خبيران في الطب النفسي حققا ملايين الدولارات من بيع أفكار التعذيب القاسية لـ«سي آي إيه»

قدما تقنية «الإيهام بالغرق» وتمتعا بمعرفة وطيدة بنظام المعاملة الوحشية الذي مارسه الشيوعيون الصينيون

TT

كان كلٌّ من جيم ميتشيل وبروس جيسين، عالمين بمجال علم الطب النفسي ومن المتقاعدين عن العمل بالمؤسسة العسكرية، يبحثان عن فرص للنشاط التجاري، وعثرا على ضالتهما في وكالة الاستخبارات المركزية. داخل الوكالة، تحول العالمان عام 2002 إلى العقل المدبر وراء صياغة أهم برنامج للتحقيق في تاريخ الجهود الأميركية لمكافحة الإرهاب. الملاحظ أن ميتشيل وجيسين لم يضطلعا بنفسيهما قط بعملية التحقيق، وإنما اقتصر دورهما على محاكاة جلسات التحقيق خلال عمليات تدريب المسؤولين العسكريين التي أشرفا عليها. يذكر أن الدراسات الأكاديمية التي قاما بها لم تكن ذات صلة بهذا المجال، وإنما تناولت رسالتي الدكتوراه الخاصة بهما ضغط الدم المرتفع والعلاج الجماعي أو الأسري. علاوة على ذلك، فإنهما افتقرا إلى المهارات اللغوية والخبرة المرتبطة بتنظيم «القاعدة». بيد أنهما تمتعا بخبرة كبيرة بمجال علم النفس ومعرفة وطيدة بنظام المعاملة الوحشية الذي سبق وأن مارسه الشيوعيون الصينيون منذ عقود مضت. وبالنسبة لإدارة عاقدة العزم على إبداء الصرامة حيال من تسببوا بمقتل 3.000 أميركي، كانت هذه الخلفية كافية. وعليه، ساعد كل من ميتشيل وجيسين في قيادة الولايات المتحدة إلى صراع محتدم حول قضايا التعذيب والإرهاب والقيم لم ينته حتى الآن رغم مرور سبع سنوات. يذكر أن ميتشيل، الذي يتميز بلكنة جنوبية واضحة وثقة مفرطة بالنفس في بعض الأحيان، سبق له العمل كخبير مفرقعات بالقوات الجوية وتاجر. أما جيسين، فقد ترعرع بمزرعة بطاطا في إداهو، وانضم إلى رفيقه بالقوات الجوية لبناء شركة حققت ملايين الدولارات من بيع خدمات بمجالي التحقيق والتدريب لوكالة الاستخبارات المركزية. بعد سبعة شهور من إصدار الرئيس أوباما أوامره بإغلاق برنامج التحقيقات التابع للوكالة، لا تزال تداعيات البرنامج تستحوذ على الاهتمام. ومن المتوقع أن يتخذ المدعي العام، إريك إتش. هولدر، قرارا خلال الأسابيع القليلة القادمة حيال ما إذا كان ينبغي الشروع في تحقيق جنائي حول عمليات التعذيب التي وقعت، تحقيق من المحتمل أن يجري خلاله تفحص دور الطبيبين بدقة. وتشير التوقعات كذلك إلى إمكانية أن ينتهي مكتب شؤون آداب المهنة التابع لوزارة العدل من تقرير حول المحامين الذين أعلنوا قانونية أساليب التحقيق التي شملها البرنامج. على الجانب الآخر، من المقرر أن تصدر وكالة الاستخبارات المركزية قريبا تقرير يحمل انتقادات حادة لآخر أصدره المفتش العام بالوكالة عام 2004 حول البرنامج. من جانبه، أعرب الكولونيل ستيفين إم. كلينمان، المحقق التابع للقوات الجوية وضابط الاستخبارات، عن اعتقاده بأن وفاء الطبيبين النفسيين لوطنهما خلال الفترة اللاحقة لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي سادت مشاعر الذعر خلالها هو ما دفعهما للانحراف عن الطريق القويم في صياغة أساليب التحقيق. إلا أنه استطرد، مؤكدا أن النتيجة جاءت مأساوية بالنسبة للبلاد بأكملها، ولهم. وأضاف «أشعر أن الدافع الرئيسي وراءهما كان اعتقادهما أنهما يملكان المهارات ونفاذ البصيرة اللازمين لجعل الوطن