من ذاكرة المام ـ رئيس: جلال طالباني: لا أملك عقارا في العراق.. وكل ما عندي شقة نملكها أنا وزوجتي في دمشق اشتريناها عام 1975

الرئيس العراقي يخص «الشرق الأوسط» بأحاديث مطولة عن ذكرياته وتاريخه السياسي (الحلقة 1)

طالباني أثناء حديثه لـ«الشرق الأوسط»
TT

كيف يمكن لنا أن نلملم أطراف ذكريات رجل بدأ ينسج تاريخه الاجتماعي والثقافي والسياسي وهو في سن العاشرة من عمر طفولته.. نسيج فيه من التعقيد وتشابك العلاقات ما قد يجعل الناسج نفسه يضيع رأس الخيط. فهو سليل عائلة متدينة، آباؤه وأجداده من المشايخ الذين توارثوا مشيخة التكية الطالبانية في كركوك وكويسنجق، لكن حياته أخذت منحى آخر، ومنذ طفولته ذهب إلى السياسة مباشرة، ومال بل وتثقف على الأفكار اليسارية، وجمع في دراسته ما بين التعليم الاعتيادي في مدرسة كويسنجق الابتدائية الأولى، ومضي متفوقا حتى نهاية المشوار الدراسي، وبين التتلمذ على أيدي المشايخ في التكية متعلما أصول الدين الإسلامي والفقه وحفظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وتعلم اللغة العربية إلى جانب لغته الأم، الكردية، من أجل أن يفهم معاني قصائد الجواهري ويقرأ الصحف البغدادية، وهو أبعد ما يكون جغرافيا عن عاصمة بلده. فهو لم يفرط بفرصته في التعليم الاعتيادي، ولم يضحي بالتتلمذ الديني تحت سقف التكية، وبذلك مسك بالتفاحتين بيد واحدة.

تاريخ كلما تقدم خطوة بدا أكثر تشابكا وتعقيدا وصعوبة، ونسيج كلما اتسع صار أكثر ثراء من حيث تنوعه اللوني وثرائه الشكلي، وعمقه الفكري، ومع ذلك بقي الناسج ممسكا بكل خيوطه على الرغم من تعددها، مؤسسا سيرته الحياتية صخرة فوق صخرة، حتى بلغت هذه السيرة، وذلك التاريخ جبلا يضاف إلى جبال كردستان العراق التي يشار لها بالبنان، مثلما يقال. تلك هي سيرة وذكريات وتاريخ الرئيس العراقي جلال طالباني الذي كان علينا أن نذهب معه إلى أصوله الأولى، إلى منبعه الأول، ذاكرة مروية، وأمكنة نزورها، ومعايشة لصيقة أتاحها على مدى شهر كامل، الرئيس طالباني لـ«الشرق الأوسط»، وبجهد بذله الدكتور فؤاد معصوم، ابن بلدته (كويسنجق) ومختصرها كويا، الذي لازمه منذ دراسته الابتدائية وحتى اليوم، وعبر جميع مراحله.

* طالباني: غارنر وخليل زاد قررا تشكيل حكومة وطنية مؤقتة برئاستي.. لكن بريمر رفض

* قال إنه عندما قبل الرئاسة قرر خلع الزي الكردي ووضع العباءة العراقية «لأنني رئيس كل العراقيين»

* الفكرة انبثقت في الربيع الماضي، 2008، عندما فاتحنا مباشرة الدكتور فؤاد معصوم، القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، ورئيس الكتلة الكردستانية في مجلس النواب (البرلمان) العراقي، والمقرب جدا من الرئيس طالباني، هي أن نكتب جزءا من تاريخ أو مذكرات الرئيس لغرض نشرها في حلقات على صفحات «الشرق الأوسط». الرجل رحب بالفكرة وتحمس لها، لكن ذلك لم يكن كافيا لتنفيذ مثل هذا المشروع، ذلك أن «الرئيس مشغول، ومنشغل باستمرار، فبالإضافة إلى مسؤولياته كرئيس الجمهورية، هو الأمين العام لواحد من أكبر الأحزاب السياسية الكردية والعراقية، الاتحاد الوطني الكردستاني»، إلى جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني، أول الأحزاب الكردية في العراق، الذي أسسه الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني، والذي يقوده اليوم نجله مسعود بارزاني.

سأل معصوم قائلا: «وكيف سيتم تنفيذ الفكرة، هل ستوجهون إليه الأسئلة مكتوبة ويجيب عنها خلال أوقات فراغه، أم لقاءات مباشرة»، أجبنا بأن الأسلوب الأكثر مناسبة هو اللقاءات المباشرة والمعايشة القريبة لحياته اليومية. وهنا بدا الموضوع أكثر تعقيدا وصعوبة، قال: «سيأخذ ذلك وقتا طويلا، وسيتوجب عليكم مرافقته ما بين بغداد والسليمانية».

وما بين بغداد ولندن والسليمانية وكويسنجق ودوكان كانت الاتصالات الهاتفية والرسائل عبر البريد الإليكتروني مع الدكتور معصوم تجري، وأول الأنباء الطيبة كانت هي أن الرئيس طالباني وافق على الفكرة، محددا أن تكون لـ«الشرق الأوسط» حصرا، وأن نجري نحن هذه اللقاءات، وأن نتمتع بطول صبر لمتابعته لإجراء الأحاديث.

