من ذاكرة المام ـ رئيس ـ طالباني: مفاوضات 1983 مع صدام كانت الأنجح.. لكن الأتراك أفسدوها في اللحظة الأخيرة

الرئيس العراقي يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن ذكرياته.. ويكشف: بدأنا بالعمل على تغيير النظام منذ 1968 وشاركنا في كل محاولات الانقلاب (الحلقة 2)

الرئيس العراقي جلال طالباني مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في بغداد عام 1991 خلال جولة المفاوضات الثانية («الشرق الأوسط»)
TT

في واحدة من المناسبات التي استقبل فيها الرئيس جلال طالباني مقاتلي البيشمركة القدامى، الذين قاتل البعض منهم إلى جانبه في الجبل، وخلال استراحة قصيرة تقدم مقاتل كبير في السن يدعى «حمه حزب» وهو يحمل بندقية قديمة بعض الشيء، لتحية «مام جلال»، فقال له طالباني مازحا «أنا زعلان عليك، لماذا بعت بندقية البرنو التي أهديتها لك؟»، فأجابه «حمه حزب»، وهو طويل القامة ونحيل وذو شارب أشيب، بلا تكلف: «مام جلال لقد حدث ذلك قبل سنوات طويلة، وأنا ما زلت أحمل البندقية دفاعا عن الثورة، ثم إنك الآن رئيس العراق ولم تعد تخلق لنا المشكلات في الجبل مثلما كنت، والدنيا بسلام»، فضحك الجميع بمن فيهم طالباني الذي أوضح لنا قائلا: «هذا من المقاتلين الذين كانوا معي ولم يتردد يوما عن توجيه النقد لأي شخص بما فيهم أنا»، ثم قبل «حمه حزب» رأس «مام جلال» كما يقبل ابن العشيرة شيخها وجلس إلى جانبه. ما لفت نظرنا هو أن طالباني لا يزال يتذكر رفاق السلاح والجبل بأسمائهم ولم ينس أيّا منهم، كما يتذكر أعضاء حزبه من الذين ناضلوا معه. كانت هذه مناسبة ليتناول طالباني طعام الغداء مع رفاقه القدامى وبعد أن شربوا الشاي دخلوا إلى قاعة الاجتماعات في منتجع دوكان، ذلك أن «مام جلال» لا يتعب من الاجتماعات، وبين اجتماع وآخر يستقبل بعض الوفود أو الضيوف، حتى إن المقربين منه يقولون إن «مام جلال إذا تعب من اجتماع دعا إلى اجتماع آخر ليرتاح»، وذات يوم استمر طالباني في رئاسة أكثر من خمسة أو ستة اجتماعات في دوكان، حيث بدأ الاجتماع الأول الساعة التاسعة صباحا، وانتهى الاجتماع السادس الساعة الحادية عشرة ليلا، وبعد كل هذه الاجتماعات والمشاغل يخرج مبتسما. وفي هذه الحلقة يتحدث الرئيس طالباني عن اجتماعاته وتاريخ مفاوضاته مع نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.

في مناسبات كثيرة، وحتى من دون مناسبة، يؤكد «مام جلال» عمق انتمائهم كأكراد إلى العراق، وأنهم جزء لا يتجزأ من الشعب العراقي، وأن مشاعرهم الوطنية لا تقل عن أي عراقي وطني، بل إن أول هدف كان للثورة الكردية هو «الديمقراطية لكل العراقيين والحكم الذاتي للأكراد»، حدث هذا حتى عندما كان صدام حسين يشن الحروب على القرى الكردية، ففي عام 1983 وبينما كان الجيش العراقي منشغلا بالحرب العراقية الإيرانية، أعلن الاتحاد الوطني الكردستاني وقف القتال من جانب واحد. يقول طالباني «في عام 1983 أوقفنا نحن القتال مع القوات الحكومية من طرف واحد، حيث كانت الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة، ولاحظنا أن إيران حررت أراضيها من سيطرة القوات العراقية ومجلس الأمن دعا إلى إيقاف القتال ووقف إراقة الدماء، لكن الجانب الإيراني أصر على مواصلة الحرب واحتلال العراق، ونحن لم نوافق على أن تحتل دولة أجنبية أية أراض عراقية، وبالتالي فإن قتالنا ضد القوات العراقية سوف يضعفها في مواجهة القوات الإيرانية والتصدي لها إذا أرادت احتلال بلدنا، لهذا أردنا للجيش العراقي أن يطمئن بأننا لن نضربه من الخلف أو نشغله وهو يؤدي واجبه بالدفاع عن الوطن، خاصة أن علاقات كانت تربطنا مع بعض الضباط الأحرار في الجيش العراقي، وكنا ننسق معهم من أجل تغيير النظام، وكان بقناعتنا لو أن إيران أوقفت الحرب وطالبت نظام صدام حسين بالتعويضات كان الجيش العراقي سيعاقب النظام لأنه أدخلهم في حرب عبثية وسبب لهم الهزيمة وكبدهم الخسائر مقابل لا شيء»، وأضاف يقول: «أنا لا أتحدث انطلاقا من تصورات أو أوهام، بل كانت لنا علاقات مع ضباط كبار في الجيش العراقي وضباط محسوبين على الخط اليساري في حزب البعث وكانوا على استعداد للعمل على تغيير النظام، وكنا نحن سنكون جزءا من عملية التغيير».

