من ذاكرة المام ـ رئيس ـ طالباني: في الجامعة أقمت علاقات مع بعثيين.. لكن لم يكن لديهم موقف واضح من قضيتنا

الرئيس العراقي يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن ذكرياته.. ويكشف عن محاولة لقاء مصطفى بارزاني بموسكو (الحلقة 5)

جلال طالباني في مؤتمر الطلبة والشباب العالمي في موسكو عام 1955 رئيسا لوفد طلبة كردستان
TT

حقق جلال طالباني الكثير، قياسا إلى عمره، فهو عضو لجنة محلية في أول وأكبر حزب سياسي كردي في العراق، ويقود تنظيمات في كويسنجق وأربيل وكركوك، وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، بل يعتقل وينفى إلى مدينة أخرى، إلى جانب كبار القياديين في الحزب الديمقراطي الكردستاني، ورغم ذلك يتفوق في دراسته ويحوز أعلى معدل في الثانوية العامة يؤهله، عن جدارة، للدراسة في كلية الطب بجامعة بغداد، أرقى كليات الجامعة في العراق على الإطلاق، وعندما ترفض السلطات الأمنية دخوله إلى كلية الطب، يختار الحقوق ليكون محاميا، وفي أول تجربة عمل كمحامٍ يقف في صف من العمال الذين يشتكون الشركة التي من المفترض أن يدافع عنها.

في بغداد التي يقيم بها طالباني كطالب في كلية الحقوق، وعضو اللجنة المحلية في حزب ممنوع، يوضع تحت أعين الأجهزة الأمنية، لكن هذا لم يمنعه من السفر إلى بولونيا والصين والاتحاد السوفياتي، ففي موسكو يعمل جاهدا من أجل اللقاء الأول بزعيم الثورة الكردية، ملا مصطفى بارزاني، فهل يتحقق هذا اللقاء؟ في هذه الحلقة يتحدث الرئيس العراقي عن أول سفر له خارج العراق، ودراسته في كلية الحقوق وكيف فصل منها.

تخرج جلال طالباني في ثانوية كركوك، وحصل على شهادة البكالوريا بتفوق، وبمعدل يتيح له أن يدرس في كلية الطب بجامعة بغداد، لكن الكلية لم تقبل انتسابه إليها، وحسبما يبين هو السبب، قائلا: «لم أقبل بكلية الطب بسبب عدم حصولي على ما كان يسمى (وثيقة حسن السلوك)، وكانت مثل هذه الوثيقة تصدر من جهة أمنية تسمى (دائرة التحقيقات الجنائية)، ولأنني كنت معتقلا لعدة مرات، حتى عندما كنت في كركوك، وخلال دراستي الثانوية اعتقلت مرتين، وكنت دائما تحت مراقبة الشرطة السرية، لهذا لم أتمكن من الحصول على وثيقة حسن سلوك، لهذا كان