وفي ربيع هذا العام حصلنا على الموافقة ببدء التنفيذ على أن يتم التنسيق مع مكتب سكرتارية الرئيس، الذي أبدى كثيرا من التعاون، لوضع الجدول الزمني لإجراء اللقاءات والأحاديث. وعندما وصلنا إلى بغداد، استقبلنا ربيع العواصف الترابية، تلك العواصف التي كانت قادرة على شل حركة الحياة، وأولها حركة الطيران، لكن العراقيين الذين تحدوا صعاب كثيرة؛ صعاب الحروب والقصف الجوي والبري والبحري، وسلسلة المفخخات والعبوات اللاصقة، وجرائم الاختطاف والقتل العشوائي، وجدناهم يملأون العاصمة العراقية حركة وازدحاما حتى وهم يتنفسون التراب الأحمر الناعم وكأنهم يسابقون الزمن تعويضا عما يفوتهم من فرص، وهذا الوضع سائد حتى في حركة السياسيين.

لم يكن الطريق طويلا بين مطار بغداد الدولي ودار الضيافة التابع لمكتب رئيس الجمهورية، الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة عن مسكن الرئيس طالباني نفسه، اجتزنا قصر السلام الرئاسي بقببه ومنائره المذهبة المستوحاة من وصف بغداد في ألف ليلة وليلة، أوضح مرافقي أن هذا القصر كان أحد قصور صدام حسين، ويطلق عليه تسمية قصر السندباد، لكن الرئيس طالباني أمر بإعماره واعتباره قصرا رئاسيا لاستقبال كبار ضيوف العراق فيه، وهو يقع مباشرة على نهر دجلة ولا يبعد كثيرا عن مكتب ومسكن الرئيس نفسه. مررنا عبر نقاط الحراسة بسلاسة بالغة، فالمعروف في بغداد أن مكتب الرئيس وسكرتاريته يبلغون درجات عالية ودقيقة من التنسيق ولا مجال لارتكاب الهفوات أو الأخطاء، وهذا مستمد من شخصية الرئيس طالباني ذاته حيث أدركت مدى دقته ومتابعته لتفاصيل الأمور، إذ كان كل شيء مهيئ من الألف وحتى الياء، اسم الزائر وهدف زيارته موجود لدى نقاط التفتيش وضباط الحراسة، وجميعهم من مقاتلي البيشمركة القدامى أو الجدد، حيث يبادرون الزائر بالابتسامات وبكلمات الترحيب العربية والكردية «أهلا وسهلا»، «سرجاو»، مفردة كردية أحببتها وتعني «من عيوني».

في دار الضيافة تعرفت على صحافيتين من فنلندا، تعملان لصالح إحدى المحطات التلفزيونية الفنلندية، محررة ومصورة، كانتا قد وصلتا إلى مطار أربيل عبر فينا، ومن ثم سافرتا إلى السليمانية للقاء الرئيس، ومن السليمانية إلى بغداد، وسيتحتم عليهما مرافقة الرئيس طالباني إلى السليمانية في اليوم التالي، كل هذا من أجل لقاء تلفزيوني لا تزيد مدته عن الأربعين دقيقة كان قد تحقق بعد انتظار طويل دام لأكثر من ثلاثة أسابيع.

كانت المحررة آنا تعرف الرئيس، فقد التقته للمرة الأولى عام 1991 في جبل ماوت عندما كان يتخذ من بناء دمره قصف مدفعية القوات الحكومية وقتذاك، مكتبا له، «كان مكتبا بلا سقف وبلا شبابيك وأبواب وكانت ترافقه زوجته هيرو خان وقتذاك والبرد كان شديدا على الرغم من إشعال الحطب للتدفئة وسط الغرفة»، قالت آنا، حتى إنها عندما سألت الرئيس طالباني فيما بعد عن الفرق بين مكتبه في جبل ماوت وفي بغداد، أجابها مباشرة بأن «هذا المكتب فيه سقف وشبابيك وأبواب وذاك كان عاريا»، مستطردا بقوله: «أنا لا يهمني أين وماذا يحتوي المكتب؟ المهم هو مكان أستطيع أن أدير من خلاله شؤون الدولة أو الحزب، فقد عشنا سنوات طويلة في الجبال بين الكهوف والأكواخ الطينية ونحن نقود حزبنا وثورتنا الكردية حتى حققنا نصرنا».

أبلغني أحد أعضاء السكرتارية أن الرئيس على علم بوجودي، واقترح علي أن أستريح هذه الليلة و«غدا ستقابله ظهرا حيث ستسافر معنا إلى السليمانية بعد الظهر». في ظهيرة اليوم التالي وبينما كنت أفكر بالوقت والطريقة التي سأقابل بها الرئيس طالباني، وصل أحد مرافقيه وطلب مني مصاحبته إلى مكتب الرئيس الذي كان لا يبعد سوى دقيقتين عن دار الضيافة، وبينما كنا نشرب الشاي البغدادي، دخل علينا الرئيس بهدوء، حيث ابتسامته المعهودة وحياني، قائلا: «أهلا بالأخ والصديق». كان حيويا، ينبض بالنشاط، فقد كان قد أنجز منذ صباح ذلك اليوم كثيرا من الأمور الرئاسية، كما أدلى بحديث لصالح محطة تلفزيونية بريطانية وباللغة الإنجليزية. سألني عن «الشرق الأوسط» والعاملين فيها، مبديا متابعته الكاملة لما تنشره، ثم لخص لي وبحسه الصحافي العالي خطة عملنا، وقال: «أنت سترافقني وستكون قريبا مني، إذ ليس المهم ما سأقوله في الأحاديث المباشرة بيننا فقط، بل المهم أن تتطلع على أسلوب عملي وحياتي مثلما هي، وفيما بعد أنت حر فيما تكتب وتنقل للقارئ، فهذه مسؤوليتك وعليك ممارستها بحرية وبمعزل عن موافقتنا أو عدمها».