في أول لقاء بين طالباني وعزة الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، يسأل الدوري طالباني عن عدد المرات التي حاول فيها الأكراد الانقلاب على النظام، فيجيبه طالباني، وبكل ثقة «كثيرة». ويقول طالباني: «كنا نحاول باستمرار تغيير النظام حتى إن مرة سألني عزة الدوري قبيل إجراء مفاوضات مع حكومة البعث وقال: بشرفك هل هناك محاولة انقلابية لم تشتركوا بها؟، فأجبته: لا والله نحن شاركنا في كل المحاولات الانقلابية ضدكم»، وأضاف «بدأنا نعمل على تغيير النظام منذ انقلابهم في 17 يوليو (تموز) 1968، وبعد أيام قليلة من ذلك، حيث تأكدنا من انفرادهم بالحكم، لهذا بدأنا نعمل على الانقلاب عليهم نحن والبعثيين اليساريين الموالين لسورية والحركة الاشتراكية العربية، إذ كان النظام وحزب البعث ضعيفين، وقد فاتحنا بعض الضباط في الجيش العراقي للعمل على تغيير النظام لكنهم لم يستجيبوا وتأخرت محاولاتنا لكنها لم تنقطع. ولم ننجح بسبب عدم توفر وسائل التنفيذ، فمثلا أنا فاتحت قائد فيلق مهم للقيام بالانقلاب لكنه اعتذر وقال لا بد من آخذ رأي عبد الرزاق عارف، وعندما ذهب لأخذ الموافقة كان عارف قد اعتقل من قبل البعثيين»، وأضاف مسترسلا أن «آخر محاولة كانت قبل سقوط النظام بفترة قليلة، حيث كان معنا بعض الضباط في الجيش، وكان منهم عبد الكريم الحمداني ومعه أحد الإخوة من قبلنا وبالتنسيق مع قوة عسكرية كانت موجودة في بغداد، لكن المحاولة تم اكتشافها وأعدم الحمداني ومعه أحد رفاقه، وكانت المحاولة ستنجح لولا أن الإخوة الذين كانوا سينفذون الخطة كانوا يتحدثون بكلمات مشفرة في اتصالاتهم الهاتفية التي كانت مراقبة فشكت أجهزة صدام بالأمر وتم القبض على الجماعة التي كانت ستنفذ الانقلاب».

لكن موقف الاتحاد الوطني بوقف القتال من جانب واحد في عام 1983 على الرغم من أنهم كانوا يتمتعون بقوتهم وتأثيرهم العسكري، فتح الباب للمفاوضات مع نظام صدام حسين، ويتحدث طالباني عن ذلك قائلا: «من جانبنا بدأنا مرحلة جديدة من المفاوضات مع النظام، حيث قاد المفاوضات من جانبنا الدكتور فؤاد معصوم، بينما ترأس الوفد الحكومي المفاوض من جانبهم علي حسن المجيد، وفي الجلسة الأولى التي كان قد حضرها صدام حسين، قال لي سأعطيكم ما يرفع رأسكم أمام أكراد تركيا وإيران. وقلنا لنرَ».