اختياري الثاني هو الدراسة في كلية الحقوق»، وأضاف قائلا: «دخلت كلية الحقوق في جامعة بغداد في العام الدراسي 1952 ـ 1953، ولم يترك عدم قبولي في كلية الطب أي تأثير، مع أنني كنت أستحق دخولها لأنني نجحت بتفوق، واعتبرت الموضوع مجرد انتقال من كلية إلى أخرى، ولأنني كنت أحب الحقوق بعد الطب، وأتمنى أن أصبح محاميا وأمارس المحاماة إلى جانب السياسة، فقد قررت الدراسة في هذه الكلية، وعندما تخرجت مارست مهنة المحاماة مرتين فقط، الأولى عندما تم القبض على إبراهيم أحمد وأدخل السجن عام 1960، عندما كان رئيس تحرير صحيفة (خابات)، حيث تطوعت، مع مجموعة كبيرة من المحامين، للدفاع عنه. وفي المرة الثانية كنت محاميا لشركة صاحبها رجل الأعمال الكردي المعروف رشيد عارف، وهو من الرعيل الأول من الديمقراطيين، وقد عينني في شركته لمساعدتي، وحتى أحصل على راتب جيد، وصادف أن تقدم 17 عاملا من الشركة بدعوة ضد الشركة، وطالبوا بتعويضات مادية، فذهبت أنا إلى المحكمة، باعتباري محامي الشركة، واعترفت بحق العمال في الحصول على التعويضات وقلت للقاضي: نعم.. هذا من حقهم، وصدر القرار بمنحهم التعويضات، وانتظرت حتى تم التصديق على الحكم من محكمة الاستئناف وأخذ الدرجة القطعية، أي أنه يجب تنفيذ قرار المحكمة، وبعثت المحكمة بقرارها إلى رئيس الشركة تطلب منه دفع التعويضات، كون القرار اكتسب الدرجة القطعية، وأن محامي الشركة اعترف بحق العمال بالحصول على التعويضات، فأرسل رشيد عارف بطلبي، وكان غاضبا جدا مني، وكنت أعرف السبب، وقد تحضرت للرد عليه، وعندما دخلت إلى مكتبه سألني قائلا: أفندي أنت محام عن الشركة أم محام عن البلوريتاريا؟ فقلت له بأني محامي الشركة، فقال: لماذا فعلت ذلك يا أفندي؟ فأجبته بأني فعلت ذلك دفاعا عن سمعتكم وسمعة الشركة، فأنا، ومنذ صغري، أعرفكم وأعرف أن رشيد عارف رجل ديمقراطي من الرعيل الأول، وأنت صديق كامل الجادرجي، وجعفر أبو التمن (ساسة عراقيون وطنيون ديمقراطيون في العهد الملكي)، وأنه يعز علي أن يشتكي عليك بعض العمال، وهذا يسيء إلى سمعتك كرجل تقدمي وديمقراطي، فما قيمة التعويضات البسيطة أمام سمعتكم التي تساوي أموال الدنيا، فهدأ ونظر إلي وقال: عفية خير ما فعلت».