كان الرئيس طالباني يتحدث إلي كزميل في المهنة الصعبة، إذ اعترف خلال أحاديثه لنا بأنه أقرب إلى الصحافة من السياسة، وكان قد ترأس صحيفة «كردستان» بين عامي 1959 و1960 التي كانت تصدر باللغة الكردية في بغداد، كما أنه كان يكتب باستمرار في صحيفة «خابات» أي الشعب، وهو من الصحافيين العراقيين الرواد، حيث كان عضو الهيئة الإدارية لأول نقابة صحافيين عراقية ترأسها الشاعر محمد مهدي الجواهري، وحسب قوله «كنت أتمنى أن أصدر صحيفة في ظل عراق ديمقراطي، وهذه كانت أهم أمنياتي»، ولهذا منح من قبل عدد من الصحافيين العراقيين القدامى، بينهم فائق بطي وفخري كريم، هدية «الرقيم الذهبي» بمناسبة عيد الصحافة العراقية باعتباره أحد أبرز روادها. كان على مائدة الغداء ذلك اليوم الدكتور إياد علاوي الذي زاره على رأس وفد من القائمة العراقية، وشدد عليه بأن يبقى رئيسا للعراق وأن يرشح نفسه لولاية قادمة باعتباره الرجل المناسب لهذا الموقع.

كان الرئيس قد صرح قبل فترة من هذا اللقاء بأنه يفكر بالتقاعد من منصب رئيس الجمهورية وأن يتفرغ لكتابة مذكراته، لكن فصائل سياسية عديدة طلبت منه التراجع عن هذا القرار الذي قال عنه لـ«الشرق الأوسط»: «سوف أفكر بهذا الموضوع في حينها».

اشتدت العاصفة الترابية بعد ظهر ذلك اليوم، مما هدد بإلغاء رحلتنا إلى مدينة السليمانية، ولأن أحدا لم يبلغنا بإلغاء الرحلة فبقينا على استعداد في انتظار الانطلاق نحو المطار، لا سيما أن حقائبنا كانت قد سبقتنا إلى الطائرة، بينما كان الرئيس طالباني يواصل لقاءاته مع بعض المسؤولين وقادة بعض الأحزاب والتيارات السياسية، كان من بينهم طارق الهاشمي، نائب الرئيس.

بعد الخامسة مساء أبلغنا بأن موكب الرئيس سوف يتحرك باتجاه مطار بغداد الدولي، قبل ذلك ومنذ وقت مبكر تم تحديد أسماء المغادرين معه وأرقام السيارات التي ستقل كل مجموعة، بل وترتيب السيارة في الموكب.

لم يكن موكب رئيس الجمهورية مثلما توقعت، إذ إن مواكب كثير من المسؤولين الأقل منصبا منه كانت تضم كثيرا من الحمايات والعربات المدرعة، بينما اقتصر موكب الرئيس طالباني على عربة مصفحة واحدة في المقدمة، تتبعها سيارة ذات دفع رباعي لتنسيق الموكب ثم سيارة الرئيس، فبقية سيارات المرافقين له من ضيوف وأعضاء مكتب سكرتاريته ومرافقيه الشخصيين، كانت حمايته تتكون من البيشمركة فقط ولم يكن بينهم أي فرد من القوات الأميركية أو من أية قوات أجنبية، وما أثار انتباهنا هو أن مرور موكب رئيس الجمهورية بين شوارع بغداد نحو المطار لم يتطلب قطع حركة السير أو إرباك حركة الطيران في مطار بغداد الدولي.

لم تكن هناك طائرة رئاسية أو طائرة خاصة لرئيس الجمهورية، بل كانت هناك طائرة اعتيادية من طائرات الخطوط الجوية العراقية، طائرة صغيرة هي ذاتها التي تقوم بالرحلات الاعتيادية إلى أربيل والبصرة والسليمانية، وطاقمها كان من موظفي العراقية، حتى في داخلها لم يكن هناك امتيازات تذكر كونها طائرة من نوع آخر، طلب بعض أعضاء الطاقم التقاط بعض الصور التذكارية مع الرئيس طالباني فرحب بالفكرة وتبادل أطراف الحديث معهم، مستفسرا عن أحوالهم وظروف عملهم، ثم أخرج كتابا يقرأه خلال الخمسين دقيقة التي هي مدة الرحلة من بغداد حتى السليمانية.

حتى في السليمانية التي تعد معقل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وحيث يستقر الرئيس العراقي، فإن موكب طالباني لم يقطع حركة السير في الشوارع، بل كانت الحياة تتدفق ليلا.