ويتفاءل الوفد الكردي المفاوض بالوصول إلى حلول إيجابية، حيث يقول طالباني: «في هذه المفاوضات توصلنا تقريبا إلى اتفاق في كل النقاط ما عدا نقطتين، الأولى موضوع حدود كردستان، فقد كان النظام يسميها منطقة كردستان للحكم الذاتي، والنقطة الثانية عدد قوات البيشمركة، إذ جاء إلينا عزة الدوري وعلي حسن المجيد إلى منطقة سرداش حيث كان مقرنا هناك، واتفقنا على كل النقاط، وضمنها حل أفواج الفرسان، أو من كانوا يسمونهم أفواج الدفاع الوطني (وهي مجاميع من المقاتلين الأكراد التي كانت تتعاون مع الحكومة) بشرط أن لا نتعرض لرموزهم، وبقيت نقطتا الحدود والبيشمركة، فقال الدوري تعالوا إلى بغداد لأن هذه ليست من صلاحياتنا، فذهبت إلى بغداد واجتمعت مع صدام حسين بوجود عزة الدوري والمجيد، فقال صدام أنا موافق على ما توصلتم إليه من اتفاق ولو أنه ليس قليلا أن أرضى بحل مجموعات تعاونت معنا، وكان يقصد أفواج الدفاع الوطني، ثم سألني قائلا: الآن أريد أن أسمع منك، ماذا تبقى؟، فقلت له: هل تتذكرون وعدكم بأن تعطونا ما يرفع رأسنا أمام أكراد تركيا وإيران؟ قال: نعم أنا على وعدي، قلت: حتى ترفع رأسنا أمام أكراد تركيا نرجو إضافة قضائي شيخان وعقرة إلى منطقة الحكم الذاتي، فقال: أنا موافق، قلت: وحتى ترفع رأسنا أمام أكراد إيران فنرجوا إضافة قضائي خانقين وكفري إلى منطقة الحكم الذاتي، قال: موافق ولكن نؤجل قضية خانقين حتى نهاية الحرب كونها الآن هي منطقة عمليات عسكرية، وبعد نهاية الحرب تضاف إلى منطقة كردستان للحكم الذاتي».

وقال طالباني إنه «حول عدد قوات البيشمركة، قال (صدام): بقدر ما تستطيع أن تنظم نحن موافقون، فقلت: 50 ألف مقاتل، فقال: مثلما تريد، ثم أضاف: على بركة الله وتصافحنا، وقال لي: شد حيلك والقائد يجب أن يكون جريء ولا يخاف أي شيء، ثم سأل عن موعد التوقيع على الاتفاق، فكان اليوم الذي اتفقنا به هو الثلاثاء، فاقترح صدام حسين أن يتم التوقيع يوم الخميس، فقلت له: لنجعله يوم السبت لأن الإخوة في دهوك وأربيل والسليمانية من أجل جمع أسماء أعضاء المجلس الوطني (البرلمان) العراقي وقتذاك، والحكومة كانت قد أجلت الإعلان عن موعد الانتخابات في انتظار مرشحينا، فقال: إذن يوم السبت، ثم اتصل أمامي بلطيف نصيف جاسم وزير الثقافة والإعلام، وقال له: حضروا أنفسكم هناك احتفال يوم السبت وجلال طالباني معي، هل فهمت ما أعني؟، وكنت أسمع الحوار بينهما، إذ أجابه جاسم: أي نعم فهمت سيدي».

وقال طالباني: «ثم دعونا في اليوم التالي للغداء ويوم الجمعة جاءوا إلى فندق شيراتون لزيارتنا، وصباح يوم السبت اتصلت بعزة الدوري وسألته: أبو أحمد هل نأتي؟ حيث كان يوم توقيع الاتفاقية، فقال: نعم تفضلوا، وذهبنا حيث كان في انتظارنا عند باب القصر الجمهوري، أوصلنا إلى مكتبه وقال: هذا مكتبكم وتصرفوا براحتكم، أنا سأذهب لآتي بالإخوة من أجل توقيع الاتفاقية».