في بغداد، المدينة الواسعة، اتسعت مهام طالباني، لا سيما أن وجوده في العاصمة بصفة مقيم وليس زائرا، أو مجرد مشارك في مؤتمر، يقول: «أصبحت عضو اللجنة المحلية للحزب، وبدأت أعمل في صفوف الطلبة، كما عملت بين الأكراد الفيلية لكسب أعضاء جدد للحزب. كانت تنظيمات الحزب سرية جدا لأن أعضاءه كانوا مطاردين، وكان الحزب ممنوعا، ويعد من الأحزاب الخطيرة، تماما مثلما الحزب الشيوعي، وكانت علاقاتي جيدة مع كل الطلبة، ومن جميع الأحزاب، ولأول مرة أنا بنيت علاقات مع مجموعة من الطلبة البعثيين الذين كانوا يدرسون في دار المعلمين العالية، وأتذكر منهم عبد الله سلوم السامرائي، وصارت لي لقاءات معهم، ثم نظمت لقاءات بين الطلبة الأكراد والطلبة البعثيين، كان ذلك في عام 1953، وكانت أحاديثنا عامة عن النضال العربي الكردي ضد الاستعمار والأخوة العربية الكردية، لكن لم يكن لديهم موقف واضح من القضية الكردية».

لم يكن، وقت ذاك، هناك أحزاب كردية سواء عراقية أو غير عراقية سوى الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وحزب آخر يحمل الاسم نفسه في إيران، وإذا كان طالباني قد ذكر بأن حزب البعث لم يكن لديه موقف واضح من القضية الكردية وقت ذاك، فإنه يلخص مواقف بقية الأحزاب السياسية العراقية من القضية الكردية، قائلا: «إذا عدنا إلى الأربعينات، حيث تمت إجازة الأحزاب في العراق، نجد أن موقف الحزب الديمقراطي العراقي تجاه القضية الكردية ينص على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، كذلك موقف الحزبين، الشعب والحزب الوطني الديمقراطي، كان موقفهما وديا ويعترفان بالأكراد وبحقوقهم، ولكن لم يتكرس لديهم هذا الموقف، أما موقف الحزب الشيوعي العراقي فقد كان واضحا، ومنذ 1935، أي في مرحلة تأسيسه الأولى، كان يحمل شعار استقلال كردستان، وفي الأربعينات رفع شعار المساواة بين الأقليات، هكذا أطلقوا عليها التسمية، الكردية واليزيدية والتركمانية، وانتقد الحزب الشيوعي، فيما بعد، لموقفه هذا، حتى من قبل أعضائه، حتى أن الشيوعيين أنفسهم قالوا إن الحزب اعترف في مقالاته بحقوق الشعب الكردي وحقه في تقرير مصيره والانفصال في الوقت المناسب ووفق مصالحه حتى قبل تحرير العراق من الاستعمار، حسب مقال مشهور للرفيق فهد (مؤسس الحزب الشيوعي العراقي)، لكن مع ذلك فإن برنامجه كان ينص على هذه المادة المذكورة التي تتناقض مع الحقائق (المساواة بين الأقليات)، وفي عام 1951 تم إصلاح ذلك فيما سمي بميثاق (بازل)، وأقر حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وتأسيس دولته المستقلة». وأضاف طالباني: «قبل أن يصل الحزب الشيوعي إلى هذا الموقف كان هناك حزب الشعب قبل أن يتحول إلى النضال السري، وقد غير اسمه إلى حزب وحدة الشيوعيين، وكان علي شريف، صاحب جريدة (الوطن) ومسؤول الحزب يكتب باسم مستعار وهو (النصير)، وتحت هذا الاسم نشر كراسا (كتيبا) عن المسالة الكردية في العراق، الذي أكد فيه حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وانتقد فيه موقف الحزب الشيوعي والقوى الشيوعية وقت ذاك حول القضية الكردية.

أما الأحزاب القومية العربية فقد كان هناك حزب قومي واحد وهو حزب الاستقلال، ولا يوجد أي نص واضح في أدبيات هذا الحزب عن القضية الكردية والأكراد، لكن هناك نص يقول إن الحزب يريد للقومية الثانية ما يريد لشعبه، وعلى كل حال لم يكن هناك أي موقف معادٍ للشعب الكردي في العراق».

كانت هناك أكثر من مهمة في انتظار طالباني، وأكثر من مسؤولية، وحسب توضيحه: «ففي يناير (كانون الثاني) عام 1953، نظمنا المؤتمر الثالث للحزب الديمقراطي الكردستاني، وقد انتُخبت في هذا المؤتمر عضو اللجنة المركزية للحزب، كان عمري 20 عاما، وقد كُلفت بتشكيل اتحاد طلبة كردستان، وفي فبراير (شباط) ذات العام، أي بعد شهر واحد من عقد المؤتمر الثاني للحزب، شكلنا اتحاد طلبة كردستان العراق الذي انتُخبت أمينا عاما له».

ويقول طالباني: «كان رئيس الحزب، ملا مصطفى بارزاني، لا يزال في موسكو، ولم تكن له علاقة مباشرة بالحزب، بل لم يرسل أي تعليمات، وكان المكتب السياسي هو الذي يدير الحزب، وكان إبراهيم أحمد، سكرتير الحزب موجودا، وكذلك ونوري شاويس، عضو المكتب السياسي، أما بارزاني فقد كنا نجدد في كل مؤتمر للحزب انتخابه رئيسا من غير أن يكون موجودا بيننا».