يقع بيت الرئيس طالباني، وهنا كان علينا أن نتعود على لقب الرئيس كرديا باعتباره «مام جلال»، وتعني «العم جلال» وليس الرئيس طالباني، على سفح جبل، ويطل على جزء كبير من المدينة، البيت مؤثث بالأعمال الفنية التشكيلية من لوحات ومنحوتات، قالت زوجة الرئيس هيرو خان إنها تختار هذه الأعمال بعناية بالغة، اختيارات تنم عن وعي ومعرفة وفهم دقيق لموضوع العمل وبنائه وألوانه التي تتناسق مع كل ما موجود في البيت من أثاث ينم عن ذوق رفيع يجمع بين البساطة والجمال.

بروحها البسيطة وابتسامتها وحديثها الذي يوحي بالثقة العالية بشخصيتها، وعلى الرغم من بساطتها التي تلغي المسافة بينها وبين الآخرين، رحبت بنا صاحبة البيت، هيرو خان، سألتها إن كانت تفضل بين البقاء في السليمانية أو بغداد، قالت: «أنا أحب بغداد لأنني أمضيت فيها جزءا من حياتي ودرست في إحدى جامعاته، المستنصرية، لكنني أفضل البقاء في السليمانية لأشرف على إعالة منظمتي التي تهتم بالأطفال، وعلى العموم فأنا منذ تزوجت وحتى اليوم لا أعرف الاستقرار، سنوات متنقلة في الجبل، ثم بين دمشق والسليمانية، والآن بين السليمانية وبغداد، وهكذا».

قلت: «بيتكم يبدو جميلا»، ابتسم الرئيس طالباني وعلق قائلا: «هذا ليس بيتنا، هذا البيت مسجل في دائرة العقاري باسم الاتحاد الوطني الكردستاني، ولو تراجع دوائر تسجيل العقاري سواء في السليمانية أو بغداد، أو أية مدينة عراقية لن تجد هناك عقار واحد أو قطعة أرض مسجلة باسمي أو باسم زوجتي، نحن نملك شقة واحدة في دمشق اشتريناها عام 1975، أما مخصصاتي كرئيس جمهورية فهي مخصصة لمساعدة المثقفين والسياسيين والعراقيين المحتاجين، ولك أن تطلع عليها بنفسك وسترى كيف هي موزعة»، ثم استطرد قائلا: «زوجتي غالبا ما تقول لي نحن إذا متنا فسوف تدفننا البلدية لأننا سنموت وليس معنا أية فلوس، فقلت لها إن شعبنا سوف يكرمنا وقتذاك».

على مائدة العشاء كان هناك ديك رومي مشوي وبعض الأرز ومرقة باذنجان وكباب السليمانية الشهير، قال الرئيس طالباني، «اسمعوا هذه النكتة، عندما تمرضت قال العراقيون إن الرئيس قضى على الديك الرومي لأنه يناسب صحته، وعندما شفي من مرضه قضى على الخرفان لأن الناس نحرتها قربانا لله حمدا على سلامته». بعدها سأل إن كان أحدنا قد سمع بنكتة جديدة عن طالباني، فقلت له اسمحوا لي أن أروي هذه النكتة، فقال: «تفضل أرجوك فأنا أجمع كل النكات التي تروى عن طالباني»، فأخبرته بواحدة كنت قد سمعتها ببغداد قبل يوم، ضحك وقال: «هذه جديدة، شكرا»، ذلك أن الرئيس طالباني يروي النكات عن نفسه ولكنه يقول عادة اسمعوا هذه النكتة عن جلال طالباني، أي إنه يرويها وكأنها عن شخص آخر، ثم استطرد قائلا: «عندي مشروع لإصدار كتاب أجمع فيه كل النكات التي قيلت عن طالباني».

سالت الرئيس في سلسلة أحاديثنا المباشرة هذه «ماذا تحبون أن يناديكم الناس؟»، فأجاب على الفور وبلا أية مقدمات: «مام جلال طبعا»، ثم استطرد قائلا: «أنا أحب هذا اللقب الذي عرفت به طوال حياتي».

وبعد شهر من اللقاءات والمعايشة اليومية للرئيس العراقي توصلت إلى نتيجة مهمة، وهي أن هذا الرجل الذي يحفل تاريخه بإنجازات سياسية وحياتية لو وزعناها على عدد سنوات عمره، لزادت، لا يمكن أن يكون سوى «مام جلال»، سواء كان مناضلا سياسيا، أو مقاتلا في الجبل، أو زعيما لحزب سياسي، أو رئيسا لجمهورية العراق،، يستقبل ضيوفه ويتحدث مع الناس، وينجز أعماله بكل تواضع وبساطة، حوله مستشارون ومساعدون ومكتب سكرتارية يتفانون من أجل تقديم أية خدمة له، يعرفهم بأسمائهم، فغالبية أعضاء مكتب سكرتاريته هم من أبناء شهداء الثورة الكردية، رفاق سلاحه، أو ممن قاتلوا معه في الجبل، يتحدث معهم مثل الأخ أو الأب، وهكذا هو مع الآخرين، ففي الطريق من دوكان إلى قره داغ، متوغلين إلى الارتفاعات الجبلية لحضور مهرجان عشائر الجاف الثقافي السنوي، تعمد «مام جلال» أن يكون موكبه مختصرا جدا، وعند وصولنا إلى ما قبل موقع المهرجان، حيث كان الازدحام على أشده، ومئات السيارات تحاول أن تشق طريقها إلى الموقع، لم يقم أفراد حماية الرئيس بالتدخل لإفساح الطريق أمام موكب الرئيس، كما لم يتدخلوا وبتوجيهات مشددة منه، بإبعاد الناس عنه، حيث تأخر الموكب ريثما يكون طريق أمام السيارات الأخرى، وكان أفراد الشرطة المحلية هم من ينظم السير، وطوال فترة الانتظار فتح «مام جلال» نافذة سيارته وراح يتحدث مع أهله من الأكراد، مع مواطنيه، يستمع إليهم ويضحك ويسأل عنهم ويفرح للأخبار الطيبة، وفي السرادق الذي جلس تحته استقبل عددا كبيرا من المواطنين الذين جاءوا لتحيته والتقاط الصور التذكارية معه.