ولكن هل تم بالفعل توقيع الاتفاقية؟ ينفي طالباني ذلك قائلا «بعد فترة عاد الدوري ليس مثلما ذهب، بلا حماس وجلس ببرود خلف مكتبه، فسألته عن الأمر فقال: إن الجماعة يقولون هناك نقطة أخيرة يجب أن نحلها، فسألته عن أية نقطة يتحدث، فقال: موضوع الجبهة الوطنية، ويجب أن تدخلوا في الجبهة الوطنية، قلت له: إن الرئيس صدام حسين قال نحن بحثنا مع الشيوعيين على مدى عامين من أجل دخولهم للجبهة، وليكن مع الإخوة (ويقصدنا) أن نتحاور سنة واحدة»، ويضيف طالباني قائلا: «لكنني لم ألاحظ عليه أية ردة فعل، كنا نعرف أن وفدا تركيا عسكريا يزور بغداد ذلك اليوم، فقلت له: أبو أحمد يبدو أن الأتراك خربوا الاتفاق؟، ذلك أننا نعرف أن تركيا غير راغبة بأن توقع الحكومة العراقية معنا أي اتفاق كي لا نحصل على حقوقنا وبالتالي سوف يضغط عليهم أكراد تركيا ويطالبون بحقوقهم أسوة بنا، وقد هدد الوفد التركي الحكومة العراقية بأنها إذا وقعت الاتفاق مع الاتحاد الوطني الكردستاني فإنها سوف توقف حركة الاستيراد والتصدير، وكانت تركيا متنفسا لدخول أنواع البضائع ولتصدير النفط في وقت كان الحصار يغلق كل الأبواب بوجه العراقيين، فأجابني الدوري بقوله: اللعنة على الأتراك وعلى من جاء بهم إلى هنا». وقال طالباني إن الدوري «التفت إلينا وقال: أرجو أن لا تنتهي المفاوضات بيننا، فقلت: لا لن تنتهي! ثم طلب منا أن لا نبدأ القتال، وقال: أرجو أن لا تعاودوا القتال، فقلت له: نحن لن نعاود القتال طالما الجيش العراقي يقاتل ومنشغل في الحرب، بعد ذلك يعود الأمر لكم فيما إذا ستمنحوننا حقوقنا أو نتقاتل، فقال: شكرا لهذا الموقف الوطني ونرجو أن لا تخربوا علينا الانتخابات البرلمانية، فقلت: نحن لن نتدخل في موضوع الانتخابات إذا لم تتحرشوا بنا وتصلون إلى مناطقنا، وقد كانت لنا مناطق محررة، فوعد بعدم الوصول إلينا».

وقال طالباني: «وهكذا انتهت هذه الجولة من المفاوضات، بعد ذلك تأكدنا بما حدسنا به وهو أن الوفد التركي هدد الحكومة العراقية بقطع الطريق بين تركيا والعراق، وأن الحكومة العراقية خضعت للتهديد التركي وتراجعت عن وعودها، ونحن عندما نقول الحكومة فإنما نعني صدام حسين، ثم إن الولايات المتحدة كانت قد قطعت وعدا للعراق بمنع إيران من احتلال الأراضي العراقية، وأن نظام صدام حسين باق ولن يتغير، وهذا ما جعلهم يطمئنون وبالتالي شعروا أنهم ليسوا بحاجة إلى توقيع الاتفاقية معنا».

ولكن ماذا كان سيحدث لو أنكم وقعتم الاتفاقية مع الحكومة العراقية يوم الخميس مثلما اقترح صدام حسين، أي قبل وصول الوفد العسكري التركي، ترى هل كانوا سيلتزمون بها؟ أجاب طالباني قائلا: «نحن أيضا فكرنا بهذا السؤال، وقلنا لو لم نؤجل التوقيع حتى يوم السبت، ترى ماذا كان سيجري؟ وكانت الإجابة واضحة بأن صدام كان سيتراجع عن الاتفاق مقابل خضوع العراق للتهديدات التركية».

يتحدث طالباني عن الدوري، نائب صدام حسين، ويصفه على العكس ما كان يشاع عنه، فيقول: «كان عزة الدوري على عكس ما يشاع عنه، فهو رجل ذكي ويعرف ما تريده الحكومة أو النظام، لكنه كان مخلصا بصورة مطلقة لصدام حسين ومحدود الصلاحيات، لهذا لم يكن بيده أي قرار، فالقرارات النهائية وفي كل الأمور كانت بيد صدام حسين». ويوضح طالباني أن «أكثر من يكره الأكراد ويحرض ضدهم في القيادة الصدامية هما علي حسن المجيد (ابن عم صدام) وحسين كامل (صهر صدام)».

ويشير طالباني إلى أن «إحدى أخطر نقاط ضعف صدام حسين هو أنه كان يفكر بكسب الجيران مقابل عدم إعطاء الأكراد حقوقهم المشروعة، لاحظ أنه فرط بشط العرب في اتفاقية الجزائر من أجل أن يكف شاه إيران عن مساعدة الثورة الكردية، وخضع للتهديدات التركية من أجل إرضائهم وخنق الأكراد، وبدلا من أن يهتم بالعامل الداخلي ويرضي شعبه ورعاياه وبلده وبمنح الحكم الذاتي للأكراد وينفذ وعوده التي قطعها لهم راح يتنازل للأجنبي»، وأضاف «لو كان قد منح للأكراد، وهم عراقيون، حقوقهم كان جنب العراق التنازل عن حصة كبيرة في شط العرب وبعض الأراضي لإيران، كما كان جنب الشعب العراقي خوض الحرب العراقية الإيرانية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من شبابنا، ودمرت البنية التحتية، وهذه الحرب هي التي قادت صدام حسين إلى غزو الكويت، التي كان نتيجتها قيام التحالف الدولي بقصف العراق وفرض الحصار عليه».