أكثر أمنا. لكن الأناس الصالحين يمكن أن يؤتوا بأفعال مرعبة في الظروف المتطرفة». بيد أنه بالنسبة لوكالة الاستخبارات المركزية، وكذلك ميتشيل، 58 عاما، وجيسين، 60 عاما، بدا التحول في توجه الإدارات المتعاقبة هائلا، فعلى مدار سنوات عدة، أصر الرئيس جورج دبيلو. بوش في تصريحاته على قانونية برنامج التحقيقات وأثنى عليه لوقفه الهجمات ضد البلاد. على النقيض، أكد أوباما على أن وحشية هذا البرنامج تسببت في حشد مجندين لصفوف «القاعدة»، ووصف أحد الأساليب التي اعتمد عليها، وهي الإيهام بالغرق، بأنها تندرج تحت مسمى التعذيب. وخلال زيارته الأولى لمقر وكالة الاستخبارات المركزية، ألمح أوباما إلى أن برنامج التحقيق يعد واحداً من «الأخطاء» التي وقعت بها الوكالة. وجاء تحول الدوائر الرسمية ضد الطبيبين النفسيين سريعا، تماما كما كان صعود نجميهما عام 2002. اليوم، تبدو مكاتب شركة «ميتشيل جيسين آند أسوشتس»، التي تتخذ من مبنى أنيق عريق يعود إنشاؤه إلى قرن مضى ويقع بقلب واشنطن مقرا لها، خاوية في أعقاب إنهاء وكالة الاستخبارات المركزية عقودها مع الشركة على نحو مفاجئ الربيع الماضي. مع احتمالات فتح تحقيق جنائي تلوح بالأفق، عمد ميتشيل وجيسين إلى الاستعانة بمحامٍ شهير، هنري إف. شوكيل. من جهته، رفض شوكيل الإدلاء بتعليق. من ناحية أخرى، وفي إطار رسالة بعث بها عبر البريد الالكتروني في يونيو (حزيران)، قال ميتشيل، إن اتفاق الحفاظ على سرية المعلومات المبرم بينه وبين وكالة الاستخبارات المركزية يمنعه من التعليق. إلا أنه ألمح إلى أن عمله تعرض لتصوير خاطئ. عند وقوع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، كان ميتشيل قد تقاعد لتوه من آخر وظيفة عسكرية تقلدها، حيث عمل طبيبا نفسيا لوحدة نخبوية للعمليات الخاصة في نورث كالرولينا. وكان قد شرع في تأسيس شركة تدريبية تدعى «نوليدج وركس»، قام بإدارتها من منزله الجديد في فلوريدا. لكن بالنسبة لشخص بخبرة ميتشيل، بدا واضحا أن الحملة ضد «القاعدة» ستثمر فرصا عديدة. وبالفعل، شرع في بناء تعزيز صلاته داخل الدوائر العسكرية والاستخباراتية. حسبما أخبر به أصدقاؤه، نشأ ميتشيل فقيرا في فلوريدا، وانضم إلى القوات الجوية عام 1974، سعيا وراء خوض مغامرات جديدة. وخلال عمله تمركز في ألاسكا، حيث تعلم كيفية إبطال المفرقعات وحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في علم النفس. من جانبه، أشار روبرت جيه. ماديغان، بروفسور علم النفس بجامعة ألاسكا، الذي عمل عن قرب معه، إلى أن ميتشيل زاره بعد سنوات عدة. بحلول ذلك الوقت، كان ميتشيل قد أنجز رسالة الدكتوراه بجامعة ساوث فلوريدا عام 1986، التي قارن خلالها بين الحمية الغذائية والتدريبات الرياضية بالنسبة للسيطرة على التوتر المفرط. وكان يعمل في ذلك الوقت بصفوف القوات الجوية في سبوكين. وقال: «أتذكر أنه قال، إنهم يعدون لتحقيقات مكثفة». يذكر أن التدريبات على البقاء بالنسبة لأبناء القوات الجوية جرى تعزيزها عام 1966، في قاعدة فيرتشايلد الجوية بالتلال الواقعة خارج سبوكين. حملت التدريبات اسم «البقاء والمراوغة والمقاومة والهرب»، وباتت تعرف اختصارا باسم «إس إي آر إي». وركزت هذه التدريبات على تنمية مهارات الطيارين لتجنب الوقوع بالأسر، علاوة على تلقينهم السبل المثلى للتصرف حال