كنت أستغرق مفكرا بينما الرئيس طالباني يتحدث لي عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكيف أنه (صدام حسين) لم يعف عن طالباني، أو عندما كان يجلس معه للتفاوض لإيجاد حل للقضية الكردية، وأتساءل: هل كان طالباني يفكر وقتذاك أو يتوقع أن يكون رئيسا لجمهورية العراق؟ يجيب، «مام جلال»، عن هذا التساؤل قائلا: «في خارطة حياتي لم أضع في أي من محطاتها شيء اسمه رئاسة الجمهورية، وفي بداية حياتي كان طموحي أن أكون أستاذا في الجامعة، وعندما انخرطت في العمل السياسي كنت أعمل من أجل نظام ديمقراطي وإصدار جريدة، لم أكن أخطط لتحمل مثل هذه المسؤوليات، حتى في المفاوضات التي جرت مع الحكومات العراقية، لم أرشح نفسي لأي منصب، وذات مرة طلبوا مني ذلك ولم أوافق. كنت أتمنى أن أكون رئيس تحرير صحيفة كما كنت في بغداد عامي 1959 و1960، رئيس تحرير صحيفة «كردستان» بالكردية، وعضو في صحيفة «خابات»، فأنا عضو الهيئة الإدارية لنقابة الصحافيين العراقيين عام 1959 والتي كان نقيبها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، أو في أبعد الحدود أن أكون نائبا في البرلمان العراقي إذا توفرت ظروف، لكني كنت أتصور أنه في ظل عراق ديمقراطي يمكن أن يكون الرئيس شخصا كردي، لكنه ليس جلال طالباني، وقد حدث في تاريخ الدولة العراقية أن تسلم الأكراد مناصب مهمة، مثل علي صالح السعدي، وهو كردي من أربيل، وطاهر يحيى، كردي وصار رئيس وزراء في العراق».

إذن، كيف وجد طالباني الطريق إلى الرئاسة؟ من رشحه لهذا المنصب الذي لم يفكر فيه على الإطلاق؟ يقول الرئيس: «اقترحت القيادة الكردية أن يرشح مسعود بارزاني لرئاسة الإقليم وأن أرشح أنا لرئاسة جمهورية العراق، كان هناك رأيان داخل المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني، الأول كان يرى بقائي في السليمانية وقيادة الحزب والإشراف على الأوضاع والحكومة المحلية أفضل من الذهاب إلى بغداد، والرأي الثاني كان يعتقد أن وجودي ببغداد كرئيس للجمهورية أفضل للعراق ولنا، أنا شخصيا كنت مع الرأي الأول وما كنت أريد الذهاب إلى بغداد، وبعد نقاشات طويلة أخذنا برأي الأكثرية التي كانت مع ذهابي إلى بغداد والترشح لرئاسة الجمهورية».

لكن «مام جلال» لم يخضع لرأي الأكثرية في حزبه من دون شروط، ويقول: «وضعت شرطين، الأول قلت أنا إذا ذهبت إلى بغداد سوف أنزع الملابس الكردية وأضع العباءة العراقية لأنني سأجسد الشخصية العراقية وسأكون رئيسا للعراق وليس للأكراد، والشرط الثاني كان هو أن يحظى ترشيحي بقبول القوى السياسية الأساسية في العراق، وقد حظينا بهذا القبول والتأييد، حيث كان الائتلاف العراقي موافقا، وكذلك القائمة العراقية برئاسة الدكتور إياد علاوي، وقسم كبير من جبهة التوافق كانوا مؤيدين هذا بالإضافة إلى التحالف الكردستاني، ثم صارت هذه التركيبة للرئاسة والتي تتكون من الرئيس، أنا، ونائبي الرئيس، ونلنا أكثر من ثلثي الأصوات في البرلمان، وأقسمنا على القرآن الكريم على صيانة الدستور ووحدة واستقرار العراق».

«مام جلال» كان قد مارس في السليمانية تجربة الرئاسة، رئاسة الإقليم من هناك، على الرغم من أنها كانت تجربة محدودة وغير موسعة مثل رئاسته لعموم العراق، ويوضح قائلا: «في كردستان وعندما كانت هناك حكومتان، واحدة في أربيل والأخرى في السليمانية، كنت أنا رئيس الإقليم في السليمانية، وعندما كنا في أربيل لم أتقلد أي منصب، بل كنت الأمين العام للاتحاد الوطني، وكان في فترة من الفترات الدكتور فؤاد معصوم رئيس الحكومة، ثم كوسرت رسول، بينما أنا كنت الأمين العام للحزب، على الطريقة السوفياتية القديمة».