مرحلة الدراسة الجامعية كانت منحت الكثير من الفرص الجديدة لطالباني، وأبرزها كانت السفر إلى خارج العراق، حتى أنه يعترف قائلا: «خلال دراستي في كلية الحقوق سافرت، للمرة الأولى، إلى خارج العراق، كان ذلك عام 1955 للمشاركة في مؤتمر الطلبة والشباب العالمي في وارشو، حيث كنا أنا وبعض الشباب الأكراد ضمن الوفد العراقي، وقد وزعنا هناك على بعض الوفود هدايا كردية باسم الشباب الكرد، كما سمحوا لنا بإقامة احتفال، ودعانا إليه عدة وفود عالمية من بريطانيا، وفرنسا، والهند، والدول الاشتراكية، وبولونيا، والاتحاد السوفياتي، والصين الشعبية، والسودان، هذه الوفود لم تكن تعرف أي شيء عن الوضع الكردي ولا عن الشعب الكردي ومعاناته ونضاله، حيث ألقينا كلمات عن القضية الكردية ونضالات الشعب الكردي، وبهذه المناسبة قدمنا (دبكات) كردية لكن عدد الشابات اللاتي كن معنا كان قليلا، لهذا تطوعت بشرى برتو (شخصية تقدمية عراقية مهتمة بأوضاع المرأة)، حيث ارتدت الزي الكردي وساهمت ضمن فعالياتنا. وكان أبرز من حضر هذا الاحتفال هو الشاعر التركي المعروف ناظم حكمت، الذي أعطى حضوره أهمية وتميزا لاحتفالنا وللمؤتمر ككل، بل إن خطابه كان محط اهتمام جميع الوفود المشاركة، إذ أبدى تعاطفا كبيرا مع القضية الكردية، ودعا إلى تحرير شعب كردستان، وقال: أنا أطلب من الشباب الكردي أنهم عندما يرفعون علم كردستان فوق أراضيهم أن يدعوني لأرى بعيني هذا اليوم التاريخي المشهود. هذه الكلمة أثرت كثيرا في بقية الوفود، لهذا كان كل وفد يلقي كلمته يقول فيها: نساند نضال الشعب الكردي وندعم قضيته التحررية. سواء كانت تلك الوفود تعرف القضية الكردية أو الشعب الكردي أو لا تعرفه»، وأضاف: «كنا نحن أكراد العراق الوحيدين الذين قدمنا أنفسنا كطلبة وشباب أكراد، وانفردنا بفعالياتنا، بينما كان هناك أكراد من إيران وسورية ضمن الوفدين الإيراني والسوري، ولم يهتموا بتقديم القضية الكردية لأنهم كانوا من الحزبين الشيوعيين، الإيراني والسوري، وكانت حاضرة أيضا زوجة عبد الرحمن قاسملو قادمة من إيران».

فتح مؤتمر الطلبة والشباب العالمي في وارشو الباب على مصراعيه أمام طالباني الذي مثل الطلبة الكرد باعتباره الأمين العام لاتحاد طلبة كردستان، كما مثل القضية الكردية خير تمثيل، وعلى أثر ذلك، يقول طالباني: «وجهت الصين دعوة لي، وباسمي، لزيارتها، كما وجهوا دعوة إلى عضو عربي عراقي معنا في الوفد، أي أنهم دعوا كرديا وعربيا إلى جانب وفود أخرى من دول مختلفة. وبعد انتهاء أعمال مؤتمر الشباب العالمي في وارشو ذهبنا إلى الصين بواسطة القطار، مرورا بالاتحاد السوفياتي»، ويواصل مام جلال حديثه عن هذه الرحلة التاريخية في حياته قائلا: «وصلنا إلى الصين، وبقينا شهرا هناك، وقمنا خلال ذلك بفعاليات عدة باسم طلبة وشباب كردستان».