ويصف طالباني جولة المفاوضات هذه باعتبارها ستكون الأنجح لو تحققت، ويقول: «كانت هذه الجولة من المفاوضات قد سادتها روح الصراحة، ولو كانت قد تحققت، ولو أن صدام حسين كان جادا، لحمى العراق من مصائب كثيرة، ففي هذه الاتفاقية تحدثنا عن كركوك، وصدام كان صريحا معنا، وليس مثل طارق عزيز أو علي حسن المجيد اللذين كانا يناوران ويلفان ويدوران، بينما صدام كان مباشرا للغاية».

ويستطرد طالباني، قائلا: «صدام حسين كان يعرف أني أنحدر من كركوك، وذكرته بخطابه الذي كان قد ألقاه في أربيل، الذي عفا خلاله عني بسبب استقبال عائلتنا الطالبانية لأجداده عندما هربوا من تكريت إلى كردستان، وعل حد قوله: عاشوا سنتين معززين مكرمين (أجداد صدام) في سهول ووديان كردستان، فهو أطلق على المناطق التي كانت تقيم فيها عائلتنا تسمية كردستان، وعائلتنا كانت تقيم في كركوك، جنوب قضاء داقوق، وهذا يعني أنه اعترف بأن حدود كردستان تبدأ من هناك، ولو كانت عائلتنا تقيم في منطقة التون كوبري لكانت حدود كردستان وحسب اعترافه أيضا تبدأ من التون كوبري»، وأضاف مؤكدا: «بالخلاصة، هذا يعني أن كركوك تقع ضمن حدود كردستان، بالطبع هو سمع رأيي هذا الذي كنت قد صرحت به في إحدى جولات المفاوضات، فقال لي: اسمع كاكا جلال، أنا لا أقول إن كركوك ليست كردستانية، ولا أقول إنها عربية، كركوك ليست عربية، لكنها مدينة عراقية، وأنا أعرف أن كركوك ستكون العامل الاقتصادي لانفصالكم عن العراق، وأنا لا أريد أن أغير هوية كركوك وإنما أنا حريص على عدم انفصالكم عن العراق وعلى الوحدة الوطنية، لذلك أنا غير موافق على ضمها لحدود كردستان لكنني موافق على شروطكم التي تتعلق بتطبيع الأوضاع في كركوك، مثل عودة الأسماء الكردية للأحياء والشوارع، ويعود المهجرون الأكراد إلى مناطقهم في كركوك، وإعادة المرحلين العرب إلى مدنهم في وسط وجنوب العراق، وإعادة الموظفين الأكراد المفصولين إلى وظائفهم، واستخدام اللغة الكردية، ثم إن إدارة كركوك تكون مشتركة، فإذا صار المحافظ عربي فيكون رئيس البلدية كردي، وإذا صار مدير الأمن عربي، فإن مدير الشرطة كردي، وهكذا، فقلنا: نحن موافقون على ذلك».

وقال طالباني إن صدام «أضاف صلاحيات جديدة إلى قانون الحكم الذاتي، وبهذه التفاصيل كانت ستخرج الاتفاقية لو كانت قد وقعت». وقال طالباني: «وحول موضوع الديمقراطية، قال صدام: موافق، أنتم حلفاؤكم الحزب الشيوعي، وأنا أدعوهم للعودة إلى الجبهة الوطنية وأن يكون الحكم ائتلافيا بيننا. لكن للأسف كل هذا انتهى بسبب التهديدات التركية وطمأنة الأميركان لصدام حسين بأنهم لن يسمحوا بسقوط نظامه».