وطريق «مام جلال» إلى رئاسة الجمهورية جوبه باعتراضات، هناك من اعترض على ذهابه إلى بغداد، وأولهم زوجته هيرو خان، ويعترف بذلك قائلا: «في كردستان اعترض كثيرون على ذهابي إلى بغداد، بدءا بزوجتي ومرورا ببعض قيادات الاتحاد الوطني، وفي بغداد لم ألاحظ، علنا، أي معارضة على ترشيحي، لكن لا أدري ماذا كان موقف التيار الصدري، هل صوتوا معنا أم ضدنا، ولو أنهم في العلن ودودون معنا، وبعض القوميين في جبهة الوفاق، حيث لا أعرف كم شخصا منهم صوت لنا، أما الإدارة الأميركية فقد أيدت ترشحي للرئاسة لأنهم كانوا يرون أني الأصلح لهذا المنصب، لكن في ظل حكم بريمر (بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق بعد 2003) فقد كانت هناك معارضة لأن يتسلم كردي القيادة، وكان بريمر يرى أنه يجب أن لا يكون رئيس الحكومة أو الجمهورية كرديا، لكن السفير الأميركي زلماي خليل زاد كان موقفه على العكس من موقف بريمر. حتى في مجلس الحكم، وأنا كنت عضوا فيه، عارض بريمر أن أكون رئيسا للجمهورية، ولهذا رشحنا غازي الياور. نحن لم نكن طامعين بأي منصب، لكننا كنا نعترض على المبدأ ونقول إن من حق أي عراقي أن يكون في أي منصب، شرط أن تتوفر فيه الشروط».

ويشرح الرئيس طالباني نهج بريمر في حكم العراق فيقول: «كان مصرا على مشاركة الأكراد في العملية السياسية، لكن كانت هناك اختلافات في وجهات النظر حول الدستور ومن يترأس العراق».

ويقارن الرئيس العراقي بين سياسة جاي غارنر وخليل زاد وبريمر فيقول: «في بداية الوجود الأميركي كان جاي غارنر ومعه خليل زاد، الذي كان سفير أميركا لدى المعارضة العراقية، وكان رأيه وراي غارنر تشكيل حكومة وطنية عراقية مؤقتة بعد سقوط النظام السابق مباشرة ورشحوني أنا لرئاسة هذه الحكومة، وجاء غارنر وخليل زاد إلى هنا في دوكان وعرضا علي وعلى الأخ مسعود بارزاني الذهاب إلى بغداد لتشكيل الحكومة، وبالفعل ذهبنا إلى بغداد حيث كانت آمنة، واستقر بارزاني في فندق بينما أجرنا نحن بيتا في حي المنصور، والتقينا بالمعارضة العراقية، وهم المجلس الأعلى وحركة الوفاق والمؤتمر الوطني وحزب الدعوة والحزب الشيوعي، واقترح خليل زاد إضافة أسماء من الداخل إلى تشكيلة المعارضة، فاقترحنا نصير الجادرجي وعبد الإله النصراوي، وكانت هناك شكوك حول هل هذا هو رأي الإدارة الأميركية لتشكيل حكومة مؤقتة أم هذا رأي غارنر وخليل زاد، لهذا تم جمع القيادات العسكرية والحكومية الأميركية وكذلك البريطانية ومندوب وزارة الدفاع الأميركية في فندق في بغداد وأعلن هؤلاء موافقتهم على تكليفنا بتشكيل الحكومة المؤقتة، ومر شهر من دون أن نشكل الحكومة، حتى تم إرسال بريمر وسحب غارنر وخليل زاد من العراق، وجاء بريمر الذي بدأ يتصرف وكأنه نائب الملك وأن من حقه أن يفعل ما يشاء في العراق، فألغى فكرة تشكيل حكومة مؤقتة، ثم جاء قرار مجلس الأمن الذي اعتبر العراق محتلا وأعطى القوات الأميركية حق التصرف كمحتلين للعراق، وهذه كانت الغلطة الأميركية الكبيرة الأولى».

ويرى طالباني أنه لو كانت الحكومة قد تشكلت لتغير الوضع الأمني في العراق، حيث اكتشف العراقيون أن الأميركيين جاءوا كمحتلين وليسوا منقذين أو محررين، وهناك حاكم مدني باسم الاحتلال، حتى إنني أتذكر خلال اجتماع لنا مع القيادتين الأميركية والبريطانية، خاطب الدكتور أحمد الجلبي البريطانيين الذين أيضا كانوا يعارضون تشكيل حكومة وطنية مؤقتة، فقال لهم: إن مِسْ بيل كانت أفضل منكم لأنها جاءت عام 1922 وشكلت حكومة وطنية وأنتم اليوم تعارضون تشكيل هذه الحكومة». وأنا أعتقد أن هذه كانت نقطة بداية الخلاف بين الجلبي والاحتلال. وعندما سألناه عما ورد في كتاب بريمر (سنة في العراق) عن القيادات الكردية، أجاب: «بريمر لم يكن أمينا في كتابه الذي يحتوي على كثير من المغالطات».

