «الشابندر» في نهاية شارع المتنبي الذي يشتهر بسوق الكتب. يقول غازي: «لقد كنت أذهب إلى هناك من 1973، ولم أذهب إلى أي مكان آخر قط. إنه مكان ظريف ويجذب المثقفين والمحامين وكل النخبة الثقافية».

ثم أخرج غازي صورة من محفظته باللونين الأبيض والأسود، كان يبدو فيها شابا له شعر أسود وشارب وعيون صافية. ويقول غازي إنه كان في الثلاثين من عمره في تلك الصورة، مضيفا: «لقد كنت سعيدا للغاية في تلك الصورة». ثم نظر بعيونه التي ترمش بسرعة إلى الصالة حيث يحدق الرجال الذين يماثلونه في الفضاء، فكل منهم يحمل صورة في جيبه يظهرون فيها وهم شباب يتمتعون بالصحة.

سوف يستدعيهم طايع مرة أخرى لتناول الطعام، وسوف يرقد البعض في حجراتهم حتى ذلك الوقت أو حتى تأتيهم زيارة غير متوقعة من أحد الأقارب. ويقول طايع: «لدينا الكثير من القصص هنا».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»