ونسأل «مام جلال» ما إذا كان صدام حسين هو أول مسؤول عراقي كبير قد أطلق تسمية كردستان على المناطق الكردية، فيقول: «صدام حسين لم يكن أول رئيس أو مسؤول عراقي يطلق على مناطق شمال العراق تسمية كردستان، وهذه التسمية كانت موجودة منذ تأسيس الدولة العراقية، وكان الملك فيصل الأول يسميها كردستان، والحكومات العراقية المتعاقبة كلها استخدمت هذه التسمية بلا حرج، ففي 1930 أسست الحكومة مديرية معارف كردستان وكان مركزها في كركوك وكانت تشرف على جميع مدارس أربيل والسليمانية ودهوك، وهذا تأكيد آخر على أن كركوك تقع ضمن حدود كردستان، وكان نوري السعيد وجعفر العسكري ومحسن السعدون يطلقون على مناطقنا تسمية كردستان وكان هذا أمرا طبيعيا، وهذه التسمية لم تكن ممنوعة في العهد الملكي ولا في العهد القاسمي، وصدام كان غالبا ما يقول كردستاننا العزيزة، بل كان يطلق على أربيل تسميتها الكردية ويسميها (هولير) وكان يتودد كثيرا للأكراد ويعتبر نفسه مهندس الحكم الذاتي، بل وارتدى الزي الكردي، وكنت أنا قد بعثت له هذا الزي كهدية له وهي عبارة عن بدلة فلاحية، وعندما عرف ذلك سألني عن سبب إرسال بدلة كردية فلاحية له، فقلت لأنكم تنحدرون من وسط فلاحي وغالبا ما تدافعون عن الفلاحين في أحاديثكم».

وعندما سألنا الرئيس طالباني ما إذا كان قد التقى الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعد اعتقاله أم لا، وهل كان سيعفو عنه وينقذه من عقوبة الإعدام؟، أجاب قائلا: «عندما تم اعتقال صدام حسين لم أجد سوى أن أردد ما قاله الشاعر الكبير الجواهري: «بئس الشماتة شيمة»، أما أن أعفو عن صدام أم لا فهذا الحق لمجلس الرئاسة ولم يكن ـ وحتى الآن ـ لي الحق في أن أتصرف بصورة فردية، نحن في مجلس الرئاسة نتكون من الرئيس ونائبين، وقراراتنا جماعية وبالتصويت، وأرجو أن تعرف بأني من المحامين الموقعين دوليا على النداء الدولي لإنهاء حكم الإعدام في العالم».

في عام 1983 تفاوض الاتحاد الوطني الكردستاني مع الحكومة العراقية لوحده وبغياب الحزب الديمقراطي الكردستاني، حسبما يوضح طالباني، ويضف أنه في «عام 1991 كان الوفد الكردي مشتركا ويضم بالإضافة إلى ممثلين عن الحزبين الديمقراطي والاتحاد الوطني، شخصيات سياسية من أحزاب كردية أخرى مثل الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي، وكان الوفد الأول برئاستي والثاني برئاسة الأخ مسعود بارزاني».

بعد حرب عاصفة الصحراء التي حررت فيها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الكويت من القوات العراقية شعر صدام حسين بالضعف، وكعادته، أو اعتمادا على فلسفته المعهودة، فهو عندما يشعر بضعف نظامه أو وضعه الداخلي يلجأ إلى الأكراد طالبا التحاور لغرض حل القضية الكردية، لكن ما أن يشعر بالقوة حتى يلغي هذه المفاوضات ويقاتل الأكراد، وهكذا كانت خاتمة اللقاءات بين طالباني وصدام حسين عام 1991، وحسبما يوضح بقوله: «آخر لقاء لي مع صدام حسين كان بعد تحرير الكويت عام 1991 حيث ذهبت أنا إلى بغداد مرة، ثم ذهبنا ثانية والتقينا به وكانت هناك مفاوضات قدمنا خلالها عدة أوراق ومقترحات كانت تصب حول الديمقراطية وإجراء إصلاحات في النظام إضافة إلى مقترحاتنا حول القضية الكردية، وكان صدام قد وافق على النقاط الأربع المهمة؛ وهي حقوق الإنسان، وتطبيق النظام الديمقراطي، والحكم الذاتي لكردستان، وتطبيع الأوضاع، كل هذه النقاط وافق عليها، كان النظام متجاوبا مع مطالبنا حتى إننا توصلنا إلى حل لقضية كركوك، ثم شكلنا لجانا وكان الدكتور فؤاد معصوم هو الذي أدار المفاوضات عنا لكنهم تراجعوا في آخر لحظة عما كانوا قد وافقوا عليه في البداية»، وأضاف: «كانوا لا يزالون يشعرون بمرارة الهزيمة في الكويت عندما وافقوا على مقترحاتنا، لكنهم في الجولة الثانية من المفاوضات حيث وجدوا أنفسهم مستمرين بالسلطة تراجعوا».