كان أكثر ما يشغل طالباني، وقت ذاك، هو لقاء ملا مصطفى بارزاني، زعيم الثورة الكردية، والرمز النضالي الكبير بالنسبة للكرد ولغالبية من العراقيين من غير الكرد، يقول: «خلال عودتنا بقيت في موسكو محاولا لقاء الملا مصطفى بارزاني، رئيس حزبنا الديمقراطي الكردستاني، الذي كان مقيما هناك، ولم أوفق في لقائه لكنني التقيت شخصية عراقية معروفة وهي محمد هاشم النجفي، الذي كان يذيع من راديو موسكو باللغة العربية، وكان تعرفي به عن طريق الصدفة، فبعد أن ضاقت بي السبل للوصول إلى بارزاني، ولم أكن أعرف عنوانه أو كيفية الوصول إليه، وفي أحد الأيام كنت أتمشى في شارع غوركي فسمعت شخصين يتحدثان باللغة العربية، اللهجة العراقية، وتعرفت على النجفي من خلال صوته، إذ كان يذيع يوميا برامج من إذاعة موجهة، وكنا نتابع هذه الإذاعة، وصار صوته معروفا لنا، لهذا مشيت خلفهما حتى سارعت ووقفت أمامهما وقلت: السلام عليكم أستاذ محمد مهدي، فقال لي: أنا لست محمد مهدي، في محاولة لإخفاء شخصيته لأسباب أمنية، فقلت له: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك، فإنا أعرفك من خلال صوتك، ونحن نسمعك يوميا من إذاعة موسكو، وأنا شاب كردي كنت مشاركا في مهرجان وارشو وذهبنا إلى الصين وعدت منها، وعرفته بنفسي باعتباري عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني، وأخبرته بأن رئيسنا، بارزاني، هنا وعندي رسالة مهمة يجب أن أوصلها له، لهذا أرجو أن تساعدني في الوصول إليه، ثم سألني عن اسم الفندق الذي أقيم فيه ورقم الغرفة، وقال: سآتيك غدا، ويبدو أنه تأكد من هويتي إذ جاءني في اليوم الثاني وقال إن ملا مصطفى موجود هنا ولكنك لن تلتقي به هذه المرة، وإذا عندك أي رسائل فسأوصلها له، وبالفعل أعطيته الرسالة ثم أخذني إلى راديو موسكو وألقيت كلمة من خلال الراديو باسم مستعار هو (حمة أمين)».

ويعرب طالباني عن أمنيته بلقاء بارزاني وقتئذ بقوله: «كنت أتمنى بالفعل مقابلة بارزاني في موسكو، لكن عدم تمكني من ذلك لم يخلق في داخلي رد فعل، ذلك أن النجفي منحني الكثير من الأمل عندما أخذ الرسائل مني وعاد ومعه بعض التوصيات من بارزاني إلى الحزب، كما أنه زودني بعنوان لشخص إيراني مقيم في ألمانيا الغربية ليكون صلة بيننا وبين رئيس الحزب عن طريق البريد، إذ نستطيع أن نرسل إلى بارزاني ما نريد من الرسائل عن طريق هذا العنوان، كما زودني بكلمة سر تمكنني من المقابلة في المرة القادمة، وشعرت أننا خلال هذه السفرة خلقنا اتصالا بيننا وبين ملا مصطفى بارزاني وبقية قادة الحزب الذين كانوا معه في موسكو، وعن طريق عنوان ألمانيا الغربية استطعت أن أكتب إلى الدكتور عبد العزيز شمزيني، وإلى المقدم مير حاج أحمد، الذي كان أحد قادة حزبنا، لكنني عدت إلى موسكو عام 1957، وخلال مشاركتي بمهرجان الشباب العالمي هناك استطعت أن التقي بارزاني، وهذه قصة سأرويها لاحقا».

لم يذهب مام جلال إلى وارشو بجواز سفره، فهو لا يملك جواز سفر، لأسباب أمنية، ولكن كيف تمكن من السفر؟ يجيب قائلا: «عندما سافرت إلى وارشو والصين كنت قد استخدمت جواز سفر عراقي ليس لي، إذ لم يصدروا لي جواز سفر، لهذا سافرت بجواز سفر شاب اسمه محمد صادق موسى، وهو من الإخوة الكرد الفيلية، وعدت بنفس الجواز إلى العراق، وبقيت مختفيا حتى عدت إلى الكلية، إذ تم القبض علي واعتقالي بسبب الكلمة التي ألقيتها من خلال إذاعة موسكو، وتم التحقيق معي حول هذا الموضوع، لكنني أنكرت تماما وقلت أنا ليس لي جواز سفر، ولم أغادر العراق فكيف وصلت إلى موسكو وألقيت كلمة من هناك، لكنهم أحالوني إلى المحكمة التي شكلت لجنة فنية للتأكد من صوتي وصحة الشريط الذي يحمل صوتي، والذي سجلته دائرة التحقيقات الجنائية، وبسبب عدم وضوح الصوت تماما والتشويش الذي ظهر في التسجيل فإن اللجنة قدمت تقريرها الذي يقول من الممكن أن يكون صوتي ومن الممكن أن لا يكون صوتي، ولأن الشك في المحكمة يفسر لصالح المتهم لهذا أفرجت عني المحكمة. ولغياباتي الطويلة عن الكلية، بسبب السفر، ومن ثم إلقاء القبض علي والتحقيق معي والمحكمة، فقد تجاوزت غياباتي السبعين يوما وفصلت من الكلية».