لقد عرف عن الرئيس طالباني عدم التزامه بالبروتوكول، خاصة مع أصدقائه من قادة الدول أو الضيوف، فهو يتصرف مثلما كان بلا أية تغييرات، هو أراد أن يغير الصورة النمطية لرئيس الجمهورية في الشرق الأوسط، أو لنقل ما هو متعارف عليه في العراق على الأقل؛ يخرج مع فريق حماية مختصر، يستقبل ضيوفه بنفسه ويودعهم حتى باب بيته، يفرح عندما تخاطبه بـ«مام جلال»، يمسك بيدك ويقودك حيث يجلس. وعندما سألته عن سبب خروجه عن البروتوكولات، أجاب قائلا: «أنا خرجت كرئيس عن البروتوكول وعن نمطية صورة الرئيس، أنا لم أشعر بأي اختلاف عندما صرت رئيسا للجمهورية، ولماذا هذا الاختلاف، الرئاسة مسؤولية ومنصب يمارسه الرئيس، أنا اعتقد أن الإنسان يعطي القيمة للمنصب وليس العكس، فأنا لم أغير سلوكي سواء في الرئاسة أو خارجها كإنسان وكجلال طالباني. فأنا أمارس مسؤولياتي كأمين عام حزب سياسي عراقي كردي، وكذلك مسؤولياتي كرئيس للعراق ولا أجد صعوبة في التوفيق بين مسؤولياتي لكونها متقاربة، فهي مسؤوليات وطنية تهم العراق وشعبنا بالدرجة الأولى». لكن طالباني يعترف وبصوت عال، بأنه يجد صعوبة في كونه رب عائلة، ذلك أن مسؤولياته السياسية والرئاسية لا تمنحه كثيرا أو حتى قليلا من الوقت للقاء العائلة، يقول: «لكن الصعوبة في كوني رب عائلة، فأبنائي خارج العراق، وزوجتي هيرو خان تنتقل ما بين بغداد والسليمانية، لهذا كان أحد أسباب إصراري على البقاء في السليمانية هو لغرض جمع العائلة وأن أكون بينهم».

كان العراقيون في عهد نظام صدام حسين يتداولون النكات السياسية همسا وبحذر بالغ، بل بالغ جدا، فالنكتة وقتذاك يمكن أن تقود إلى الإعدام أو السجن المؤبد أو التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، لكن «مام جلال» فاجأ العراقيين عندما ظهر على شاشة التلفزيون وهو يروي النكات التي قيلت عنه، بل إن هناك بعض النكات هو ألفها عن نفسه، ومن يعرف الرئيس طالباني قبل أن يكلف بمسؤولية رئاسة جمهورية العراق، فإنه سيدرك أن «مام جلال» لم يتغير، فهو كان يروي النكات منذ أن كان مقاتلا في الجبل أو زعيما لحزب سياسي أو واحدا من أبرز قادة المعارضة، ويخبرنا الدكتور فؤاد معصوم الذي عاصره عبر فترات حياته المختلفة، قائلا: «إن مام جلال كان ربما هو الوحيد الذي يروي النكات أمام ملا مصطفى بارزاني أو يمزح معه».

والمقربون من الرئيس طالباني يعرفون أن «مام جلال» يلجأ إلى النكتة أو رواية حادثة ظريفة كلما اشتدت النقاشات في قضية ما من أجل تهدئة الأجواء، ويروي عنه أحد المقربين الذين شاركوا في وفد المحادثات بين القيادة الكردية ونظام صدام حسين، أن النقاشات اشتدت حول كركوك، فما كان من طالباني إلا أن يقترح استراحة لشرب الشاي والاسترخاء ومن ثم مواصلة الحوار، وخلال الاستراحة أراد طالباني أن يروي نكتة عن جحا الذي يسمونه في الكردية ملا نصر الدين، فقال: «في يوم من الأيام كان ملا نصر الدين، الذي يعرف بين العرب باسم جحا، بينما هو كردي واسمه ملا نصر الدين»، وهنا احتد علي حسن المجيد وقال: كاكا جحا عربي وينحدر من أصول عربية من الكوفة وهو ليس ملا نصر الدين ولا كرديا. ولما شاهد «مام جلال» أن علي المجيد احتد لمجرد تغيير تسمية جحا إلى ملا نصر الدين فإنه (طالباني) قرر أن يذهب إلى نهاية المشوار ليسخر من المجيد فأصر بأن جحا كردي وأنه من أصول كردية، وهنا قال المجيد «كاكا حتى جحا تريدون أن تأخذوه من عندنا»، فابتسم طالباني وقال بهدوء: «كاكا علي تعطوننا كركوك وتأخذون جحا».

ومن يذهب للقاء «مام جلال» فإن خير هدية يحملها له هي نكتة جديدة سواء عنه أو عن غيره، سألناه عن الكيفية التي غير فيها الاتجاهات فحول الأمور، من رئيس جمهورية يعدم كل من يقول عنه نكتة إلى رئيس هو من يروي النكات عن نفسه، فقال: «هذه مسألة طبيعية، فالرئيس بشر، وليس مخلوقا خارقا أو يختلف عن البشرية، اليوم أنا رئيس وغدا سأكون الرئيس السابق، لماذا تجعل الرئاسة الشخص متكبرا ومختلفا، أنا إنسان طبيعي وأحب النكات سواء على نفسي أو على غيري، وهذا منذ ما قبل الرئاسة».