حدوث ذلك. في الثمانينات، أصبح جيسين طبيبا نفسيا متخصصا بهذا المجال التدريبي بمدرسة فنون البقاء التابعة للقوات الجوية، حيث عمل على تفحص المعلمين الذين أدوا دور المحققين التابعين للعدو داخل مبنى جرى استخدامه في محاكاة السجون، والتأكد من أن معاملتهم القاسية للمتدربين لا تتجاوز الحد المسموح به. بمرور الوقت، أصبح ميتشيل وجيسين جزءاً مما يطلق عليه بعض مسؤولي وزارة الدفاع «مافيا المقاومة»، التي تضم خبراء بكيفية مقاومة التحقيقات التي يجريها العدو. وتقلد الطبيبان رتبة لفتنانت كولونيل وكلاهما متزوج وله أبناء. في الوقت الذي نظر إليهما الكثير من العاملين تحت إمرتهما باعتبارهما ذكيين وشخصيتين قياديتين قديرتين، نظر إليهما بعض أقرانهما من الأطباء النفسيين بارتياب. داخل المدرسة التابعة للقوات الجوية، اشتهر ميتشيل بفرضه معايير السلامة على التحقيقات. وربما يشعر منتقدوه بالدهشة لدى علمهم أنه ألغى تكتيكا يدعى «التعامل الخشن» لتسببه في إصابات بالرقبة لدى البعض، حسبما قال أحد زملائه. داخل مدرسة فنون البقاء، يذكر الكثيرون جيسين لإقدامه على تغيير غير اعتيادي في عمله، حيث تحول من طبيب نفسي مشرف إلى محاكاة دور المحقق العدو. في إطار هذا الدور، اتسم جيسين بقدر بالغ من العدائية لدرجة دفعت أقرانه للتدخل لكبح جماحه، وحرصوا على إطلاعه على شرائط مصورة لأدائه «المرعب»، حسبما قال أحد المسؤولين. من ناحيتهم، نوه مسؤولون سابقون وحاليون على صلة بتدريبات «البقاء والمراوغة والمقاومة والهرب» بأن التدريبات ترمي لمحاكاة أساليب الأعداء منعدمي الضمير. في هذا الصدد، أوضح مارك مايز، الطبيب النفسي الأول بمدرسة القوات الجوية، أنه من أجل إضفاء طابع واقعي على المبنى الذي يحاكي السجن، حرص المسؤولون على استشارة أسرى أميركيين عادوا للتو من المعسكرات المفزعة بفيتنام الشمالية. وعلق مايز بقوله: «كان واضحا أن هذا ما نتوقعه من أعدائنا. ولم أكن أتخيل أن يقدم أميركيون على فعل مثل هذا الأمر قط». في ديسمبر (كانون الأول) 2001، تجمع عدد صغير من أساتذة الجامعات ومسؤولي فرض القانون وضباط الاستخبارات خارج فيلادلفيا بمنزل أحد علماء النفس البارزين، مارتن إي. بي. سيليغمان، للتباحث في أمر التطرف الإسلامي. من بين الحضور كان ميتشيل، الذي حضر برفقة أحد علماء النفس العاملين بوكالة الاستخبارات المركزية، كيرك إم. هوبارد. خلال فترة استراحة، قدم ميتشيل نفسه إلى سيليغمان وأعرب عن إعجابه الشديد بكتاباته حول «انعدام الحيلة المكتسب». وقال سيليغمان إنه شعر «بحزن وصدمة» لدى علمه أن كتاباته جرى الاستشهاد بها لتبرير أساليب التحقيق الوحشية. جدير بالذكر أنه في الستينات، اكتشف سيليغمان أن الكلاب التي تعلمت أنه ليس بمقدورها فعل شيء لتجنب الصدمات الكهربية تفتر عزيمتها وتكتفي بالأنين وتتحمل الصدمات حتى بعد توفير فرصة أمامها للهرب. بمرور الوقت، اكتسبت فكرة انعدام الحيلة المكتسبة أهمية كبيرة في إطار جهود معالجة الاكتئاب النفسي لدى البشر. وجرت مناقشات عدة حولها في تدريبات فنون البقاء العسكرية. وقد حاول المعلمون عدم التمادي للدرجة التي تسفر عن ظهور شعور بانعدام الحيلة لدى المتدربين، نظرا لأن هدفهم الرئيس كان تقوية عزيمة الأفراد العسكريين حال سقوطهم أسرى لدى العدو.

* خدمة: «نيويورك تايمز»