لم يكن موضوع فصله من كلية الحقوق بسبب الغيابات ليشكل عامل تأخير أو عائقا في مسيرته السياسية، إذ استغل ذلك للعمل بجهد أكبر داخل الحزب على أن يعود في العام التالي لإكمال دراسته في الحقوق، يوضح قائلا: «واصلت عملي داخل الحزب لأعود في السنة التالية (1956) لإكمال دراستي، وكان أن حدثت مظاهرات في بغداد ضد العدوان الثلاثي على مصر، وقد اشتركت بهذه المظاهرات وألقيت الكلمات على المتظاهرين وفي الاجتماعات الأخرى، فصدر على أمر إلقاء القبض، لكنني اختفيت لأنني كنت متأكدا بأنهم سيحيلونني إلى محكمة عرفية هذه المرة، وإذا أحالوني إلى مثل هذه المحاكم فإنهم سيعتقلوني هذه المرة، لأن المحاكم العرفية لم تكن تعترف بالقوانين القضائية، لكن المفاجئ هو أن كلية الحقوق، من جانبها هي الأخرى، قررت فصلي نهائيا بسبب غياباتي المتكررة، ومشاركاتي في المظاهرات، ولنشاطي السياسي، وبتهمة انتمائي إلى أنصار السلام (منظمة تابعة للحزب الشيوعي العراقي)، ولم يعارض قرار مجلس الكلية سوى الدكتور حسن الجلبي الذي كان أستاذي ودافع عني باعتباري طالبا متميزا، وقال إنه لا يوجد أي دليل بأنني عضو في أنصار السلام، ورفض التوقيع على قرار فصلي على العكس من الآخرين الذين وضعوا تواقيعهم على القرار».

ويقول طالباني: «على أثر ذلك اختفيت من سنة 1956، وحتى قيام ثورة 14 يوليو (تموز) 1958، مواصلا نضالي السياسي ومسؤولياتي الحزبية، كنت مختفيا ما بين كركوك والسليمانية، وفي الغالب كنت أبقى في مقر الحزب بالسليمانية، إذ كنت مسؤولا عن إصدار وطباعة جريدة الحزب السرية بواسطة جهاز (الرونيو)، ووقت ذاك بدأت مع مشوار الكتابة للجريدة، وفي عام 1963 كتبت كتيبا بعنوان (اتحاد طلبة كردستان لماذا؟) وكان باللغة العربية، ثم بدأت تدريجيا أكتب المقالات. وفي 1958 خرجت من الاختفاء وعدت إلى كلية الحقوق حيث أنهيت دراستي عام 1959، وكان بإمكاني أن لا أدرس سنة إضافية، فأنا كنت مفصولا من الكلية وأنا في الصف الرابع، والحكم الجمهوري الجديد منح سنة (ترفيع) لكل الطلبة، وهو ما أطلق عليه وقت ذاك (الزحف)، أي أن الذي في الصف الثالث يزحف إلى الصف الرابع، لكنني رفضت الاستفادة من هذا القرار، وصممت على أن أدرس السنة الأخيرة وأتخرج بشكل طبيعي، ولم أرض أن أكون محاميا بالزحف».