الرئيس طالباني يتمنى اليوم أن يتقاعد من مهمته كرئيس لجمهورية العراق، لكن التيارات السياسية والقادة السياسيين الأساسيين في العراق يصرون على بقائه كونه رجل الوفاق والوئام الوطني، وعندما سألناه حول ما إذا كان الرئيس الذي سيخلفه كرديا أم عربيا، قال: «ليس شرطا أن يكون رئيس العراق كرديا، وإنما يجب أن يكون بالإضافة إلى ما يتمتع به من مميزات إنسانية وسياسية وبقية المؤهلات المطلوبة، يجب أن يكون رجل الوفاق الوطني ومقبولا من قبل التيارات الرئيسية في البرلمان، وقادرا على تقريب وجهات النظر، ولعب دور في المصالحة الوطنية، وكذلك لعب دور في تحقيق حكومة الوحدة الوطنية عن طريق التقريب بين وجهات النظر بين الكيانات المختلفة في العراق. أما فيما يتعلق بالرأي الآخر؛ وهو أنه يجب أن يكون الرئيس عربيا فهذا يخالف مفهوم الوحدة الوطنية، فالشرط الأساسي في مفهوم الوحدة العراقية هو أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، لهذا لكل عراقي الحق في أن يكون رئيس جمهورية أو رئيس وزراء لو توفرت له شروط هذين المنصبين. استثناء الكرد من هذا المنصب أو ذاك بحجة أنه كردي هو استثناء شوفيني لا يتناسب مع مفهوم الوحدة الوطنية ويحمل روح التعصب القومي المعادي للكرد. أنا أود أن أقول إن تولي الكرد مناصب رئيسية في الوطن العربي ليس جديدا؛ لنلاحظ كم رئيس جمهورية سوري كان من الكرد ولم يجر الاعتراض عليه لأنه كردي وإنما جرى الاعتراض على سلوكه أو على أدائه أو على مواقفه، هذا الاعتراض بدعة جديدة ظهرت مع العفلقية في العالم العربي. العفلقية كوباء، حسب ما اسميها أنا، جلبت مجموعة من الأفكار الشوفينية المعادية والمشتتة لوحدة الشعب والمعادية للأصول الديمقراطية. نلاحظ في البلدان المتقدمة أنه يحق للمتجنس الحصول على أعلى المناصب من دون الاعتراض على أصله، فلماذا لا يكون في العراق حق للجميع بأن يتبوأوا المراكز المهمة إذا كانت المؤهلات متوفرة لديهم. يجب أن نعترض عندما يأتي الرئيس بواسطة الانقلابات العسكرية وعن طريق صعود الدبابات وتغيير نظام الحكم رغما عن إرادة الشعب، لكن عندما يكون الرئيس مختارا من قبل الأغلبية البرلمانية له الحق في أن يكون ما يشاء».

ويعتقد الرئيس طالباني أن عصر الانقلابات العسكرية قد انتهى في العراق، ويقول: «أنا أعتقد أن عصر الانقلابات العسكرية التي تأتي برئيس بقوة السلاح والدم قد انتهى، اعتقد أن العصر كله لم يعد يتقبل الانقلابات العسكرية، لا أقول إنه ليس هناك احتمال حدوث الانقلاب في البلدان المتخلفة وأن يركب بعض الضباط رؤوسهم ويرتكبوا عملا ديكتاتوريا بواسطة الانقلاب، ولكني أقول إن عصر الانقلابات العسكرية قد انتهى. ويؤسفني أن أقول إن عصر الانقلابات العسكرية في العراق قد افتتحه ضابط كردي هو الفريق بكر صدقي الذي كان معاونا لرئيس أركان الجيش في الثلاثينات ولكنه استجاب لطلب من قبل الزعماء التقدميين العراقيين العرب، أمثال المرحومين جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي، الذين تولوا السلطة بعد هذا الانقلاب وكانت هذه بداية سيئة، فالعولمة اليوم لا تقبل بقيام انقلابات عسكرية».

ويؤكد الرئيس العراقي على مبدأ المشاركة في العراق، ويوضح بقوله: «نحن نريد أن نعبر عن طبيعة تركيب الشعب العراقي، لقد أقر العهد الملكي بوجود قومية كردية في العراق، النجمتان اللتان كانتا موجودتين في العلم العراقي في العهد الملكي كانتا ترمزان إلى القوميتين العربية والكردية، وعلى طول العهد الملكي كان الكرد يتولون مناصب رئيسية في الدولة كرئيس وزراء أو وزير دفاع أو رئيس أركان الجيش، حتى إن ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 استهلت بالمادة السادسة التي تقول إن العرب والكرد شركاء في العراق، وكان يطلق على العراق تسمية جمهورية العرب والأكراد، لم نسمع أن العراق جمهورية عربية بحتة إلا من قبل الشوفينيين العرب الذين دمروا البلد بالمؤامرات، والدستور العراقي ينص على هذه الشراكة وفقرة المشاركة العربية الكردية كانت مأخوذة من برنامج هيئة المؤتمر الوطني العراقي الذي كان يضم الوطنيين الديمقراطيين وحزب الاستقلال القومي العربي والجبهة الشعبية، هذه العبارة كانت القاسم المشترك بين جميع العراقيين قبل طغيان النزعات الشوفينية والعفلقية، لهذا، اعتمادا على منطلق الشراكة، يحق للأكراد أن يتبوأوا هذا المركز أو ذاك».